الإبراشي: السكان المحليون من أهم عناصر الحفاظ على التراثات المعمارية

المعمارية الأثرية مى الإبراشى
المعمارية الأثرية مى الإبراشى

عشاق القاهرة

منذ إنشائها، كان للقاهرة وقع السحر على كل زوارها، سحرتهم المدينة، وافتتنوا بها، فوثقوا حكايتها، وأرّخوا لها بشكل ربما  لم تعرفه أى مدينة إسلامية أخرى.

شهدت القاهرة منذ مولدها الأول الكثير من التحولات، مرّت بالعديد من الأحداث الكبرى، تجاوزت صدمات كثيرة إلا أنها قاومت فى نهاية الأمر لتصبح على ما هى عليه اليوم،خلال هذه السلسلة نحاور مجموعة من أهم مؤرخى القاهرة، نقرؤها كمدينة من خلالهم، نقترب أكثر من مشروعهم، وفلسفتهم، فى محاولة لفهم كيف أغوتهم تلك المدينة العظيمة. 

مؤخرًا فازت المعمارية الأثرية مى الإبراشى بجائزة الأمير كلاوس الهولندية الشهيرة، وجاء فى حيثيات المنح أنها استطاعت الحفاظ على التراث وإعادة تأهيله، وحفظه مع إعادة تعريفه، وخلقت شعورًا جديدًا بالأمل، والفخر، للمجتمعات التى تعمل معها. اعتزاز الإبراشى بالجائزة لم يكن فقط لأنها جائزتها الأولى ولكن لأنها لم تكن متوقعة ولكونها تُمنح ولا يتم التقدم لها. جاءت الجائزة لتتوج مجهوداتها فى مجال حفظ التراث، وفلسفتها القائمة على التجريب وبحث احتياجات المجتمع والاعتماد على الثقافة كمورد للمجتمعات المحلية، وهى رسالتها التى تؤمن بها وتحاول تطبيقها فى كل أعمالها.

حكاية الإبراشى مع التراث بدأت منذ الطفولة، رغم أنها عاشتها بعيدا عن مصر بسبب عمل والدها فى السفارة المصرية بالهند، زارت الأماكن التراثية هناك، لكنها فى كل زيارة كانت تصحبه فى جولات موسعة بأحياء القاهرة ومساجدها القديمة، لذلك تعلقت بالآثار وبالتراث المصرى منذ طفولتها، ولكنها لم تكتشف هذا الحب وتعمقه إلا عندما التحقت بكلية الهندسة، وتحديدًا خلال فترة تدربها داخل القاهرة التاريخية، فى بيت الهراوي، ثم قصر المسافرخانة قبل احتراقه وضياعه، وعملت بعدها مع المعهد الألمانى للآثار مع المعمارية الدكتورة نايرى هامبيكيان.

منذ السنة الثانية من دراستها للهندسة فى قسم العمارة بجامعة عين شمس، أرادت الابتعاد عن كل ما هو تقليدى، وقررت التخصص فى مجال مختلف عن مجال التصميم، وبدأت التفكير فى التوجه نحو مجال الحفاظ على الآثار وترميمها، ومن هنا بدأت رحلتها الحقيقية مع التراث والآثار لتوظف دراستها فى خدمة شغفها.

طقوس المدينة

الإبراشى التى عملت فى وقت سابق كأستاذة زائرة فى قسم الهندسة المعمارية ب الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهى أيضا مؤسسة ورئيسة مجلس إدارة جمعيّة الفكر العمرانى «مجاورة»، أدركت فى ذلك الوقت المبكر أن ترميم الأثر يعنى التعامل مع المبنى بطريقة حميمية، تؤدى فى النهاية لفهمه بشكل كامل، سواء إنشائيًا أو زخرفيًا، وتساعد أيضًا على فهم الفراغات وعلاقتها بالعمران «أدهشنى الأمر بصورة كبيرة، لأن الموضوع لم يكن مجرد تنظير، كنا نتعامل مع أشياء حقيقية ملموسة.

اقرأ ايضاً| د. خيرى دومة يكتب: سيرة «يحيى» وتميمته التي لم تمت

وأعُجبتِ بنوع المواد المستخدمة خلال عمليات البناء، وهى مختلفة عن مواد الخرسانة، فبفضل قدمها تكتسب مزايا جديدة مختلفة، وهو أمر لا توفره المبانى الخرسانية، التى تسقط وتنهار مع القدم. أحببت القاهرة التاريخية، بشكل كبير، لأنها كانت دومًا مليئة بالمفاجآت، وقادرة على إبهارى، وهذا ما لاحظته خلال مشاهدتى لمولد سيدنا الحسين.

وأتذكر ترددى على المولد فى تسعينيات القرن الماضى، وقد أبهرتنى الطقوس هناك وأصالة الأشياء، والتناغم بين السكان وتراثهم، فالبيوت القديمة والآثار تكتسب معانى وقيمًا ودلالاتٍ كلما أوغلت فى القدم، فبيت الهراوى مثلًا تم إنشاؤه فى حدود القرن ال17، ويمر بجواره يوميًا أشخاص مختلفون ممن عاشوا بجواره وقت إنشاؤه، إلا أنه ظل قادرًا على اكتساب المعانى وسط التحديات الجديدة التى يواجهها بشكل يومى حتى الآن».

تراث حى

التناغم بين السكان والتراث هو المبدأ الذى عملت عليه الإبراشى فى أغلب مشاريعها، يختصر رؤيتها لمفهوم الحفاظ على الآثار، وأسلوبها فى عمليات ترميم المبانى الأثرية والاهتمام بمحيطها العمرانى، تقول: «فى بداية عملى ركزت على توثيق وترميم المبنى الأثرى.

ولم أهتم بمحيطه، لكن مع الوقت بدأت استفز بقدر كبير، بسبب إغلاق المبانى الأثرية عقب ترميمها، ومن ثم تراجع حالتها بعد سنوات، وقد أدركت فى تلك اللحظة أن المبنى الأثرى ليس وحده هو الأثر، بل هناك ضرورة للحفاظ على المدينة كنسيج واحد؛ لذلك بدأت أفهم أن التراث معناه أشمل من مجرد مبنى أثرى مسجل فى تعداد الآثار، لأن المبنى الأثرى هو فى حقيقة الأمر تراث حى مستمر ويتفاعل مع المدينة.

وهذه العلاقة تتطور بشكل مستمر، لذلك أردت التأكيد على وجود علاقة بين المبانى الأثرية، وبين مجتمع المدينة، وبدأت أفهم كل هذه الأمور بشكل أعمق، كذلك فالتراث له وجه آخر غير مادى مثل: العادات والتقاليد، والحرف، والصناعات، اليدوية الموجودة داخل المدينة، من هنا تعرفت على فكرة إدارة التراث، فجزء منه متعلق بالحفاظ والترميم، وآخر مرتبط بإعادة صياغة مفهوم التراث وهذا تمامًا ما أردته».

منظومة مجتمعية كاملة

منذ ما يقرب من ال10 أعوام اتجهت مى الإبراشى لبناء سلسلة من العلاقات مع السكان المحليين داخل المناطق التاريخية، إذ سعت لخدمتهم عبر العديد من المبادرات قائلة: «أعمل فى مجال التراث منذ تخرجى كما ذكرت، لكن حتى عام 2009 عملت بمجال الترميم بمفهومه التقليدى، وتوقفت لسنوات بسبب تدريسى بالجامعة.

 

وفى حدود عام 2013 عدت مرة أخرى لممارسة العمل الميدانى، وأطلقنا مبادرة تحمل اسم «الأثر لنا»، أردنا من خلالها توفير منظومة كاملة لجعل السكان المحليين عنصرًا فعالًا فى عمليات الحفاظ، من خلال الإحساس بالملكية؛ أى أن يشعر المواطن بأن الأثر ملكه هو شخصيًا، بل وتحقيقه لاستفادة ما، ليس شرطًا أن تكون مادية فقط، يمكن أن تكون اجتماعية، أو روحانية، أو ثقافية، ومن هنا بدأنا بالفعل العمل انطلاقًا من تلك الرؤية، واخترنا تحديدًا منطقة الخليفة.

والتى تعد الجزء الجنوبى للقاهرة التاريخية، وهى على عكس المناطق الأخرى مثل: النحاسين والغورية، ليست سياحية، والمجتمع هناك له دور أساسى فى تشكيل المنطقة وصياغتها إلى حد كبير».

السبب الأهم الذى تشير إليه الإبراشى فى اختيار منطقة الخليفة هو أنها تضم الكثير من أضرحة آل البيت والأولياء، إذ كانت مدخلًا للقرافة، والمخرج من المدينة، فهى تضم مقابر السيدة نفيسة، والسيدة سكينة، والسيدة رقية، والسيدة عاتكة، والجعفرى، ومحمد الأنور؛ والمجتمع هناك ارتبط روحانيًا بمحيطه. 

كما أن نسبة كبيرة من مبانى المنطقة مبان أثرية، ومن هنا بدأت الصورة تتضح بشكل أكبر فتقول: «أدركنا أننا نعمل على منطقة مهملة ولا يتم الحفاظ عليها أسوة بأماكن أخرى، لكنها تمتلك مقومات كبيرة، بجانب أن سكان المنطقة لديهم علاقة قوية مع محيطهم، بسبب اعتزازهم بالمبانى الأثرية حولهم، لذلك أشركنا المجتمع المحلى فى عملية الدراسة، واتبعنا منهجية البحث التشاركى، من خلال استطلاعات الرأى لكافة ممثلى الأطراف المشتركة والمعنية، استشرنا المجتمع، وممثلى الحكومة.

والمجتمع المدنى المهتمين بالتراث ودارسيه والعاملين فيه، ودرسنا الشارع من خلال وجهات النظر المختلفة، عبر عقد مجموعة من الورش، للوقوف على التحديات، وحاولنا التفكير فى مشاكل الشارع وحلها، وبالفعل توصلنا لضرورة الاحتفاظ وترميم المبانى الأثرية والتراثية داخل المنطقة، لكن فى الوقت نفسه أدركنا أنه من الضرورى التفكير فى إعادة توظيف الأثر، على أن يكون المستفيد الأول من هذه العملية هو المجتمع نفسه».

لاحظت مى الإبراشى وفريقها وجود علاقة بين معدل السن، ومدى الارتباط بالآثار والتراث، بمعنى أن الأعمار السنية الأقل تنخفض معدلات إدراكها لمحيطها الأثرى، على عكس الأجيال الأكبر سنًا، والذين يحتفظون بذكرياتهم مع الأماكن الأثرية، فى مرحلة طفولتهم، وتقول: «عندما توجهنا لأطفال الحى، وجدنا أنهم لا يعرفون شيئا، بجانب عدم وجود ارتباط بينهم وبين محيطهم الأثرى، فهم لم يدخلوا أغلب تلك المبانى، لذلك بدأنا تعليم التراث لأطفال المنطقة.

وأتحنا لهم بالفعل الأماكن الأثرية التى لم يدخلوها من قبل، ووفرنا لهم معسكرات صيفية لمدة شهرين، ونقدمها بشكل مجانى لنحاول ربطهم بالتراث، وهذه المعسكرات مستمرة منذ ما يقرب من ال10 سنوات؛ وبالتالى نشأت علاقة قوية بيننا وبين هؤلاء الأطفال.

الذين أصبحوا حاليًا فى سن المراهقة، وقد تكونت علاقة مع عائلاتهم أيضًا، وبالتالى اتسع الأمر، وبدأنا نخصص ورش تعليم مهنى لهؤلاء، وتحديدًا المهن المرتبطة بالتراث، مثل: الحرف اليدوية، وإدارة الجولات والنشاطات التفاعلية».

النقطة الأصعب التى تشير إليها كانت تحقيق فلسفتها فى الاستفادة المزدوجة، حين بدأت العمل على تحسين جودة العمران وتأهيل البنية التحتية للمنطقة نفسها، فتقول: «قدمنا حلولًا لمشكلات انتشار المياه الجوفية، والمخلفات، إذ حاولنا تنفيذ طريقة صحية لجمعها، وربطها بنظام فصل للمخلفات العضوية، وإعادة استخدامها مرة أخرى، لكن المشكلة الأعقد بالنسبة إلينا، كانت المياه الجوفية، وهى مشكلة موجودة داخل القاهرة التاريخية بأكملها.

وهى ليست بمياه جوفية كما يعتقد البعض فأغلبها مياه صرف صحى، وتظهر بصورة أكبر داخل الأماكن والمبانى الأثرية، وتحديدًا على الجدران، نتيجة لطبيعة مواد البناء، القادرة على امتصاص المياه بصورة أكبر من المبانى الخرسانية، وبجانب أن معظم المبانى الأثرية منسوبها منخفض، لذلك وضعنا نظاماً لتصريفها وإعادة استخدامها، وكان الحل هو استخدامها فى عمليات الرى، وطبقنا الأمر بالفعل فى حديقة كاملة مساحتها 3000 متر مسطح عند السيدة نفيسة.

وهى حاليًا تُروىَ بشكل كامل من خلال هذه الطريقة. أما بخصوص البعد الاقتصادى، فقد ساعدنا فى توفير فرص عمل، وهذا ما نعمل عليه حتى الآن. بجانب أننا رممنا بالفعل العديد من القباب مثل: قبة شجرة الدر، وقبة الجعفرى، وعاتكة، والشرفاء، وأخيرًا قبة الإمام الشافعى».

وتلاحظ الإبراشى أن هناك استجابة كبيرة فى الوقت الحالى من جانب الأهالى للمشاركة فى المبادرات التى تقدمها وتقوا: «المشكلة أن كثيراً من العاملين فى المجال المجتمعى يُحبطَون، بسبب عدم الاستجابة من جانب الأهالى، لكن لا يمكن تحقيق الاستجابة السريعة بطبيعة الحال، إذ يجب بناء ثقة أولًا مع المجتمع.

وهذا ما أدركناه منذ اللحظة الأولى من عملنا، وهى بالمناسبة تحدث ببطء، فترميم الآثار -على سبيل المثال- يبنى ثقة، وهذا ما حدث عندما رممنا قبة الإمام الشافعى، لأنها ارتبطت بالناس والسكان منذ زمن بعيد، وكذلك فالعمل المستمر يبنى ثقة كبيرة، بجانب أننا حددنا توقعات معقولة».

استدعاء التراث

لم نشأ أن نفوت فرصة الحديث عن المشروع الأخير الخاص بترميم قبة الإمام الشافعى دون مناقشة تفصيلية، وأردنا معرفة الطريقة التى تمت بها عمليات الترميم، خصوصًا مع اختلاف وجهات النظر حول فكرة الترميم والتعامل مع المبانى التاريخية والأثرية، خلال السنوات الأخيرة سألناها: إلى أى حقبة زمنية أرادت إرجاع القبة؟ وأجابت: لم أرجعها لأى عصر، حافظت فقط على الموجود، فالمبدأ العام عندنا هو الحفاظ لا الترميم، والفارق أننا فى عمليات الحفظ، نحاول الحفاظ على المكان كما هو.

وأما فى الترميم فنحاول إرجاعه لحقبة زمنية بعينها، أو نرجعه للأصل الأصيل، لكن فى حالة الحفاظ فنحن نترك الأشياء كما هى ما دامت لا تؤثر على طبيعة المبنى، مع مراعاة تحقيق التناغم البصرى داخله، وبشكل عام فنحن أزلنا أكثر مما أضفنا، وأرجعنا الألوان لطبيعتها الأصلية بعد أن دخلت عليها إضافات مخلة، لذلك فنحن نستكمل فى نطاق ضيق جدًا، ونوضح الفارق بين القديم والجديد.

وأتذكر أن القبة مثلًا كان بداخلها نص قرآنى تم استكماله سابقا بطريقة سيئة جدًا، وقد حاولنا فهم النص المكتوب لمدة 6 أشهر كاملة، واكتشفنا فى النهاية أنها آية الكرسى، لكن أغلب المكتوب حولها كان عبارة عن «شخابيط»؛ لذلك قمنا بعمل دراسات تحليلية، لاستكمال الحروف المتبقية، وهذا هو مبدأى وتوجهى خلال عمليات الترميم والحفظ، وأسعى أيضًا للمحافظة على التراث غير المادى، مثل: العادات والتقاليد، وعادات الزيارة الموجودة، فعندما أردنا حل مشكلة الهبوط داخل القبة.

وقد قمنا بعملية حفر، فوجدنا بقايا قبة فاطمية، وهنا حدثت مناقشة طويلة، حول الإبقاء عليها من عدمه، وقد رفضنا فكرة الإبقاء عليها، لأن نظام الزيارة للقبة سيختلف، وستتقلص أعداد الزوار، لذلك قمنا بتغطيتها مرة أخرى، مع توثيقها بشكل كامل.

تحمل المسئولية

سألنها إن كانت المنحة المقدمة لترميم قبة الإمام الشافعى، تدعم عمليات الصيانة المستقبلية، وقالت: لا، المنحة مُخصصَة فقط للترميم لا لصيانة المبنى بصفة دورية، فالحل من جانبنا هو عمل دليل للصيانة، ومن المفترض أن نقدمه بالتعاون مع وزارة الآثار، وهو ما نعمل عليه بالفعل حاليًا، لكن بخصوص صيانة المبنى بصورة مستمرة، فهذا ليس دورنا، فالمبنى تأتى له نذور يومية بشكل كبير، والمفترض أن يُوجَه جزء من هذا الريع للصيانة؛ لذلك فالمسألة من وجهة نظرى إدارية، ويجب أن تُحلَ، فمسئوليتنا هى المساعدة فى تقديم المشورة حول طريقة الصيانة، لكن ليس من اختصاصنا تخصيص ريع للصيانة، خصوصًا أن المبنى كما ذكرت له عوائد اقتصادية.

ولكنها لا يُوجَه لعمليات الصيانة، فأغلب المشاكل التى وجدناها بعد عملية الترميم الأخيرة كانت متعلقة بتساقط الأمطار داخل القبة، بسبب قدم الشبابيك الموجودة والتى تتيح مرور المياه خصوصًا مع كميات الأمطار العالية التى تتعرض لها القاهرة فى الوقت الراهن، وقد فهمنا أن الخشب يجب أن تتم صيانته بشكل سنوى، ورصاص القبة يجب صيانته مرة كل عامين، فمن خلال توفير الدليل الكامل، يمكن أن نقنع متخذ القرار بتخصيص جزء من الريع لصالح الحفاظ على الأثر.

لذلك أؤكد مجددا أن دورنا ليس الصيانة، لأنه دور الحكومة، والمجتمع المدنى يمكنه فقط مساعدة الحكومة فنيًا أو اقتصاديًا فى بعض الأحيان، لكن ليس دوره عمل أشياء فى صميم عمل الحكومة، والوزارات المعنية بالمبانى الأثرية، مثل: الآثار، أو الأوقاف، لأننا بذلك نفتح بابًا لإعفائهم من مسئوليتهم.

وأعتقد أنه لا توجد جهة فى العالم تساهم فى صيانة مبنى تراثى، يمكن أن نساهم فقط فى صندوق للصيانة، فهذه النقطة دائمًا تستفزنى، لأن هناك حاليًا توجه نيو ليبرالى فى العالم، يحاول إعفاء الحكومات من مسئوليتها، لكننى أراها مسئولة بشكل كامل، لأنها هى من تجمع الضرائب.

ويمكن بالمناسبة أن أتفهم أننا نمتلك مجموعة كبيرة من المبانى الأثرية، ومن الصعب على الحكومة القيام بعمليات ترميم لهذه الكمية الهائلة من المبانى وحدها، ويمكن أن أتفهم أيضًا أن المجتمع المدنى يمكنه المشاركة فى صندوق لدعم الحفاظ على الآثار وصيانة التراث، لكن لا يمكن أن أتفهم، أن أحداً غير الحكومة يمكن أن يكون مسئولًا عن عمليات الصيانة».

موازنة الأمور

وعن مدى قدرة المبنى على الصمود خصوصًا بعدما ذكرت أن نسب ارتفاع المياه بالمنطقة قد ازدادت مؤخرًا بشكل غير متوقع قالت: «إنشائيًا يمكنه الصمود، إلا إذا أغرقته المياه، ففى هذه الحالة سيختلف الوضع، لكن الخوف والقلق بشكل عام على العناصر الزخرفية، إلا أن هناك ميزة وهى أن العناصر الزخرفية الموجودة داخل قبة الإمام الشافعى تحديدًا، موجودة على مستوى مرتفع عن الأرض، باستثناء رخام أرضية المدخل، والتى قمنا بعزلها.

ولذلك أردت الموازنة بين التأثير الإنشائى والبعد الاقتصادى، والصعوبة الفنية للموضوع ككل، فعملية العزل ستتطلب صب إسمنت أسفل الأرض وبالتالى تدمير المقابر المجاورة، وسياسة الترميم والحفاظ ينبغى أن تراعى دلالات وقيم المبنى، فليس من المنطقى أن نزيل الأملاح بشكل كامل، وفى المقابل ندمر المقابر المجاورة، ونستبيح حرمة الأشخاص الذين أعطوا قيمة روحانية للمبنى طوال فترات التاريخ».

التغير المناخى

وتعمل الإبراشى حاليًا مع فريقها على تنفيذ مركز زوار داخل القبة، ليصبح الأول من نوعه فى القاهرة التاريخية، يعنى بتقديم نشاطات مختلفة متعلقة بالأثر فتقول: «خصصنا غرفة للأطفال لتعليمهم التراث بطريقة تفاعلية، ومن المتوقع افتتاحه خلال الفترة المقبلة. كذلك أعمل مع فريقى على مشروعين أحدهما لترميم قبة يحيى الشبيه بالقرافة وهى قبة فاطمية تعود لآل البيت، وآخر لترميم قبة صفى الدين جوهر بشارع الخليفة، وهذين المشروعين يربطان بين عمليات الترميم والتغير المناخى.

وهو مدعوم من جانب صندوق الحفاظ الثقافى، والتابع للمركز الثقافى البريطانى، إذ نحاول من خلالهما معرفة الأضرار التى يمكن أن تحدث بسبب التغير المناخى ومن ثم العمل على حل المشكلات، مثل: مشاكل المياه الأرضية، والأملاح، ومشاكل مياه الأمطار الشديدة التى يتعرض لها الأثر، فنمط هطول الأمطار داخل القاهرة تغير بشكل كبير.

وبالتالى اخترنا مبنيين بهما جميع هذه المشكلات، أردنا بذلك توثيق الحلول؛ أى منهجيات الترميم، لتحويلها فيما بعد لدليل لعلاج المبانى الأثرية المتأثرة بالتغيرات المناخية».

تحديات المدينة ومشاكلها الإدارية

لا ترفض الإبراشى فكرة السياحة داخل المدينة، بل تؤكد على أنها لا تتداخل أبدًا مع التراث «لا أرفض السياحة لأنها مورد اقتصادى مهم، وهى طريقة للتبادل الثقافى بين المجتمع والعالم، فمحاولة فهم العالم على أرض تحمل هذا القدر من التاريخ، أمر جدير بالاهتمام، لكن رأيى أن المكان التراثى يمكنه تحقيق الراحة للسائح لكن بشرط، أن يكون مصدر راحة  للسكان الأصليين، وممتعاً للمجتمع الأصلى.

ولو تمت المفاضلة بين السائح والساكن خصوصًا داخل القاهرة التاريخية، فهنا يجب إعطاء الأولوية للساكن على السائح فى النهاية، لأنها مدينة ذات تراث حى، كما يجب أيضًا إعادة التفكير فى كلمة «سياحة»، لأن التركيز ينبغى أن ينصب على فكرة السياحة المحلية.

والتى يمكن أن تصبح أهم من السياحة الدولية، وهذا ما بدأ يتكشف بالفعل بعد الأزمة الاقتصادية التى حدثت مؤخرًا فكثير من الأسر والعائلات، بدأوا التفكير فى السفر الداخلى بدلًا من السفر للخارج، وقد بدأ الناس أيضًا يتخلون عن فكرة السياحة الترفيهية، واستبدلوها بالسياحة الثقافية، من خلال زيارة الأماكن القديمة داخل المدينة، وزيارة أسواقها.

وهذا الأمر بالنسبة إليّ أهم، فالتوعية بالسياحة الداخلية، يؤدى فى النهاية لاستمرارها واستدامتها، بعكس السياحة الخارجية التى تتأثر دومًا بالمشاكل والصراعات الدولية، وبالتالى لو نجحنا فى التركيز على السياحة الداخلية وخصوصًا الثقافية منها، سنضمن فكرة الاستمرارية والاعتماد الذاتى دون التخوف من التوقف المستمر الذى يحدث للسياحة الدولية.

ولكن مشكلتى الأساسية هى أننا غير قادرين على النظر للقاهرة التاريخية ككل باعتبارها موقع تراث عالمى، ومازلنا نتعامل معها وفقًا لكثير من المحددات، وكل جهة وفقًا لرؤيتها الخاصة، فالآثار لها رؤية، والتنسيق الحضارى له رؤية، والمحافظة والأوقاف لهما رؤيتهما، وهكذا، لذلك يجب التعامل معها وعلاجها كمنظومة متكاملة وهذه الأمور هى أساس مشاكلنا، أى أن مشكلة القاهرة هى مشكلة إدارية فى المقام الأول».