يوميات الأخبار

أجواء رمضانية فى الأرياف !

عصام عبد الحافظ
عصام عبد الحافظ

وكثيرًا ما كان الكبار يقطعون حكاياتهم المشتركة وتسابيحهم فى السبح الطويلة، ويوقفون مغازلهم لصوف الغنم لكى يوقفوا خناقات الأطفال والصبيان لخلافات التنافس فى لهوهم وألعابهم الشعبية

العشوائيات تتسلل للمجتمعات الجديدة!!

الخميس

ليت كل العام عند  المصريين شهر رمضان الكريم، يأتيهم بالفرحة والتفاؤل واليقين بالله بأنهم فى شهر كله خير، وهو كذلك عند العرب والمسلمين فى كل مكان بالعالم، وعليه فإن مظاهر الاحتفالات بالشهر الكريم ليست مقصورة على شعب أو دولة دون غيرها، كما أنها ليست حديثة العهد بالمصريين والمسلمين عمومًا، لكنها تعود إلى العام الثانى من الهجرة النبوية، أى منذ ألف وأربعمائة واثنين وأربعين عامًا، حيث فرض الله سبحانه وتعالى على المسلمين الركن الرابع فى الاسلام، صوم شهر رمضان. ومبررات الاحتفال بالشهر الكريم كثيرة وتعيش فى الوجدان، فمنها ما يرتبط بحلاوة الإيمان ورسوخ الاعتقاد، ومنها ما يرتبط بالمقابل الذى ينتظره الصائم، وهو الأجر الأعظم من عند الله بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، ومنها ما يرتبط بروحانيات رمضان، والتى تتجلى أكثر فى الدقائق التى تسبق فرحة الصائم الأولى، وتمتد إلى السحور لبدء يوم جديد بالصيام، ومنها ما يرتبط بالانسانيات والاجواء فى خير الشهور وأفضلها عند الله، وعند نبيه وحبيبه محمد، بل وسائر الانبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، وعند الصائمين على مدار ثلاثين يومًا من كل عام.

وأجواء شهر رمضان فى القرى والأرياف ليس كمثلها فى المدن الكبيرة، ومن عاش فى الأرياف فى سنوات عمره الأولى، ثم انتقل إلى المدن بالبقية الباقية من سنواته، فهو قد عايش الحُسنيين فى الشهر الكريم، واعتقد على المستوى الشخصى بأن رمضان الأرياف هو الأكثر فى الروحانيات والمشاعر الانسانية، وفيه تتجلى لغة الاحترام المتبادل والتسامح والمحبة بين جميع أبناء القرية بما فيهم الاخوة الاقباط، وما زلت أذكر تلك الأجواء التى عشتها فى قريتى بصرة بمحافظة أسيوط، وتتشابه بكل تفاصيلها وذكرياتها مع القرى الأُخرى فى محيطها مثل الواسطى، أولاد سراج، عرب مطير ، العصارة، المعصرة، الاطاولة، الشغبة، قرقارص، باقور، وغيرها من أرياف الزمن لجميل.  

الرَهَبَّة.. المُلتقى أمام الجامع!

الجمعة

وفى كل قرية توجد رَهَبَّة أو أكثر، وهى ساحة تتوسطها شجرة كافور عملاقة أو أكثر من واحدة، ومؤخرًا اندثرت تلك الأشجار العتيقة وحلت محلها أشجار «الفيكوس «، ويقع على أحد أطراف الرَهَبَّة جامع عتيق بناه الأجداد، وتوارث إعماره وتجديده الأبناء والأحفاد، ويتصدرها  دوار العائلة أو أكثر إذا كانت تتوسط أو تتسع لعدة عائلات تقع بيوتهم فى الخلف، وفيها يعتاد الجميع كبارًا وصغارًا على التلاقى والتآلف والتسالف واللهو بعد صلاة الجمعة، وكذلك تستضيف أفراحهم وتلملم أحزانهم، وكل عام تكون مسرحًا لأجواء شهر رمضان الكريم بدءًا من استطلاع هلاله إلى الاحتفلات بعيد الفطر. وتتشابه الأجواء الرمضانية فى كل القرى، تبدأ ارهاصاتها بعد صلاة العصر فى الجامع العتيق، حيث يلتقى الكبار فى مجموعات، ويجلسون فى أركان الرَهَبَّة يراقبون لهو الصغار وجولات الصبيان بألعاب شعبية عتيقة أبرزها الكوتشينة والدومنو والطاولة، وأحيانًا الحُكشة التى تطورت فيما بعد إلى دورات كروية رمضانية، وكثيرًا ما كان الكبار يقطعون حكاياتهم المشتركة وتسابيحهم فى السبح الطويلة، ويوقفون مغازلهم لصوف الغنم لكى يوقفوا خناقات الأطفال والصبيان لخلافات التنافس فى لهوهم وألعابهم الشعبية.

ولا يتنافس الصغار فى اللهو والألعاب فقط، لكن تنافسهم يمتد إلى صيام الشهر الكريم نفسه، ويتفاخرون بذلك أمام الكبار، وقبل أذان المغرب يتوافد الصائمون إلى الرَهَبَة وأمام الجامع العتيق ينتظرون مدفع الإفطار، وبعد الإفطار الذى يعقبه شاى الكنكة والسيجارة الملفوفة بدخان العلبة المعدنية، يذهبون إلى الجامع، ويلحق بهم الصبيان والشباب لأداء صلاتى العشاء والتراويح، كانت صلاة التراويح عشرين ركعة من قصار التلاوة والسور، وبعدها يعودون إلى الدواوير لإحياء ليالى رمضان بتلاوة القرآن الكريم، وبعض التواشيح والمدائح النبوية، وربما يصطف الناس فى صفوف الأذكار الشعبية مثل تك التى تُقام فى الموالد، وهكذا يمتد الحال حتى حلول السحور، وفيه تتقاسم بيوت العائلة تقديمه للحضور على مدار الشهر الكريم، وتتكرر هذه الأجواء كل يوم حتى صلاة العيد فى الجامع والرَهَبَّة، وكان من المعتاد زيارة القبور وتوزيع الصدقات ومأكولات العيد من مظاهر الاحتفال بعيد الفطر.

لم تعد هذه الأجواء بنفس زخم الماضي، ولم يبق منها إلا القليل، لكن الرَهَبَّة والجامع لم يتغيرا.

عشوائيات لتشويه جمال الصورة

السبت

هل أخذت القصور والفيلات فكرة تصميمها من بيوت الأرياف؟ هذا السؤال كان يردده صديقى القديم أشرف من عائلة البارودى بأسيوط، وكان زميل دراسة فى المرحلتين الاعدادية والثانوية بمدرسة إسماعيل القباني، ثم ناصر العسكرية، وكان يفاجئنى به كلما زارنى فى قريتى خلال الاجازة الصيفية، وطبعًا ليس المقصود تلك الفخامة والتكاليف الباهظة للقصور والفيلات، لكن ما كان يعنيه هو بساطة ورُقى التصميمات، فقد كانت بيوت القرى تُبنى بسلالم داخلية تنقل أفراد ساكنيها إلى غرف أعلى بطابق أو طابقين، ويُخصص الدور الأرضى لغرف الخزين واستقبال الزوار على مقاعد كبيرة، تفرشها مفارش متواضعة، ويعرفها أهالى الأرياف بكنَبْ ودِككّ خشبية، ومازالت العديد من البيوت العتيقة تحتفظ بالشكل والطابع القديم.

ومازال أبناء الأرياف يتمسكون بتلك الطبائع الاجتماعية، وبحق الجار على الجار، وبالملكية المشتركة للطريق العام، وهذه من المُسلمات عندهم، ومن النواقص عند أبناء المدن، وتكاد تكون من المُحرّمات فى المجتمعات العمرانية الجديدة، وغياب هذه الفضائل يفتح الطريق أمام المخالفات وأنانية الافعال، ويتفاقم الإهمال واللامبالاة نحو البنية الأساسية والممتلكات العامة، وهذا يؤدى إلى أعمال وتصرفات عشوائية مثل تلك التى تحدث فى العشوائيات، وهذا أيضًا ما بدأت بوادره فى أحد أرقى مناطق التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة، وتحديدًا فى المستثمرين الجنوبية الأولى والرابعة، والأغرب أن فى جهاز المدينة يعلمون ما يحدث من تجاوزات ومخالفات، ويتجاهلون ردعها وإصلاحها، بل يلاوعون الذين يغارون على جماليات المنطقة وبنيتها الاساسية بالوعود الكاذبة.

نعم كنت مثلك يا عزيزى القارئ، أتعجب من ترديد البعض لمثل هذا الكلام عن بعض الإهمال فى هذه المجتمعات الراقية، ولم أعد اندهش لما لمسته من مخالفات صارخة، وأصبح من المعتاد أن يقوم أحدهم بالحفر فى الطريق لكى يمد ماسورة صرف صحى عشوائية إلى البيارة ، ويتجاهل التصميم الحضارى الذى سبق اعداده بتوصيلات هندسية لكل عمارة أو فيلا، والاغرب أن هذا العمل العشوائى يكون من أجل حمام عشوائى وظاهرًا للعيان بجوار الأسوار، والاغرب كثرة حالات العمارات المهجورة بلا تشطيب أو تجهيزات، ويتم توصيلها بمياه وكهرباء مسروقة، وتحولت إلى مأوى وبؤر، ويقطنها العمال ومن لا مأوى لهم ومنهم المنحرفون والخارجون عن القانون. 

وبمرور الوقت تتفاقم ظاهرة النباشين، وتنتشر أكياس ومخلفات الزبالة فى الطرقات، وتقع العديد من حالات السرقة التى تشمل حتى البلاعات وأبواب غرف الكهرباء، وكل ذلك وأكثر يعلمه كبار المسئولين فى جهاز القاهرة الجديدة، وسبق إبلاغهم به، ولم تقتصر شكوى المتضررين فى ذلك، بل انها امتدت الدهشة من استبعاد رئيس جهاز سابق لمسئولين كانوا يتصدون للمخالفات والتجاوزات. 

كانت للفقراء وتحولت للأغنياء!

لكن الأغرب، هى تلك المعلومة التى قد لا يعرفها حتى سكان القاهرة الجديدة أنفسهم، وهى أن تجمعات هذه المدينة الفاخرة لم تكن مُخططة لهم فى البداية، وكان التخطيط على أن تكون تجمعات يسكنها الفقراء والمهمشون الذين يتزاحمون فى المناطق العشوائية، والتى تفاقم انتشارها فى مدينتى القاهرة والجيزة، وأصبحت بؤرًا خطرة فى كل شيء.

 وقد كشف لى هذه الحقيقة الخبير المعمارى المهندس حسين صبور صاحب أحد أعرق المكاتب الاستشارية فى الشرق الاوسط، واختصنى قبل وفاته بتسجيل سيرته الذاتية، وكذلك بالعديد من الأسرار والحكايات فى عشرات التسجيلات الصوتية، روى فيها أن الدكتور محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان والتعمير الأسبق، حاول تنفيذ المشروع بإقامة عدة تجمعات سكنية فى صحراء شرق القاهرة المعروفة حاليًا بالقاهرة الجديدة، وفى مدينة 6 أكتوبرلكى يتم نقل أهالى العشوائيات إليها.

وطوال عقد التسعينيات، لم ينجح الوزير الأسبق فى تنفيذ هذه التجمعات السكنية، ويرجع السبب إلى صعوبة تدبير التمويل اللازم للمشروع ولتلبية احتياجاته، فاهتدى الوزير إلى فكرة تحويل مسار المشروع لكى يكون لشريحة الأغنياء والقادرين بدلًا من الفقراء والمهمشين، وحصل فى ذلك على الضوء الأخضر من الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وقبل حتى عرض فكرته على الحكومة.

ونجحت الفكرة فى إقامة تجمعات راقية بتخطيط عمرانى فاخر فى كل شيء، وأقبل المستثمرون والأغنياء على شراء الأراضي، بل إن الاسعار كانت تشمل تكاليف وإنشاء البنية الأساسية من طرق وكهرباء ومياه وصرف صحى وغاز طبيعي، ومسطحات خضراء، وساهمت أيضًا الإيرادات الهائلة فى إنشاء مساكن وأحياء لمحدودى الدخل فى محيط وأطراف كل من التجمع الأول والثالث والخامس.

وكان المشروع العملاق بالفعل نواةً لنهضة عمرانية فاخرة بشرق القاهرة، وأصبح يعانى من إهمال يُمهد الطريق لبذرة العشوائيات.