كشفت الأيام الماضية تحديات درامية مختلفة، تحديات أسفرت عن إبداعات حقيقية لصناع الدراما والقوة الناعمة في مصر، تحديات بحجم المسئولية، تحديات كان لابد أن نتوقف أمامها وأمام نتائجها كثيرا، حتى تكتمل الصورة، وحتى نستطيع أن نضع نقاط على حروفها.
قبل أن نبدأ لابد من شكر كل صناع الأعمال الدرامية الذين شاركوا بالماراثون الرمضاني، الذي أثبت دون شك أن في مصر صناعة دراما حقيقية، صناعة بمفهومها الكبير والواسع، صناعة بها آلاف من العمال والفنيين والنجوم، بذلوا مجهودا كبيرا لإسعاد الجميع، والصناعة الفنية مؤشر قوي على قوة مصر الفنية التي مازالت تتربع على عرش الترفيه في العالم العربي رغم محاولات النيل منها، الصناعة التي تستطيع أن تقدم أكثر من 25 عملا دفعة واحدة للعرض في شهر واحد.
قبل أن نبدأ لابد وأن نشير إلى أن هناك اختلاف كبير في التعاطي مع الإنتاج الدرامي هذا العام، اختلاف بوعي شديد من الجميع، وهو الأمر الذي أضاف الكثير من الجدية على الأمر، وكرس لمفهوم حقيقي في الإنتاج المؤسسي. هناك شركة عملاقة لديها طموح كبير في تقديم محتوى درامي متنوع وفاخر ومحترم، هي “الشركة المتحدة”، وهناك محاولات جادة لمنتجين أفراد في تقديم محتوى مختلف شكلا وموضوعا.
قبل أن نبدأ لابد أن نذكر أنه لا خاسر اليوم في موسم “الفرحة الرمضاني”، حتى هؤلاء الذين لم يحالفهم الحظ في المتابعة الجماهيرية أو الإشادات النقدية سيتعلمون من الدرس ويعلمون قدر التحدي في السنوات المقبلة.. أثق في ذلك..
راهن عدد كبير من نجوم الدراما على تحدي المضمون المهم المفيد ونجحوا في تحديهم، على رأس هؤلاء النجمة منى زكي، التي جاءت متأخرة في النصف الثاني من شهر رمضان، لكنه كان ختاما يليق بها، وبالموسم المهم، من خلال مسلسل “تحت الوصاية”، المسلسل المختلف شكلا وموضوعا، المسلسل الذي إنحاز صناعه للفن وكان تحديهم الأكبر، المسلسل الذي أجتهد فيه الجميع أمام وخلف الكاميرا من أجل غاية واحدة هو المضمون الحقيقي الذي سيبقى لسنوات طويلة، خلطة تحت الوصاية هي خلطة الفن الحقيقي الذي يبدأ دائما بالكلمة والبناء المكتمل لسيناريو صاغه خالد وشيرين دياب ولا ينتهي بإدارة رشيقة من مخرج واع، هو محمد شاكر خضير، وضع عناصر متناسقة كـ”الفسيفساء” في “تابلوه” بديع عناصره الصورة المعبرة الأخاذة التي قدمها بيشوي روزفلت، والموسيقى البديعة التي قدمتها ليال وطفة، والمونتاج الأنيق الراقي الذي قدمه أحمد حافظ، والديكور الحقيقي الذي أستطاع توظيفه بنجاح محمد عطية، وبالطبع الأداء الواعي من كل عناصر المسلسل وعلى رأسهم منى زكي ومحمد دياب ورشدي الشامي وعمر الشريف وخالد كمال وأحمد خالد صالح ونهى عابدين ومها نصار وثراء جبيل وأحمد عبد الحميد ومحمد عبد العظيم.
يقف دائما النجم خالد النبوي في مكان مختلف، يعرف متى يبدأ وكيف ينتهي، تحديه الدائم لنفسه قبل أي آخر يكون بمثابة مباراة ذاتية شديدة الشراسة، يخرج منها منتصرا بقناعاته واختياراته التي تتحدى بمضون مهم وراقي، هذا العام ذهب إلى مكان جديد، ذهب حيث نقاء الرسالة وطيب الكلمة ورقي وسماحة الدين الإسلامي، حيث الإنسانية هي المحرك والعلم والفكر هو الغاية، ذهب حيث سيرة الإمام المجدد محمد بن إدريس الشافعي، ليقدم من خلال مسلسل جديد رسالة مهمة في أهمية التعايش والسلام والفكر الصحيح للدين، رهان النبوي كان على مضمون مهم نحتاجه هذه الأيام، ونعطي به الرسالة التي يجب أن يكون عليها العمل الدرامي، رسالة شهدت العديد من التحولات في قناعات المشاهد، أجبرته على المتابعة إعجابا منذ البداية وحتى النهاية.. “رسالة الإمام” واحد من أهم إنتاجات الدراما المصرية هذا العام، بفريق ضخم وإنتاج كبير بحجم الرسالة.
ليس مهما أن تلعب على المضمون المهم، أن تهتم بالمضمون وهو ما فعله كلا من ياسر جلال وطارق لطفي، وكلاهما نجمان لهما تجاربهما الناجحة في السنوات الماضية، والتي تشهد تحولات مختلفة وغير مكررة، الأول والقادم من نجاح ساحق بدور سوف يظل عالقا كثيرا في الأذهان من خلال مشاركته في مسلسل “القرار”، أحد أجزاء مسلسل “الاختيار” الناجح، والثاني من خلال مغامرة كبيرة ناجحة أيضا في “جزيرة غمام”، وكلا منهما انتصر في النهاية للمضمون، فقدم الأول “علاقة مشروعة”، عمل بعيد كل البعد عن الصورة النمطية التي اعتاد البعض أن يظل حبيسا بها، وقدم الثاني “مذكرات زوج”، بنفس التحولات والقناعات بتقديم مضمون مختلف ومهم، وفي النهاية تحقق لهما ما أرادا، وحققا نجاحا بأعمال من 15 حلقة فقط، لم يستطع غيرهما تحقيقه طيلة الشهر، معلنين أن البقاء للمضمون.
يمكن أن يظن البعض أن التتابع والإستمرار والمشاركة في عمل مثل “الكتيبة 101” هو لعبا على المضمون، لكنه في الحقيقة وبعد مشاهدة المسلسل كان لعبا مضمون، لأنه أعتمد أكثر على المضمون والسرد الحقيقي والإنساني للأحداث، تجسيدا لبطولات حقيقية كنا في أمس الحاجة لنراها على الشاشات لتعرف الأجيال الجديدة إلى أي مدى كانت التضحيات الحقيقية للرجال، “الكتيبة 101” لم تكتف بالإنحياز العاطفي والجماهيري للأعمال التي تخلد ذكرى الأبطال، لكنه أجاد تقديم دراما إنسانية مست الجميع، فكتب لها النجاح.
كان من الطبيعي أن يبرز اسم دنيا سمير غانم في تحديات وتحولات الدراما الرمضانية هذا العام لعدة أسباب، دنيا رقم مهم في الصناعة، ولديها إمكانيات الفنان الشامل، وتعرف جيدا إمكانياتها الفنية المتعددة والحقيقة أن مسلسلها الجديد “جت سليمة” استغل هذه الإمكانيات ووظفها التوظيف الصحيح بعيدا عن التكلف والإدعاء فقدم ببساطة متناهية صورة ناجحة لعمل متكامل كوميدي خفيف على القلب، وعلى المشاهد، بأداء مختلف لدنيا ومحمد سلام وخالد الصاوي.. مسلسل “جت سليمة” واحد من أهم التحولات الدرامية الملهمة، والتي من الممكن أن تكون مقدمة لسلسلة من كتاب الحواديت المسلية والممتعة في السنوات المقبلة، خاصة وأنه لم يعتمد فقط على إمكانيات وموهبة دنيا، لكن كان هناك خلطة سحرية وبناء درامي جديد ومختلف ومحكم.
التجارب المختلفة والملهمة في دراما رمضان هذا العام من وجهة نظري كانت كثيرة وناجحة، وهو ما يؤكد صحة ما أثرناه من التنوع الذكي الذي قدمته الدراما المصرية خلال رمضان، من هذه التجارب يأتي مسلسل “كامل العدد”، قطعة الحرير المتكاملة اللامعة التي طرحت أبطالا جدد في الصناعة على رأسها المخرج خالد الحلفاوي، والذي قدم حكاية بسيطة قد تبدو مكررة بجدية وطازجة الحكايات الأصيلة المختلفة قدم صورا جديدة ومختلفة من نجومها دينا الشربيني وشريف سلامة وآية سماحة، والكبار إسعاد يونس وأحمد كمال، وهو ما أدى إلى النجاح الذي استقبله من تابع المسلسل بإبتسامة وطيب خاطر، نجاح خالد الحلفاوي قدم للصناعة مخرج مهم يمتلك أدواته بحرفية عالية، وهو نفس الحال مع كريم الشناوي الذي عبر بمسلسله “الهرشة السابعة” إلى بر الأمان والنجاح.. “الهرشة السابعة” مسلسل شديد الخصوصية والثراء، بموضوع ومضمون مهم، تم معالجته برقي شديد ودقة متناهية وأداء عال من أبطاله أمينة خليل وأسماء جلال ومحمد شاهين وعلي قاسم، وأستحق أن يكون من أهم تحولات وتحديات الموسم الدرامي الرمضاني.
قد تختلف مع محمد رمضان، وقد تختلف مع ما يقدمه، لكن لا يمكن أن تختلف على محمد رمضان كموهبة تجيد معرفة البوصلة التي تقودها إلى بر الجمهور، بوصلة رمضان مرتبطة بصورة كبيرة بالمخرج محمد سامي، الذي قدم معه أعمالا ناجحة جماهيريا، وجاء مسلسل “جعفر العمدة” ليكمل المسيرة، الحالة التي قدمها أبطال وصناع “جعفر العمدة” تستحق الدراسة، التعلق الكبير بأحداثه ومتابعته حتى النهاية تستحق وقفة للتحليل، الأداء المختلف لأغلب نجومه تستحق الإشادة، والنجومية التي قدمها العمل لوجوها جديدة فيه مؤشر على إختراقه لكل حواجز الصمت الدرامي متخطيا الكثير من الأعمال والنجاح لا يحتاج إلى تنظير كبير ونجاح “جعفر العمدة” وصناعه يرى ويحس.
التحولات الدرامية الناجحة هذا العام كثيرة وممتعة، وكما ذكرنا لا أحد خرج من هذا الموسم خاسرا، عودة المخرج خالد يوسف تحول وتحدي كبير، ومسلسله “سره الباتع” مهم، مغامرة روجينا بمسلسل “ستهم” تضعها في مكانة مختلفة، تقديم مسلسل بحجم عملة نادرة للنجمة نيللي كريم وإعادة اكتشاف أحمد عيد ومحمد فهيم والسورية جومانا مراد، والرؤية الدرامية لدكتور مدحت العدل والمخرج ماندو العدل تستحق أن تقف أمامها كثيرا.. تحول وتحدي حنان مطاوع في مسلسلها “وعود سخية” هو الآخر تحدي من نوع خاص ويقدم درسا في التنوع لنجوم الدراما ويبرهن على موهبة كبيرة لا تحتاج منا الإشادة وأن كانت تستحقها.
مسلسل “الصندوق” هو الآخر كان تحديا “خارج الصندوق”، وحقق نجاحا مهما، وقدم رؤية مختلفة لعمل جماعي يقوم ببطولته الموهوب المبشر أحمد داش، وهدى المفتي وعلي قاسم.
الحقيقة أن الموسم الدرامي الرمضاني هذا العام، وبصورة كبيرة جدا، كان مرضيا، وعند حسن الظن، وحقق أهدافا كثيرة.. يجب البناء عليها مستقبلا وهو ما أعتقد أنه سوف يحدث.