يوميات الاخبار

نظرية.. فى السندوتش والطبلية!

سمير الجمل
سمير الجمل

يكتبها اليوم : سمير الجمل

وكانت «طبلية» تتابع المحاكمة وقد انزوت فى ركن بعيد تشعر بالغربة.. فقد تجاهلها الناس، بل إن هناك من تنمَّر على منظرها، خاصة من أجيال ديل الحصان

فى قاعة محكمة الأمن الاخلاقى أشار ممثل النيابة إلى المتهم الماثل فى القفص.. وصرخ بأعلى صوته:
إننى أطالب بإعدام "سندوتش بن تيك أواى" لأنه ساهم فى فك شمل الأسرة.. وأشاع ثقافة السرعة واللهوجة واخطف واجرى..


وكانت "طبلية" تتابع المحاكمة وقد انزوت فى ركن بعيد تشعر بالغربة.. فقد تجاهلها الناس، بل إن هناك من تنمَّر على منظرها، خاصة من أجيال ديل الحصان والبنطلونات الممزقة.. وأرباب السلاسل فى الرقاب وحول الأيدى.


وقد طاف حولها كبار السن وأهل الأرياف -أو قل بعضهم- ممن أصابتهم لعنة التفرنج فى كل شيء فهجروا جلباب الاصالة إلى قميص التقاليع المستوردة.
جاءت وكالة الأنباء الأجنبية وجماعات حقوق الانسان تساند "مستر سندوتش" واعتبرت محاكمته خيانة لتطور الحياة.. وساهمت شركات الفراخ المتبلة والبيتزا والكازوزة فى دفع أتعاب المحاماة.. ومعها شركات البوزو والشيبسى وما شابه، فكلها تصب فى نفس النهر، وقد تكاتفت فى تسويقها معا ومعها شركات المحمول والاتصالات.. فى منظومة يشد بعضها البعض.. الطبلية فى المحكمة اكتشفت أن لها إخوة غير أشقاء.. فهى مصنوعة من البلاستيك أو الاستانلس والألومنيوم.. وكانت تقابلهم للمرة الأولى لكنها لم تشعر بالارتياح نحوهم.. وهى من عائلة الخشب.. رئيس المحكمة يقطع الجدل والثرثرة.. ويدق بمطرقته طلبا للصمت.. ويكون له ما أراد.. وإلا فإن إشارة من يده تجعل مَن هو خارج القفص بداخله.. وما أدراك بالفارق بين داخله وخارجه! وقانا الله وإياكم داخله..


القاضى الجليل يتجه بنظره صوب مستر سندوتش ويسأله:
− ممكن نعرف أصلك وفصلك..؟
ووقف يحكى بين الشعور بالفخر وأيضا بالخجل لكن لا مفر من أن يقول الحقيقة وقد أقسم بذلك أمام المحكمة:
− يرجع تاريخى إلى إنجلترا.. نعم أصلى إنجليزى وجدّى الأول هو "جون مونتاجو" وكانت شهرته "ايرل سندوتش" المولود فى نوفمبر ١٧١٨.. وهو ينتمى إلى عائلة أرستقراطية، كان يهوى لعب القمار والورق إلى حد الإدمان وكثيرا ما كان يرفض أن يبرح مكانه من فوق طاولة اللعب، حتى طلب من خادمه ذات مرة أن يأتى اليه بقطعة من اللحم بين قطعتى خبز حتى يسهل تناولها وحتى يستمر فى اللعب فقد بلغ منه الجوع أقصاه.. وراقت الفكرة لمنتخب القمار الذى يشاركه الطاولة فقالوا: هل لنا مثل "سندوتش".. نأكل ونلعب فى نفس الوقت؟ وانتشرت الفكرة من هنا.. وجدّى ينتمى الى مدينة فى منطقة "كينت" اسمها "سندوتش" ومنها أخذ لقبه.. وشهرته.. وذاعت وانتشرت فكرته أن يعمل ويأكل أو يلعب ويأكل.. أو يدرس ويأكل يعنى بلغة هذه الأيام  1X2 وقد قرأت فى بعض الكتب أن العرب كانوا يفعلون هذا قبل جدي.. ولكن لم يثبت تاريخيا ذلك.. ولما جاءت الثورة الصناعية فى أوروبا.. كان الاحتياج أكثر إلى "سندوتش".
وبدأ الناس يتفننون فى صنعه.. مرة باللحم وأخرى بالفراخ وثالثة بأنواع الجبن والبيض.. لكنى سمعت أن بعض أبناء المناطق الشعبية فى مصر المحروسة دون غيرهم.. قد صنعوا سندوتشات من الكشرى.. وهو خليط الأرز والمكرونة والعدس.. ربما لانهم يرون أن تناول الخبز -أو العيش كما يسمونه- ضرورة لابد منها.. وبدونه لا يصل غالبيتهم إلى درجة الإحساس بالشبع.. وهم دون غيرهم يقسمون بالعيش والملح.. وأنا أطالب عدالة المحكمة بالسماح لأهل إنجلترا أن يُقسموا بالسندوتش فهو حصيلة العيش والغموس معاً. وقد سمعت نكتة عن مصرى كان يعمل فى أحد مطاعم إنجلترا.. ولغته الإنجليزية "يادوب" تسمح له بالتعامل مع الناس بالكاد ولما أراد صاحب المطعم أن ينهى خدمته لأن طريقة عمله لم تعجبه توسل اليه بالإنجليزية: "دونت كَت ماى بِرِد بليز". أى "لا تقطع عيشى لو تكرمت".. واحتار الانجليزى فى تفسير الجملة. ولم يسعفه وينقذه من دهشته الا وجود أحد المصريين الانجليز فشرح له المعنى.. وضحك صاحب المطعم وقرر استمراره فى العمل إكراما للعيش والملح.


هنا يقاطعه القاضى:
− احنا مش جايين نقول نُكت يا مستر سندوتش!!
لكن الحضور فى قاعة المحكمة ضحكوا.. حتى أصاب القاضى الجليل رذاذ ضحكاتهم.. فضحك بالعدوى وهو من قبل ومن بعد "بشر" وان كان يحاكم "سندوتش" لكنه يتعامل معه ويتعاطاه هو وعائلته. لكن المسألة أبعد من "أكلة".
 ولا يزال التقرير الذى كتبه الباحثون الامريكان لإصلاح التربية والتعليم فى أمريكا والذى عنوانه "أمة فى خطر" هو أعظم وثيقة فى القرن العشرين لإصلاح الخلل العلمى والتربوى والاجتماعى والأخلاقى فى أمريكا وفى أية دولة صناعية أخرى.
التقرير أشار إلى أن حياة الكافيتريات أفسدت الشبان لأنهم يجلسون فيها معظم الوقت وينتظرون من يخدمهم.. وكل شيء فيها يلهث.. ويجرى.. كأنه يسابق الزمن والزمن لا يسابقه.
واذا كان التقرير عنوانه "أمة فى خطر" وأشار إلى الكافيتريات فإن الأستاذ دسوقى الوكيل "عادل امام" صرخ فى مسرحية "أنا وهو وهى": بلد شهادات صحيح. أيام الأبيض والأسود فى الستينيات ولو أعاد المسرحية فى الوقت الحالى لغيَّر صيحته لكى تكون: "بلد كافيهات صحيح" لأن بين كل مقهى أو كافيه أكثر من مقهى وكافيه.. والزحام عليها لا ينقطع آناء الليل وأطراف النهار وأغلب الزبائن من الذين يبكون على حظهم المايل لأنهم فى حالة بطالة.. وإذا كان أرباب المعاشات لهم بعض الاعذار فى ذلك لكن ماذا عن كل فحل فى سن الشباب والفتوة؟! وأذكر مشهدا لا يمكن أن يغيب عن ذهنى.. وقد مر عليه اكثر من عشر سنوات.. ومكانه أحد الأحياء الشعبية فى القاهرة وفى عز الظهر أى ذروة الشغل.. وشلة من العواطلية الشباب تلعب الطاولة وتشد أنفاس الشيشة تحت شجرة عليها لافتة تقول: "مطلوب موظفون للعمل بمرتبات مجزية"..
السندوتش اختراع انجليزى.. لكن أمريكا نشرته واعتبرته من ثقافتها التى تحاول تعويض غياب تاريخها المشكوك فى أمره.. ثقافة الكنتاكى والمارلبورو والكاوبوى.. فالأمريكان يأكلون جلوسا ووقوفا وفى نومهم ويقظتهم وإذا جلس أحدهم الى مائدة عمل سندوتش عشان يخلص.. وتحولت حياتهم كلها الى سندوتش وصدَّروا ثقافة الاستعجال الى شعوب الأرض.. على طريقة من كل شىء "لحسة"!
لذلك أعلنت فرنسا تمردها على هذا النمط.. لأنها بلاد لها هويتها واسلوبها الخاص فى كل شىء.. وعلى عكس الانجليز والألمان الذين ركبوا موجة الامريكان وأصبحوا من التابعين.. والاكل ثقافة لكل شعب حتى إنَّ الصهاينة كما سرقوا من الفن المصرى والعربى حاولوا سرقة الطعمية.. واستخراج بطاقة مزورة تثبت انها من بقية أهلهم.. وهى أكلة مصرية صميمة يقال إن الفراعنة عرفوها.
وتكلمت الطبلية
انا الطبلية المصنوعة من الخشب.. والناس يحبونه ويمسكونه منعا للحسد.. خاصة إذا التف أفراد الأسرة فى مشهد جليل يشكلون دائرة من المحبة والألفة.
أنا الطبلية التى حولنى البعض إلى مدرسة للتربية.. عندما يجتمع حولها الآباء والأمهات والابناء.. سَمِّ الله.. وكُلْ بيمينك.. واحمد الله بعد الاكل.. وارضَ بنصيبك أو منابك عندما تمده اليك يد الأب أو الأم أو الكبير الذى يدير شئون الطبلية بالعدل والمحبة..
والصوفية حياتهم فى الدوائر.. لان الكون عندهم دائرة مركزها الكعبة المشرفة.
وقد غنى الشعب المصرى للطبلية.. وقد أصبحت رمزا للأصالة لمن تربى عليها فى بيت أبيه: يا طبلية بيتنا ما يحلى الاكل الا عليكى.. والكل ملموم حواليكى..
على الطبلية واللمبة الجاز تربى كبار علماء مصر.. وعليها تنطلق احتفالات عيد الفطر بعمل الكعك والبسكويت.. على الطبلية يتم انتظار الغائب ولا يضيع منابه أو حقه حتى يعود.. وهى على الأرض.. وكلنا من الأرض وإليها نعود..
وهى بشرى خير إذا رآها النائم فى حلمه.. والسند فى ذلك ما جاء فى القرآن الكريم:
 (اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (المائدة ١١٤).
الطبلية قالت فى شهادتها:
الدنيا تتطور.. هذا صحيح.. لكن المبادئ ثابتة لا تتغير حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. وللمائدة آدابها فى الدين. وتناول الطعام مع الاهل والأصدقاء والأحبة يرفع درجة الألفة والمودة.. ويقرب المسافات سواء أكلوا على الطبلية أو السفرة أو افترشوا الأرض.. والمعدة يجب أن تهضم على مهلها.. والعقل أيضا فيما يصله من معلومة.. والحصول على الشهادات جعل الغالبية تلجأ إلى ثقافة السندوتش فى المعلومة.. التى تقفز بهم من مرحلة إلى أخرى.. وجاءت وسائل التواصل لكى تتحول إلى وحش للتباعد داخل البيت الواحد.. المعايدات والعزاء بضغطة زر هى رسالة واحدة تصل إلى الجميع فى نفس اللحظة وانتهى الأمر.. مع ان الوصول إلى ارجاء الأرض بالصوت والصورة من أيسر الأمور.. إنها محبة السندوتش تتوهج فى أيام الحب الأولى والخطوبة.. لكنها لا تسمن ولا تغنى من جوع لأنها طيارى مثل السندوتش.. ومافيا الإعلانات.
الطبلية لا تريد للأيام أن تعود للخلف.. لكنها تبكى على افتقاد اللمة والطبطبة وتلاقى الوجوه والقلوب على "اللقمة".. وكانوا يسألون انفسهم قبل ان تصل أيديهم الى أفواههم:
− هل هى من حلال؟!
مرافعة الطبلية تأثر بها الكبار وسخر منها الشباب.. وبكى معها وعليها طائفة من الناس.. هم أهل الأصل الذين تتبدل الأحوال من حولهم وهم قابضون على الجمر.. يصارعون العواصف التى تريد اقتلاعهم من جذورهم.. وهم فى ثباتهم مضرب الأمثال..
 ما قيمة الناس إلا فى مبادئهم..
 لا المالُ يبقى ولا الألقابُ والرتبُ!
برواز
أصحاب المبادئ يعيشون مئات السنين.. وأصحاب التقاليع يموتون مئات المرات، فهم أشبه بقارب بلا شراع أو مجداف.