أول من صنعه لـ«مسجد الرسول» كان قبطياً

حكايات| «منابر المساجد».. إبداع عابر للعصور

منبر الرسول بالمسجد النبوى
منبر الرسول بالمسجد النبوى

كتب محمد نور

 

تفنن المسلمون فى صنع المنابر وأبدعوا، حتى كانت المنابر إحدى المجالات التى أظهرت تذوقهم الجمالى وقدرتهم على الإبداع بكل قوة، ويشهد تاريخ المنابر أنها بدأت بشكل بسيط جدًا ومتواضعة للغاية، إلا أنها لم تلبث أن انطلقت سريعًا - مع عصر المساجد الكبرى فى المدن الرئيسية - حتى غدت معلماً بارزاً من معالم المسجد أينما كان، بل ومحط إعجاب الدارسين لعناصره، والمتتبعين لفن العمارة الإسلامية.

كما أنها لم تعد أماكن للحديث والخطابة فقط، بل تعددت وظيفتها الأولية إلى مدى أبعد، وأصبحت مظهرا من مظاهر السيادة والقيادة، وعلامة على الغنى والذوق ومقاما رفيعا ساميا لا يتعلق به إلا أهل العلم والدعوة.

ويقول عالم الآثار الدكتور ضياء زهران، إن نشأة المنبر جاءت عندما بنى النبى مسجده، حيث كان المنبر مرتفعا عن الأرض إلى جانب المحراب، ويروى البخاري فى كتاب الصلاة، أن النبى كان يصلى على منبره، وهذا لا يمكن إذا كان المنبر على شكله الحالى أو قريبا منه، ولابد أنه كان مساحة مرتفعة تكفى لإقامة الصلاة عليها، ربما كانت مبنية من الآجر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ولفت  إلى ما ذكره الديار البكرى فى سيرته المسماه الخميس فى سيرة أنفس النفيسب، وبرهان الدين الحلبى فى السيرة الحلبية من أن من صنع المنبر الخشبى كان قبطيا أو روميا يسمى باخوم أو باقول، وأنه صنعه من درجتين ثم مقعد يجلس عليه الرسول، وأن هذا المنبر لابد أنه حل محل المنبر المبنى الأول، وهنا نشهد ميلاد المنابر الخشبية، كما يقال إن الرسول كان يقوم أول الأمر إلى جزع فى المسجد أى إلى جوار أحد جذوع النخيل التى كانت تقوم مقام الأعمدة فى الجزء المسقوف ثم اتخذ له منبرا من درجتين.

أضاف، أن عمرو بن العاص اتخذ منبرا له فى مسجده بالفسطاط، فكتب إليه عمر بن الخطاب يأمره بكسره قائلا له: اأما يكفيك أن تقوم قائما والمسلمون جلوس تحت عقبيكب فكسره، ويقال إنه أعاده بعد وفاة عمر، وفى عهد معاوية بن أبى سفيان أول خليفة أموى صنع لنفسه منبرا خشبيا متنقلا من ست درجات ومقعد، وعندما ذهب إلى مكة حمله معه إلى هناك كأنه رمز سلطانه وقد تركه فى الحرم المكى وظل هناك حتى أيام الرشيد، وكان بعض خلفاء بنى أمية يحملون منابرهم معهم إذا انتقلوا كما فعل معاوية، وهذا جعل المستشرق الألماني اكارل هاينريخ بيكرب يقول إن المنبر كان رمز سلطان، وهذا وهم منه، فالمنبر جزء من المسجد، وحمل بعض خلفاء بنى أمية منابرهم معهم يفسر بأنهم لم يكونوا واثقين من وجود منابر خشبية مهيأة على النحو الذى يريدون فى المواضع التى سيزورونها.

أقدم منبر

ويوضح زهران، أن أقدم منبر قائم حتى الآن من الخشب ومازال بحالة جيدة يوجد فى المسجد الجامع بالقيروان، ويعود إلى القرن 3 هـ / 9 م، وشأن المنبر كان كسائر العناصر المسجدية، تفنن المسلمون فى صنعه وأبدعوا منه روائع تعد بحق من الإنجازات الفنية الراقية، مُشيرًا إلى أن أشهر المنابر فى مصر هو منبر جامع عمرو بن العاص، حيث قام عمرو بن العاص باتخاذ منبرًا له فى مسجده بالفسطاط، فقد كتب إليه الخليفة عمر بن الخطاب يأمره بكسره فكسره، ويقال إنه أعاده بعد وفاة عمر، ثم قام الأمير قره بن شريك بهدم المسجد سنة 93هـ بأمر من الخليفة الوليد بن عبد الملك ثم زاد فى مساحته وأحدث فيه محرابا مجوفا ووضع به منبرا خشبيا سنة 94هـ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

منبر لاجين

كما يعد منبر جامع أحمد بن طولون بجوار المحراب بالمسجد منبرا خشبيا جميلا اتخذت حشواته من خشب الساج الهندى والأبنوس، حيث دقت بالأويمة الدقيقة بنقوش مورقة فى منتهى الدقة، لافتا إلى أن هذا المنبر ليس القديم للجامع، لكنه من عمل الملك لاجين المنصورى سنة 696هـ/1296م، وهو الذى نقل المنبر القديم إلى الجامع الظاهرى بالمنشأة على شاطئ النيل، وقد تلاشى الجامع الظاهرى والمنبر، ولم يبق لهما أثر، أما منبر لاجين فقد بقى حتى سنة 1845 ثم امتدت إليه الأيدى بالسلب والنهب حتى اعتنى هرتس باشا بجمع حشواته من أوروبا، وصور لحشوات أخرى استعان بها مع الباقى منه على إصلاح المنبر وإعادته إلى أصله، ومكتوب على بابه: أمر بعمل هذا المنبر المبارك مولانا السلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدين لاجين المنصورى فى العاشر من صفر سنة ست وتسعين وستمائة.

وعلى يمين المنبر باب كان يؤدى لدار المارة، منبر المشهد الحسينى، وفى سنة 1379هـ/1862م أمر الخديو إسماعيل باشا بنقل منبر جميل كان فى جامع أزبك بن ططخ بالأزبكية منبر قبة ومسجد الأمام الشافعى منبره مطعم بالسن والأبنوس، وكان الفراغ من عمله سنة 1310هـ/1892م منبر جامع قوصون يجاور المحراب منبر من الخشب المجمع بأشكال هندسية وقد وصف بريس دافين المنبر وحشواته الدقيقة، ونعته بأنه تحفة فنية، تفوق نقوشه نقوش منبر جامع طلائع بن رزيك بقوص، ونشر له فى كتابه الفن العربى أربع لوحات تناولت تفاصيله الدقيقة. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 أقدم منبر رخامى 

ويشير زهران إلى أن منبر جامع آق سنقر (إبراهيم أغا) به منبر رخامى ملون، ودرابزينه حافل بالزخارف البارزة المورقة وعناقيد العنب، وهو أقدم منبر رخامى باقٍ فى مساجد مصر يليه منبر مدرسة السلطان حسن، أما منبر مسجد الخطيرى فيعد من أقدم ما عرف من منابر رخاميةتوقد أنشئ أسنة 737هـ/1337م وبقاياه محفوظة بدار الآثار العربية (متحف الفن الإسلامى)، وبالنسبة لمنبر جامع شيخو الناصر والذى بنى من الحجر وقد دقت قوائمه وجوانبه بزخارف جميلة كما حليت أعمدته وتيجانها بزخارف كانت ملونة، ويروى أن الحاج محمد بن شعبان بن سعيد النقلى هو من أمر بعمل المنبر، الذى يعتبر ثانى منبر حجرى، أنشأه السلطان قايتباى لخانقاة فرج بن برقوق سنة 888هـ/1483م.

 

 

 

 

 

 

 

كما يعد منبر مدرسة صرغتمش بجوار المحراب وهو منبر مجمع مكتوب عليه: اأنشأ هذا المنبر من فضل الله تعالى قيومجى أحمد كتخداى عزبان عمره الله سنة 1118هـب، لافتا إلى وجود العديد من المنابر مثل منبر مدرسة أم السلطان شعبان وهو منبر خشبى بسيط أمر بعمله الأمير على أحد أمراء الجراكسة، ومنبر مسجد سلطان شاه ويجاور المحراب وهو منبر خشبى مجمع امعقلىب وهذا المنبر كبقية المنابر المنشأة فى عصره دقيق الصناعة، حشواته مطعمة بالسن، ومدقوق بالأويمة الدقيقة، وقد بقى هذا المنبر إلى حوالى سنة 1288هـ/1871م حيث تصرف فيه بالبيع ناظر المسجد محمد أفندى الكريدلى بمبلغ 250جنيها إلى أحد الأجانب فأخرجه من مصر ولما علم الخديو إسماعيل باشا ذلك حكم على هذا الناظر وعلى النجار الذى تولى فكه بالنفى إلى البحر الأبيض بالسودان فمات الناظر هناك، وكان المسجد قد تخرب فأمر الخديو إسماعيل باشا بإصلاحه، وجدد وجهته العمومية وذلك فى سنة 1389هـ/1872م، كما أمر بعمل منبر له، أما المنبر القديم فقد طوحت به الأقدار إلى أن استقر فى المتحف البريطانى بلندن وعندما قام مرقس سميكة باشا (مؤسس المتحف القبطى) وعضو لجنة حفظ الآثار العربية بزيارة للمتحف البريطانى عام 1933م رأى هذا المنبر وقرأ اسم قايتباى عليه، فأحضر صورته الفوتوغرافية وأهداها إلى إدارة حفظ الآثار العربية.

واختتم، أن هناك العديد من المنابر التى توجد فى المساجد بمصر منها منبر مسجد الفتح الملكى عابدين يجاور المحراب منبر من الرخام المحلى بنقوش ذهبية، مقتبس من منبر سليمان باشا القلعة ومنبر يلبغا السالمى بجامع الأقمر، ومنبر بكتمر الجوكندار بجامع الصالح طلائع، ومنبر أزبك بن ططخ بمدرسة السلطان قلاوون، ومنبر مدرسة السلطان حسن، ومنبر مسجد الرفاعى، ومنبر جامع محمد على بالقلعة، ومنبر جامع الغورى ومنبر مسجد أبى العلا ببولاق.

رمزية المنبر

الدكتور سامح البنا، رئيس قسم الآثار بجامعة أسيوط، يرى أن المنبر فى المساجد الجامعة كانت له دائما أهمية دينية وسياسية وإدارية، ففى أول الأمر لم يكن هناك منبر إلا فى جامع الرسول فى المدينة، ولم يأذن عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص فى اتخاذ منبر فى مسجده فى الفسطاط، كأنه كان يرى أن المنبر لا يكون إلا للخليفة، وفى أيام عثمان ظهرت منابر الأمصار فأصبح لكل مصر (بلد) منبر فى العاصمة، أما المساجد الأخرى فلا منابر لها.

أضاف، وبعد ذلك أصبح لكل مدينة كبيرة الحق فى أن يكون لها مسجد جامع ذو منبر، أو مسجد ومنبر، وهنا نجد أن المنبر أصبح رمزًا للمدن الكبرى، أى المراكز الإدارية التى يمتد سلطان كل منها على ناحية واسعة، وبهذا الاستعمال يرد لفظ المنبر عند ابن حوقل والمقدسى مثلا، وهذا لا يمنع من القول بأن كل المساجد الأخرى كانت لها منابر، وكانت تصلى فيها الجُمعات، ولكن المسجد ذا المنبر هو المسجد الرسمى الذى يُصلى فيه حاكم البلد أو أمير الولاية، ويخطب فيه خطيب معين من الدولة وخطبته - على هذا - لها معنى رسمى.

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 12/4/2023