حكايات الهروب من جحيم الحرب السودانية إلى مصر المحروسة

موسم الفرار إلى الشمال

معبر أرقين البرى
معبر أرقين البرى

علا نافع

أصوات الأعيرة النارية لا تتوقف في شوارع الخرطوم والولايات المتاخمة، شبح الموت يحوم حول المنازل وينذر سكانها القليلين بين حين وآخر رغم هدنة وقف إطلاق النار، شاحنات عسكرية تحمل أفرادًا لا يُعرف إن كانوا ينتمون للجيش السودانى الوطنى أم للميليشيات المسلحة، متاجر ومحلات أغلقها أصحابها بأقفال حديدية، خشية التعرض للنهب والسرقة، وأوشكت السلع على النفاد، عائلات كاملة خرجت حاملة حقائبها فى رحلة فرارها، يهرولون للفوز بمكان داخل شاحنة ستقلهم إلى بورسودان أو أم درمان، ومنها تبدأ رحلة هروبهم إلى مصر سواء عبر معبر القسطل أو أرقين.

(منى. س) أم شابة لم تكن فكرة الهروب لمصر بذهنها، لكن مع تأجج الأوضاع وضعت خطة للنجاة بطفليها فى ظل وفاة زوجها وكونها العائل الوحيد لهما.. باعت مصوغاتها الذهبية ولملمت حاجاتها وحجزت كرسيين بإحدى الحافلات، وعقب عيد الفطر مباشرة خرجت من منزلها بخرطوم بحرى حاملة طفليها.. رحلت دون أن تودع صديقاتها أو جاراتها، فوقت الوداع هو الأصعب على الإطلاق بحد تعبيرها.

مخاطر الرحلة

وعلى مشارف مدينة أم درمان تتوقف الحافلات لاستقبال الفارين إلى مصر وتحديدًا لقرية اوادى كركرب بأسوان بعد عبور معبر أرقين البري، لكن شريطة دفع رسوم الكرسى التى زادت ووصلت لـ500 ألف جنيه سودانى (نحو 17 ألف جنيه مصري)، فحجة السائقين لزيادة الرسوم أن الحصول على البنزين بات صعبًا، فضلًا عن السير فى طرق وعرة ما يزيد مخاطر الرحلة، والأهم تعرضها لتفتيش مستمر، والمؤلم أن الركاب تناثروا فى ممرات الحافلة رغم دفعهم سعر التذكرة كاملًا، وتكدست الحقائب على الجانبين.

الرحلة التى كانت تستغرق سابقًا 14 ساعة حتى تصل لأسوان باتت تستغرق يومًا أو يومين، خشية التعرض لإطلاق النار أو قُطّاع الطرق.. تحتضن مُنى طفليها وتتمتم بآيات من القرآن داعية الله أن يحفظ ابنيها ويوصلهما لمصر آمنين مطمئنين.. لم تتوقف عن مداعبتهما وإطلاق قفشاتها لتهوِّن عليهما تلك المشاق، إذ لم تخبرهما بحقيقة الوضع بل قالت لهما إنهم مسافرون فى إجازة لمصر.. تتوقف الحافلة فى الولايات الصغيرة لتزويد المسافرين بالمؤن والماء، ما يبث الأمل فى نفس مُنى، فشعب السودان قادر على أن يتخطى تلك المحنة ولديه ثقة كبيرة فى جيشه.

ليلتان كاملتان لم تذق فيهما طعم النوم أو الراحة كما لم تتناول سوى وجبة واحدة من الخبز والجبنة تقاسمتها مع عجوز سودانية، أما طفلاها فقد غلبهما النوم طوال الرحلة ولم يدركا ما يمران به، وبوصول الحافلة لمعبر أرقين البرى تنفست الصعداء، ودب الأمل فى نفسها مجددًا، مع وجود متطوعى الهلال الأحمر المصري، يمدون يد العون للعابرين ويزودونهم بالماء والعصائر والأدوية والخدمات الطبية، لا تفارق الابتسامة وجوههم، وكذلك موظفو الجوازات وأفراد الأمن.

وبعد انتهاء الإجراءات التى استغرقت 12 ساعة وصلت إلى قرية كركر النوبية، ومنها تبدأ رحلتها إلى القاهرة بحثًا عن سكن وعمل خاص، يساورها الأمل أن تنتهى الحرب وتعود لبلادها مرة أخرى: الو انتهت الحرب اليوم سأعود إلى السودان بنفس اليومب.

سطو مسلح!

أما إيناس الأمير، تلك الفتاة العشرينية فلم تجد حلًا سوى الهروب إلى مصر للفرار من الحرب مصطحبة والدتها المسنة وشقيقها الصغير (11 عامًا) رافضة عروض أقاربها بمدينتى بحرى وحلفا بالإقامة لديهم، فطبول الحرب يمكنها أن تدق بأى مكان على حد اعتقادها.. انطلقت إلى مدينة أم درمان لتستقل الأتوبيس المتجه إلى أسوان، وأثناء رحلتها لأم درمان كانت ترى سطوًا مسلحًا على المتاجر والمحال التجارية من الميليشيات المسلحة ما بث الذعر فى قلبها، لكنها صممت على مواصلة الرحلة، الكرسى الواحد زاد سعره أكثر من ثلاثة أضعاف بعد الحرب ما عرضها لاستغلال السائقين ناهيك عن تكدس الأتوبيس بعشرات الأفراد ما جعل رحلتها كابوسًا مزعجًا.

وأثناء الرحلة إذ بركاب يصرخون قائلين: االمطر المطرب، لتتساءل إيناس عن معنى الجملة، فيرد عليها أحدهم بأن االمطرب كناية عن الميليشيات التى كانت تتجول بأحد الشوارع الجانبية.. عشرات العربات العسكرية متفحمة تجاورها محال منهوبة ومخلوعة أبوابها.. مبانٍ متصدعة وخاوية من أهلها.

لم تستطع إيناس التواصل مع صديقاتها بولايات السودان، فخدمة الإنترنت والاتصالات توقفت تمامًا، ما زاد من حزنها وآلامها، لكنها وجدت طوال الطريق عشرات السودانيين بمدينة شندى يُطمئِنون الركاب، ويقدمون لهم الماء والغذاء، ويعرضون عليهم المبيت بمنازلهم، ما أدخل السكينة لقلبها. الغريب أن هؤلاء الأهالى تشبثوا بالبقاء فى بيوتهم غير آبهين بخطر الموت، وبعد أكثر من خمس ساعات بالمعبر السودانى نجحت إيناس فى الدخول وتجاوز المعبر المصري.. االآن أستطيع الشعور بالأمان والراحةب هكذا همست فى أذن والدتها وشقيقها.

وكان لزامًا عليهم أن ينتظروا حلول الصباح لإنهاء إجراءات دخولهم لمدينة كركر النوبية عبر معبر أرقين، فافترشت إيناس الأرض بجانب والدتها وشقيقها داعية الله أن يُيَسِر لهم ما تبقى من رحلتهم.. وكان هناك مئات النساء والأطفال يجاورنها فى المجلس، بعضهم يعرض عليها الماء والطعام رغم قلته معهم، لكنها اعتذرت متعللة بقدرتها على التحمل. وبعد أكثر من عشرين ساعة وصلت لمدينة أسوان بمعاونة من أصدقائها المصريين الذين أطلقوا مبادرات لتوفير أماكن لإقامة المهاجرين بالمجان أو بمبالغ رمزية، لم يكن هناك حل سوى قضاء ليلة مريحة لحين سفرها للقاهرة بأحد القطارات المكيفة، فوزارة النقل المصرية زادت من أعداد قطارات اأسوان - القاهرةب فضلًا عن رحلات الطيران.

وفى اليوم الرابع بعد تركها وطنها استقرت إيناس مع أسرتها بإحدى المدن الجديدة لتبدأ حياة ربما تحمل لها ذكريات سعيدة، لكن دون أن تتوقف عن إطلاق تساؤلات عبر صفحتها على الفيسبوك عن وقت انتهاء الحرب بحسب توقعات أصدقائها وأقاربها.

جراج البستان

فـى جـــراج البســتان بالقاهــرة يحتضــــن الحافلات التى تقوم برحـلات من الخرطوم للعاصمة المصرية والعكس، جلس ياسين منتظـرًا وصــول شقيقته ووالدتـه علـى أحـر من الجمر قادمتين من شمال دارفور عبر معبر أرقين البرى، لا يتوقف عن سؤال ابن جلدته اصالحب، أحد عمّال شركة السفريات، عن موعد وصول الأتوبيس من أسوان، فقد مر أكثر من ستة أشهر دون أن يحظى برؤية أسرته الصغيرة، وجاءت الحرب لتزيد الطين بلة، ويصبح من الصعب عليه مغادرة مصر. يعمل ياسين بائعًا بأحد محلات العطارة السودانية بحارة الصوفى وسط القاهرة، يتابع عن كثب تطورات الحرب فى السودان داعيًا الله أن ينصر جيش بلاده على تلك االميليشيات المرتزقةب على حد وصفه لها، ويحكى لأصدقائه المصريين عن جرائم الميليشيات وكيف يصوبون نيران أسلحتهم فى صدور إخوانهم السودانيين من المواطنين العاديين دون رحمة.

يتذكـــر ياســـين بأســـى جـــارته اسعيدةب التى قتلت بطلقـة رصــاص من أحــد أفــراد الميليشيات بعد رفضها اقتحام منزلها بأحد أحياء أم درمان تاركة أربعة أطفال لا يزيد عمر أكبرهم على 15 عامًا. ويتمنى ياسين أن تغادر خالته ابهجةب للقاهرة حيث إن نسبة السودانيين بالقاهرة كبيرة ويعملون فى كافة الأعمال بحب وتفانٍ، كما أن هناك علاقة وطيدة تربطهم بأهلها، فالسودان ومصر دولة واحدة منذ قديم الأزل والدليل على ذلك أنها الدولة الوحيدة التى لم تغلق أبوابها فى وجههم.

الزول دقاش

وعلى مقربة من ياسين جلس صالح يدوِّن عدد المسافرين من القاهرة للخرطوم الذين وصل عددهم إلى 11 مسافرًا، مبررًا سفرهم بوجه تعلوه ابتسامة فخر برغبة هؤلاء المسافرين فى الموت داخل بلدهم وبالقرب من أهلهم.. يتجاذب أطراف الحديث بين الحين والآخر مع زملائه المصريين الذين يلقبونه بـاالزول دقاشب، ويؤكد لهم أن هذه الحرب ستنتهى قريبًا، فقدرة جيش بلاده ليس لها حدود.

أما محمد جمال، صاحب إحدى شركات الشحن والسفريات للسودان، فيؤكد أن حركة النقل عادت لطبيعتها مع سريان الهدنة بين طرفى الصراع، مؤكدًا أن المسافر للخرطوم مضطر للسفر أو يختار البقاء فى مدينة آمنة بعيدة عن الاشتباكات، والأهم أن الطرق البرية باتت تحت سيطرة الجيش وحماية أهالى الولايات المجاورة.

وعن رسوم السفر يقول: ارتفعت رسوم السفر من الخرطوم للقاهرة مع توقف حركة الطيران وتتراوح حاليًا بين 200 و450 دولارًا (نحو 350 إلى 500 ألف جنيه سوداني)، وفى المقابل انخفضت رسوم السفر من القاهرة للخرطوم بنسبة كبيرة.

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 3/5/2023

اقرأ أيضًا : باحث سياسي: انتشار قوات الشرطة في الخرطوم دلالة على الحسم العسكري بالسودان