خارج النص

حرب العقول... وجهاد العصر الحقيقى

د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد

قد يعتبر البعض الأمر هيناً، أو ينظر إليه آخرون على أنه نوع من الرفاهية، لكن الحقيقة أن المعركة الأكبر والأشرس التى نخوضها مصرياً وعربياً هى فى المقام الأول.. معركة الوعى.

الوعى هو الذى يحدد قراراتنا فى الحياة، وتوجهاتنا تجاه كل ما يحيط بنا، بداية من علاقتنا بأسرتنا، وانتهاء بإدراكنا للعالم، وإذا ما اختل ذلك الوعى، اختلت قراراتنا ومواقفنا ومشاعرنا، وبالتالى ارتبكت حياتنا.

المعركة الكبرى فى عصرنا الراهن هى الصراع بين بناء الوعى وبين محاولات تغييبه أو تزييفه، فلصوص الأوطان يتسللون إلى العقول بزعم دفاعهم عن الحريات والديمقراطية، يسحرون أعين الناس وعقولهم بشعارات براقة، فينساقون وراء مخططات الفوضى وسيناريوهات التفكيك بغير وعى.

يشككوننا فى تاريخنا، يغيرون نظرتنا لأنفسنا، يهيلون التراب على كل إنجاز تحقق، وكل عمل له قيمة، ويثير «الذباب الإليكترونى» القيل والقال حول أى شيء وكل شيء، فننشغل بالمعارك الصغيرة، ونغفل عن العمل الحقيقى، فتضيع الحقائق تحت ركام الجدل وغبار الصراعات التافهة.

الوعى هو الذى يدفع الشعوب إلى الحفاظ على أوطانهم، وتغليب العقلانية على قراراتهم، بينما غياب الوعى أو تضليله كفيل بأن يدفع بعض فئات تلك الشعوب إلى تخريب بيوتهم بأيديهم، ظنا منهم بأنهم يحسنون صنعاً!!

كم من جماعات وقوى تعيش فى أوطاننا وبين ظهرانينا، بينما ترتهن بمشاريع خارجية وتخدم مصالح غير وطنية، وقد استطاعت أن تزيف الوعى وتزين لبعض المضللين، الخراب باعتباره تغييراً إلى الأفضل؟!

وكم من أبواق للفتنة زرعوا فى رءوس البسطاء أفكاراً سوداء، جعلتهم يكفرون بحياتهم، ويجاهرون بالعصيان والتمرد، فلما تبينت الحقائق، صاروا يعضون أصابع الندم على ما اقترفت أياديهم بحق أوطانهم.

تشويه الواقع، و»تسويد» رؤية الناس لواقعهم ومستقبلهم، وإشاعة روح اليأس والإحباط فى نفوس البسطاء، بات أداة معروفة لجماعات التضليل وبث سموم الفتنة، ومن ورائهم من يحركونهم ويستخدمونهم لتحقيق مصالحهم ومآربهم، لأن الإنسان المحبط اليائس فريسة سهلة، وأرض خصبة لتقبل كل من يهمس فى أذنيه.

وإذا كانت محاولات تشويه الواقع تبدو مفهومة - وإن كانت غير مقبولة - من جانب أطراف لديها أغراض محددة، فإن تشويه التاريخ، وتزييف الماضى يبدو أمرا بحاجة إلى مزيد من التفسير والتوضيح، ولعل ما شهدناه مؤخرا من محاولة تزييف جزء من تاريخ مصر على إحدى منصات المشاهدة الرقمية ليس سوى فصل ضمن مسار ومشروع ممنهج لتزييف إدراكنا ووعينا بتاريخنا وماضينا.

هذا المسار لا يقتصر فقط على تزييف هوية صناع ذلك التاريخ، أو اصطناع حكايات لا أساس علمى لها حول من صنع تاريخنا وبنى حضارتنا، بل يمتد إلى إحداث نوع من الانفصال بين الماضى والحاضر، فيزرعون فى عقول الناس أن من صنعوا تاريخنا كانوا من «المتجبرين فى الأرض»، وأنهم كانوا «كفارا يعبدون الحيوانات»، ويتناسون أن كل الحضارات البشرية مرت بمراحل من التطور، وأن الحضارة المصرية القديمة أهدت للدنيا فكرة التوحيد، وأن كثيراً من المبادئ الأخلاقية التى وضعتها تلك الحضارة العريقة كانت أعمدة ومرتكزات أساسية تقوم عليها الأديان السماوية.

الإنسان الكاره لماضيه، المنفصل عن تاريخه، سيكون أيضا صيداً سهلاً لكل من يحاول استغلاله، لأنه يصبح أشبه بورد النيل، يطفو على السطح بغير جذور تربطه بأرضه، فيصير هشيماً تذروه الرياح، وتطيح به الأمواج أينما شاءت!

بناء الوعى هو جهاد العصر، هو المعركة الحقيقية التى علينا أن نبذل من أجل الانتصار فيها كل غالٍ ونفيس، فلا حاضر ولا مستقبل بغير وعى يقوم على العلم والثوابت الوطنية واحترام تاريخنا والانتماء لماضينا.