لِماذا كانَ شَعرى طَويلًا؟

لوحة  للفنانة: مارلينا فيرا
لوحة للفنانة: مارلينا فيرا

لو أن أمى نادَتنى فى يومٍ ما، وسألتني: «ما هو الشيء الذى فعلتُه ولا تستطيعين نِسيانه؟» لكنت قلت لها: «أستطيع غُفران أى شيء». لكنها لم تفعل أبدًا، وكان هذا هو الشيء الذى لم أستطع غفرانه أبدًا.

عِوضًا عن ذلك، أتلقى إيميلًا. تنير الإضاءةُ الزرقاء فى هاتفى فى غرفة نوم حبيبى الجديد المُظلمة. أقرأ: «عندما يسألنى الناس كيف حالكِ، سأقول أننى حاولت قدر طاقتي، وأن هذا لم يكن كافيًا بالنسبة لكِ.» أنا محتارة! لطالما كنت أنا الشخص غير الكافي!

أغلق شاشة هاتفى سريعًا، لا أريد أن أوقظ حبيبى الجديد. ينام دائمًا وبسمةٌ تعلو وجهه كما لو كان يحلم بأكثر الأحلام سعادة. عندما أسأله عن الأمر فى الصباح، يقول إنه حلم أننا فى هاواي، وإننى كنت أتعلم أن أقول « أولا»  Hula، وشعرى الفاحم الطويل يصل إلى خصري.

«يالروعة!» أهتف أنا. أنسى أن أخبره عن الإيميل.

بدأت كل الحكاية مع شعر أمي. لقد توقف عن النمو. فى صورةً من شبابها، تقف فى تيشرتها الأحمر القطنى وشورتها الجينز القصير، تأكل سندويتش آيس كريم، ويتدلى شعرَها وراءها كالملاءة التى نُشرت فى الشمس لتنشف. وبقعة من بسكويت الشوكولاتة على شفتها. لطالما حدّقتْ طويلًا فى هذه الصورة، متسائلةً لماذا لم يعد شعرها يطول أكثر من حيّز كتفيها!

اقرأ ايضاً| مؤمن سمير يكتب: في سجن الحكايات

بعدها بدأ بالتساقط على شكل كُتل. كان باستطاعتى أن أجد بعضه ملفوفًا فى ورق التواليت، أو محشورًا داخل سلة مهملات الحمام. كانت بالوعة المسبح دائمًا مسدودة بخُصَل مُنسابة، لذا كان عليّ أن أقف وركبتى غائصة فى الماء العكِر فى كل مرة أغسل فيها شعري. لم تتحدث معى عن الأمر أبدًا. كنت غالبًا ما أحمل أنا القمامة، واشتريت سرًا منظف بالوعات من السوبر ماركت.

وقامت بالاتصال بأحد مصففى الشعر، شاهدته فى برنامج «ديفيد ليترمان». وأجبرتنى على صحبتها لصالون المصفف كل تلك المسافة حتى بيفرلى هيلز. قالت إنها تحتاج إلى صحبة فى هذه الرحلة الطويلة. مرقنا خلال أخدود «لوريل» كى تلحق بموعدها، وأصابتنى عجلتها فى الدوران مع المنحنيات بعدم الراحة.

وكأننى كنت عالمةً بالفعل أى خيبة أمل كانت بانتظارها، أو لعلى كنت فقط خائفة من الأخدود، كيف بدا كأنما باستطاعته أن يبتلع شخصًا بكامله فى لحظة!

وفي لحظة وصولنا، كان «رينجو ستار» يدفع فاتورته. لمعت عينا أمى عندما رأته، بينما لاحظت أنا أنه أصلع، قليلًا فقط، أعلى رأسه.

حبيبى الجديد يحب أمه. إنها تضع أحمر الشفاة بألوان أكثر عصرية كالفوشيا والبرتقالي. تقود سيارتها إلى شقته ومعها مفتاح احتياطى عندما يقوم عن طريق الخطأ بحبس نفسه داخلها، وتعتنى بكلبه عندما يسافر فى عمل أو حتى من أجل المتعة.

وعندما أقابلها فى المرة الأولي، ألاحظ أن لون شعرها أشقر لامع. كانت أمى تكره أولئك اللواتى يصبُغن شعورهن. «يعتقدن أنهن هكذا يبدون أصغر!» كانت تقول.

وعندما يسألنُى حبَيبى الجَديد عن أمي، أغيّر الموضوع. أسهل كثيرًا أن أغير الموضوع عن أن أغير تفكيري. أخبِرْ أى إنسانٍ أنك لا تتحدث إلى أمك، وسوف يقول لك: «يجب عليك ذلك» بدلاً عن: «لماذا».

«ربما علينا الذهاب إلى هاواى إذن،» أقول له. يصير وجهه حالمًا وهادئًا، «هل ستتركين شعركِ على سجيته؟ ربما حتى أحصل على سُمرة.»

لاحقًا، ضاعت فُرشاة شعري. كان هذا بعد زيارات كثيرة للصالون الفاخر وبعض زجاجات الشامبو التى رائحتها كالبقدونس وبودرة الصابون. كان بعد حوارى الثانى مع رينجو ستار - الأول كان عن الطقس. قال لي: «يا لك من فتاة جميلة، انظرى إليكِ كيف تُشرقين!».

«ربما عليكِ فقط أن تهدئى قليلًا». قالت أمى فى طريق العودة. «دائمًا تتدخلين فى أمور الجميع، ستجعليننى أكبر قبل أواني»، ولاحظتُ كيف أن جانبها الداخلى صار يتّسع أكثر، كالأخدود، وخشيت أن يبتلعني.

وما أغرب ذلك، فكرتُ فى نفسي، ما أغرب أنه حتى عندما يكون لديك شَعرًا بهذه القلة، تظل غير قادرٍ على عد كل خصلاته، وبعدها، وجدتُ فرشاة شعرى مكسورة إلى نصفين، وملقاة فى سلة قمامة المطبخ.

ويحصل حبيبى الجديد على تصفيفة شعر جديدة. «هل تحبينها؟» يسألني. «لا.» أقول له، «ولكنك وسيم للغاية.» فى الصباح الباكر، بينما ما يزال نائمًا، ألاحظ بعض شعر منثور على قفاه - قصة الشعر. يصيبنى المشهد بالغثيان، لذا أسرح وأتخيلنا فى هاواي.

وتحتضن الموجات كعوبنا بينما نتمشّى بجانب البحر. ونغمات يوكاليلى رفيعة تُلعب فيما نتبادل القُبَل والشمس تغرب فى الأفق. يرفعنى أعلى كتفيه، ويرمينى نحو السطح المُرغّي. للحظة، أنا سعيدة، خفيفةٌ كطفلة يرفعها أبوها ويرميها فى الهواء فوق رأسه.

وعندما يستيقظ، يسألنى ما الخطب؟ ولا أدرى كيف أخبره عن إجابة سؤاله، وبدلًا عن ذلك أقول له: «أنتَ جزيرةُ سعادتي!»، اشتريت فرشاة شعر جديدة، وخبأتها أسفل درج جواربي. كنت أُسَرِّح شعرى سرًا فى غرفة نومى وأربطه فى ربطة كعكة مُحكمة.

وفى ليلة، أقحمت أمى نفسها على وأنا أراقب نفسى فى المرآة. قالت: «لا نهاية لغرورك!». لم أذكر لها أننى شاهدتها تحدق فى صورٍ لها - لقطات قبل وبعد - أعطاها لها الصالون، صور مكبرة لمؤخرة رأسها.

توقفت عن أخذى معها إلى بيفرلى هيلز. تضاعفت الزجاجات أسفل حوض المسبح. كانت ورقتها تعلن عن أنها «شامبو محفز لفروة الرأس، غسول بروتين يومي، معالج لزيادة الكثافة» وكانت أى شيء فيما عدا ذلك. سمعتها مرةً تذكر رينجو عابرًا لصديقتها عبر الهاتف وكأنما تعرفه لسنوات. لم تقل لها كيف قابلته.

عن طريق الانترنت، اشترت جهاز ليزر لدعم نمو الشعر. وضعته فوق كل إنش من شعرها لفترة خمس دقائق مرتين يوميًا. عندما سألتها عن فائدة هذا الجهاز قالت: «فيتامين د، أنا لا أحصل على كفايتى من الشمس.» «لماذا لا تتمشّين قليلًا؟!» قلت أنا.

ويذهب حبيبى الجديد فى عُطلة مع عائلته. بعد تخرجّه فى الجامعة، استقلّ قطار سيبيريا العابر من بكين إلى موسكو بصحبة والديه وأخيه الأصغر. على متن القطار، كان الروس حسنى الضيافة، حرصوا على يكون بصحبة أسرته دائمًا زجاجة فودكا. بدأت أمه - عالمةً أن الزجاجة بمجرد فتحها يجب أن تنتهى - بالشرب معهم، جرعة بعد جرعة.

وعندما ذهبوا إلى ديزنى وورلد، لم تفوِّت جولة واحدة. أتخيلها هناك، شعرها الفضى يتطاير بفعل الهواء، وملابسها غارقة فى الماء المليء بالكلور من «سبلاش ماونتن».

ولم نذهب قط فى رحلة عائلية. فى مرة، قادتنى أمى إلى شاطئ سانتا مونيكا، تشاركنا ليمونادة وسجق ذرة. تمشينا بجانب الشاطئ، وحصلتُ على رسم كاريكاتير لنفسى بينما كنا نشاهد فى الظل، واضعة كريم شمس، ومسرّحةً شعرها بأصابعها - الذى كان طويلًا وقتها. لاحقًا، عندما أصبح شعرها قصيرًا، كانت تظل تمرر أصابعها بمحاذاة صدرها، متذكرةً.

و«إذا ذهبنا إلى هاواي،» يقول حبيبى الجديد. «عندما،» أرد عليه «عندما نذهب إلى هاواي، سأترك شعرى على سجيته، وأستلقى تحت الشمس وأحتسى كوكتيلاتى للرَم المُزينة بشمسياتى الصغيرة حتى يصيبنى الدوار، وسنرقص طوال الليل على أنغام موسيقى «لوا» الهاواوية السخيفة، وأطواق الورد الملونة تخدش أجسادنا الملفوحة بالشمس.»

وقالت أمى إننى أحتاج إلى قصة شعر. كانت قد بدأت للتو بزيارة طبيب قام بتنشيط فروة رأسها بواسطة إبر رفيعة، ووصف لها مزيجًا من أقراص هرمونات. وجدت زجاجة الدواء أولًا، ثم فاتورة الطبيب لكل هذه الإجراءات.

و«انظرى كيف أصبح شعركِ طويلًا،» قالت لي. «تبدين كأولئك المُتديّنات المُتعصّبات.» ، «أنا أخشى مصففى الشعر،» قلت، «إنهم يعشقون إخبارك كيف أن كل ما تفعله خطأ. نهايات مُقصّفة، فروة جافة. أنا لا أعبأ بكل هذا.»

«بإمكانى أنا أن أقصُّه لكِ.» ، وعندما عادت بمِقصّين حادين، ولا كرسى، توسلت إليها فى البداية، ثم لم أقل أى شىء، وقد أخبرتنى أن أبقى ثابتة، ووضعت يدها على مؤخرة عنقي، وغاصت أصابعها، لكننى لم أحسَّ شيئًا. ثلاثُ قصات كانت كل ما لزمه الأمر. كان شعرى الجديد قصيرًا وخشنًا، كما لو كنت دُمية قام بقص شعرها طفل.

لا أستطيع مسامحتكِ، فكّرتُ فى نفسي ، «اخبرى الجميع أن ثمّة عُلكة كانت قد علقت بشعرك» قالت أمي ، نحجز أنا وحبيبى الجديد تذاكر طيران لهاواي. أشترى لنا تيشرتات هاواوية متشابهة، وأتناول مكسرات «المَكْدَمِيَّة» استعدادًا للرحلة. عندما أكون وحدي.

وأتدرّب على ترك شعرى على سجيته، أهزه خلفى بينما أتحرك. فى الطريق إلى المطار، توقفنا لترك كلبه عند بيت والديه. تقف والدته أمام الباب، تلوح لنا بيدها مودعةً بينما تتوارى السيارة فى المنعطف.

ونحن فى الهواء فوق المحيط الهادي، أحاول أن أخبره لماذا لا أتحدّث إلى أمي. لكن ما لا أقدر على شرحه فى ذلك، كيف أنها تظل دائمًا هناك، كذراع وهمية، ذاكرة دائمة للجسد عن ما فُقِدَ للأبد.