عاطف محمد عبد المجيد يكتب: الثقافة هي المفتاح السحري

عاطف محمد عبد المجيد يكتب : الثقافة هى المفتاح السحرى
عاطف محمد عبد المجيد يكتب : الثقافة هى المفتاح السحرى

يُهدى الراحل د. جابر عصفور الطبعة الثانية من كتابه «عن الثقافة والحرية» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، إلى كل متمرد على شروط الضرورة من أجل الحرية، وفيه يقول إن الثقافة سلطة لها تأثيرها الفاعل فى حركة المجتمع، خصوصًا إذا وصفنا هذه الحركة من منظور تنموى تحديثي، أو حتى بمنظور الثورة التى تتكاثر أصوات الناطقين باسمها هذه الأيام.                     

عصفور الذى يرى أن فاعلية تأثير الأدوار التى تقوم بها الثقافة عملية معترف بها فى مفاهيمها المختلفة فكريًّا ومنهجيًّا، يشير كذلك إلى أن الفصل بين السلطة والثقافة أمر يستحيل حدوثه، مبينًا أن الثقافة معرفة والسلطة معرفة أيضًا، وأنه لا ثقافة ولا معرفة بدون سلطة، وليس هناك سلطة بدون معرفة.     

اقرأ ايضاً | ممدوح رزق يكتب: كل يوم تقريبًا: أحجية الضجر                           

هنا يتساءل عصفور: لماذا الاقتران فى عنوان كتابه هذا بين الثقافة والحرية؟ ويجيب بقوله لأن الثقافة مرادفة للحرية والشرط الأول لحضورها وازدهارها بوصفها أفقًا من الوعى المفتوح على المستقبل الواعد فى كل مجال.                                 

فى مقالاته هذه التى نُشرت من قبل فى عدة جرائد منها: الأهرام والشروق والحياة اللندنية، يكتب جابر عصفور دفاعًا عن حرية الثقافة والإبداع، وضد التمييز الاجتماعى والديني، كما تشمل بعض مقالاته رؤية مغايرة لثورة 1919، بوصفها الثورة التى أسست فى تاريخنا الحديث معنى الوطن الذى يتسع للجميع.

ما يثلج صدر الكاتب هنا هو أن عددًا من دول العالم الثالث أدرك أخيرًا أن الثقافة هى المفتاح السحري، والدواء الناجع، والحل الأمثل لكل أمراض التخلف وعوائق التنمية التى لا تزال ماثلة ومتحكمة فى مصائر أغلب أمم العالم الثالث، ذاكرًا أن هناك ما يسمى بثقافة الاستنارة وهى التى تعطى الأولوية للعقل وتنحاز إلى الابتداع على حساب التقليد، وتشيع مفهومًا موجبًا عن الإنسان القادر على صنع العالم الذى يحلم به بإرادته الخلاقة.

 هنا يذكر جابر عصفور أن هناك نوعين من الثقافة: ثقافة التقدم وهى ثقافة التنوع الخلاق والحرية والعدل وحق الاختيار والاختلاف وحرية التعبير والتفكير، وبين ثقافة التخلف التى تعتبر العائق الأساسى لدفع عجلة التنمية إلى الأمام، مؤكدًا أن ثقافة الإنسان هى التى تدفعه إلى تعميق علاقته بأخيه الإنسان، والتعاون معه فى كل مكان، وذلك بما يحقق حلم الإنسانية كلها.

علاقة مرتبكة

جابر عصفور الذى يثبت هنا أنه لا يمكن الحديث عن الثقافة مع تجاهل علاقتها المتبادلة بتحولات المجتمع السلبية أو الإيجابية، وذلك من حيث تبادل عمليات التأثر والتأثير فيما بينهما، يذهب إلى القول بأن الثقافة هى وعاء محايد يشير إلى أشكال الوعى الاجتماعى وتقاليد المجتمع وقيمه وعاداته وأعرافه، مضيفًا أن العلاقة بين المثقف والدولة لا تزال مرتبكة فى بعض الأذهان، ويصل هذا الارتباك إلى ذرى تطرفه فى عقل بعض الأصوليين الماركسيين والإسلاميين وغيرهم الذين يشبهونهم فى المنحى الفكرى.

خاصة فى تطرف عدائهم للدولة، ورفض العمل فيها والتعاون معها ما ظلت مناقضة لتصوراتهم التخيلية غالبًا، مؤكدًا أن ما يطمئن قلبه هو أن الإبداع الثقافى المستنير والمتحرر، فكرًا وأدبًا وفنونًا مختلفة، واصل حضوره المقاوم، ولم يكف عن كشف عمليات التمزيق الأيديولوجى ومحو الذاكرة التى حدثت للوعى الجمعي، بواسطة الكلمة والريشة والكاميرا والنغمة، على نحو يجعل من مفهوم الثقافة الإبداعية نفسها مفهومًا مقاومًا لا يكف عن التصدى لكل آليات القمع السياسى والاجتماعى والفكرى والدينى.                                         

هنا أيضًا يعلنها جابر عصفور صراحة قائلًا: إن هموم المثقفين العرب وهموم المثقفين المصريين واحدة، والتحديات والأخطار التى تواجههم واحدة فى الجوهر وإن اختلفت فى المظهر، معددًا من هذه الأخطار تحالف القوى الإظلامية مع الحكومات المستبدة، ذاكرًا أن إحياء الذاكرة الثقافية وإنعاشها هى إحدى مهام الطليعة المثقفة، كما يرى هنا الكاتب كذلك أن العلاقة بين المثقف الفاعل والدولة هى علاقة مواطنة، فالمثقف بعض الشعب المالك الفعلى لدولاب الدولة، ومن حقه أن يعمل فى أى مكان فيها.

وعى التفكير العلمى

هذا ويطرح جابر عصفور سؤالًا مهمًّا هنا عن الشكل الجديد الذى يمكن أن نتخيله لعلاقة ثقافية متكافئة بين مصر والأقطار العربية، مؤكِدًا أن الشكل الأمثل هو العلاقة التى لا تنفى العمق التاريخي، لكن تستبدل المستقبل بالماضى فى أفق مغاير يعود بالفائدة فى حالتى علاقة التعاون المتبادلة القائمة على التعاون البناء، أو فى حالة التنافس التى يمكن أن تزود الأطراف المتنافسة بالدافع إلى الإتقان والمزيد من الإجادة، مشيرًا إلى أن أهم التحديات المطروحة على الثقافة المصرية كى ترتفع بمكانتها هو أن تسعى إلى تغيير علاقات الإنتاج الثقافى وأدواته، وأنه إذا كانت حرية الفكر تؤدى إلى ازدهار الإبداع الروائى والمسرحى والسينمائي، فإن ارتقاء التكنولوجيا المستخدمة يؤدى إلى ازدهار توزيعى مواز للازدهار التأليفى.               

جابر عصفور الذى يطمئن إلى القول بأن مظاهر الثقافة المتقدمة تمتد من وعى التفكير العلمى إلى الوعى الاستثمارى لثروة المجتمع وحسن استغلالها وإدارتها، يجزم بأن الحكومات المتخلفة هى الأقل اهتمامًا بالثقافة، بمعنييها العام والخاص، مؤكدًا أن الثقافة المصرية تمر بكارثة لم يسبق لها أن واجهت مثلها من قبل، ومن علاماتها: التطرف الديني، انحدار التعليم، النظر إلى الفنون نظرة ريبة وشك، ذاكرًا أن إنقاذ الثقافة من هذه الكارثة يعنى إنقاذ العقل المصرى كله وانتشال الوعى الجمعى من الهوة التى سقط فيها.      

حق مقدس

وليس بعيدًا عن الثقافة يتحدث الكاتب هنا عن استقلال الإعلام قائلًا: إنه لا يتصور أن أى جهاز إعلامى يمكن أن يحقق نجاحًا فى العالم الثالث إلا بمقدار استقلاله عن الدولة حتى لو كانت هى الممول الرئيسى له، رافضًا أن يكون جهاز الإعلام جهاز دعاية للحكومات بالمعنى الساذج، بل أن يهتم بالمصالح العليا للأمة خاصة تلك التى تقترن بأهداف التقدم وقيم العدل والحرية والحرية المقموعة. كما يدعو عصفور إلى تطوير المنظومة الثقافية للدولة قائلًا: إن البداية تكون فى الاهتمام بالوعى المجتمعى الذى يرادف الثقافة بمعناها الواسع الذى يتغلغل ويؤثر فى كل جوانب المجتمع، بداية من كيفية احترام وسائل النفع العام ونهاية بكيفية إدراك الجمال وتذوق الفن الرفيع، وليس الفن الهابط الذى أشاعه الجهل والفساد والانحدار الفاجع فى مختلف أنواع القيم التى غادرتها معانى الحق والخير والجمال.                             

هنا وفى كتابه الذى يتوغل فيه إلى عمق قضايا تتعلق بالثقافة وبالفكر وبالحريات وبالإبداع الفنى والأدبي، يكتب جابر عصفور عن الأزهر والخطاب الديني، عن عقلية المنع والمصادرة، عن انتهاك حرية الإنسان والإبداع، عن التمييز ضد المسيحيين وضد المسلمين، عن تراجع الخطاب الديني، وعن ثورة 1919من منظور مغاير، ويرى أنه من شروط الحرية أن نتقبل حرية الآخرين ولا نقمعها، وأن نحترم ما ينتجه العالم من حولنا، ولا نصادره، وألا نفرض وصايتنا على جماهير القراء، أو من يتلقون الإبداع تحت أى حجة أو ذريعة، ذاكرًا أن حرية الإبداع بكل أنواعه حق مقدس فى الدولة المدنية الحديثة، وقد حرص الدستور على احترام هذه الحرية وحمايتها من الذين لم يتوقفوا عن انتهاكها.