حكايات| كُتاب «الشيخ صالح».. تحفيظ الأطفال القرآن من غير فلكة

الكتاتيب العصرية
الكتاتيب العصرية

كتب: هانئ مباشر

تحت ظل شجرة توت عتيقة وعلى ضفاف «مسقى» ترعة صغيرة، يجلس الأطفال متراصين في حلقة على حصيرة من البلاستيك مفروشة على الأرض، عقب صلاة العصر وحتى صلاة المغرب كل يوم لحفظ القرآن الكريم على يد «الشيخ صالح» المحفِّظ بأحد «الكتاتيب» التابعة للمنطقة الأزهرية بمحافظة البحيرة.

وهو واحد من آلاف الكتاتيب المنتشرة في ربوع مصر، ويقوم عليها محفِّظون ومحفِّظات يتولون تحفيظ الأطفال القرآن الكريم، حيث تحرص كل أسرة على تحفيظ أبنائها كتاب الله منذ نعومة أظفارهم، بمجرد أن يبدأوا في نطق الكلام.

ولا يزال الشكل التقليدي للكتّاب الذى لم يخرج عن تلك القطعة الصغيرة من الأرض أو ربما حجرة في بيت شيخ القرية أو كما كان يُطلق عليه «سيدنا»، يجلس التلاميذ ملتفين حوله في حلقة، لتلقي علم قراءة القرآن الكريم والكتابة وكذلك الحساب، وإن لم يعد بها الألواح الخشبية والمحبرة أو حتى استخدام وسائل قديمة كالفلقة، أو «الفلكة» بالعامية، مثلا لعقاب الطلاب المقصرين في الحفظ، فالكتاتيب العصرية تقوم على الحب والترغيب لا الترهيب.

 

 


تلك هي «الكتاتيب»، التي لا يعرف الكثير من أبناء الجيل الجديد، كم أخرجت من علماء وجهابذة لهذه الأمة، لكنها شهدت ولفترات زمنية ليست بالقصيرة تراجعا شديدا لدورها عقب استبدالها بالحضانات، التي لاقت إقبالا أكثر من الأهالي لتعليم أبنائهم بها، ومع هذا التراجع تلقفت الجماعات المتطرفة الدور الذى كانت تقوم به الكتاتيب واتخذتها وسيلة لجذب عناصر جديدة من بين الأطفال، خصوصاً أولئك الذين يسهل تجنيدهم وتغذيتهم بفكر تلك الجماعات، لذلك كان اهتمام "الإخوان" خلال عام حكمهم بالكتاتيب التي تغير مسماها إلى "مراكز التحفيظ".
وما بين هذا التراجع والعودة مرة أخرى إلى اهتمام الناس من جديد ومن ثم السير على طريق استعادة تلك المكانة مرة أخرى دارت الكثير من الحكايات والحوادث!.

كُتّاب الشيخ صالح

يبدأ «الشيخ صالح» تلاوة القرآن بصوت عالٍ، بينما يردد الأطفال وراءه بصوت عالٍ، حيث يعتمد على طريقة «التلقين» في الحفظ، وعقب الانتهاء من ترديد السورة عدة مرات كي يحفظها الأطفال، يجلس بينهم، ثم يبدأ في «تسميع الماضي» لهم، أي السورة التي طلب حفظها منهم في المنزل في اليوم السابق، بالترتيب من الجزء الثلاثين وحتى الجزء الأول، وذلك حتى ينتهى التلميذ من حفظ القرآن كاملا.

أعمار الأطفال الذين يحفظون القرآن في هذا الكتّاب، تتراوح بين ثلاث سنوات وحتى ١٢ عاما، ومن يختم حفظ القرآن كاملًا يتوقف عن الذهاب للكتّاب، بينما يحرص عدد منهم على الاستمرار في الذهاب للكتاب للمراجعة كي لا ينسى ما حفظه.
الشيخ صالح قال لنا: أحرص على تنظيم مسابقات شهرية لحفظة القرآن الكريم، مع تقديم جوائز بسيطة لهم لتشجيعهم على الحفظ وختم القرآن، كما أنهم يشاركون في مسابقات يتم تنظيمها في قطاعات المعاهد الأزهرية، بالإضافة إلى مسابقات أخرى تنظمها مديرية الأوقاف يحصل خلالها الفائزون على جوائز مادية وعينية وشهادات تقدير.

المهنة لم تعد مقصورة على الرجال بل دخلت حواء وبدأت في ممارستها وبقوة، تقول "الشيماء صلاح.. إحدى محفِّظات القرآن": إنها تقوم بتلاوة وتسميع القرآن الكريم، إضافة إلى تقديم دروس من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعاليم الدين الإسلامي وسماحة الإسلام، كما تبين لهم الأفكار المتطرفة.

الشيخ مصطفى أحمد، أحد أقدم المحفِّظين، في تلك الكتاتيب التي تحولت إلى واحدة من بعض أنشطة الجمعيات الخيرية ومن بينها تقديم دروس حفظ وقراءة الكريم يقول: إن "الكُتّاب" كان بمثابة مدرسة يدرّس به كل العلوم، وأن خريجيه أفضل من خريجى جامعات اليوم، والميزة في الكتاتيب أنها كانت تعلم بطريقة صحيحة، وتهتم بالطفل جيدا، وتعلمه مخارج الحروف والنطق الصحيح والقراءة السليمة الواضحة، وقراءة القرآن كانت بالترتيل لأن القرآن بالتلقي وربنا قال "وإنك لتلَّقى القرآن من لدن حكيم عليم".

علامات مضيئة
وعلى مر التاريخ ومنذ ظهورها خرج من تلك "الكتاتيب" علامات مضيئة في حياة المصريين وفى سماء مصر العظيمة، من أمثال عمر مكرم ورفاعة الطهطاوي، والشيخ محمد عبده والشيخ الشعراوي وأحمد عرابي ومصطفى كامل، وأنور السادات وطلعت حرب ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم.

وبعض المؤرخين يعتبر "الكُتّاب" أول مدرسة في الإسلام، وذلك حينما جعل النبي (صلى الله عليه وسلم) فداء بعض أسرى بدر، ممن لا مال لهم، أن يعلم الواحد منهم الكتابة لـ10 غلمان ليخلي سبيله.

وانتشرت الكتاتيب في مصر لتحفيظ القرآن وتعليم اللغة ومبادئ الحساب، وأوقف لها الأغنياء "الأوقاف"، فيقول "الدكتور سيد محروس.. الأستاذ بجامعة الأزهر" في كتابه "الكتاتيب": إن عددها في مصر تجاوز 30 ألفاً في القرى والكفور، حيث كان يوجد في كل قرية من 6 إلى 8 دور لتحفيظ القرآن، وقد زاد الاهتمام بالكتاتيب خلال عهود الزنكيين والأيوبيين والمماليك، ونظر المسلمون إلى طلاب الكتاتيب كمصدر للخير والبركة والفأل الحسن، وعمل البر، للتقرب والتضرع للمولى جل وعلا.

المفاجأة أن المقرأة أو الكُتَّاب وُجد في حضارة مصر القديمة، حيث وُجدت كتاتيب ملحقة بالمعابد الفرعونية، وعرفت باسم "مدرسة المعبد"، وكانت تمنح شهادة للدارس تسمى كاتب تلقى المحبرة.

وفى العصر المسيحي استمرت الكتاتيب أيضا لتعليم أجزاء من الكتاب المقدس والمزامير، وكتاتيب المسلمين بُنى لبعضها مبانٍ مستقلة ملحقة بالمساجد أو منفصلة أو في بيوت المحفظين وأمامها، وخرّجت الكتاتيب عظماء الفقهاء والحفظة، وعُرف معلمو الكتاتيب بالمؤدبين والمشايخ ويساعدهم العرفاء واقتصرت مناهجها على القرآن والحديث ومبادئ القراءة والحساب وتحمل أولياء الأمور نفقات تعليم الأبناء بها.

وفى الوقت الذى تنتشر فيه هذه العلوم في الهواتف المحمولة والإنترنت والتكنولوجيا، إلا أنّ "الكُتّاب" لا يزال تراثا قديما يحافظ عليه أهالي الكثير من القرى والمدن في مختلف المحافظات، خصوصا أن تلك "الكتاتيب" - من وجهة نظر الأهالي - تساهم في تنشئة الأطفال بصورة صحيحة بعيدا عن الأفكار المتطرفة.

تحت الرعاية
الدكتور بكر زكى عوض، عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، يقول: كان الكتّاب في الماضي المصدر الأول للمعرفة الدينية الهادئة من خلال القرآن الذى يتم حفظه من ناحية، وبعض الكلمات المتعلقة بالتوحيد أو السيرة أو التكاليف الشرعية كالصلاة، وما شابه ذلك من ناحية أخرى، وقد أثمرت هذه الكتاتيب سيرة علماء أمة الإسلام، سواء كان ذلك في مصر أو في خارجها.


لقد أدرك الأزهر ووزارة الأوقاف أن رعاية الكتاتيب مسئولية دينية، باعتبارها القنوات المشروعة التى تغذى الأزهر بالطلاب، وتغذى الأوقاف بخريجي الأزهر، فبدأت العناية بالكتاتيب للذين يحفظون القرآن عن طريق المسابقات المستمرة التى تصرف جوائز للناجحين وتصرف في الوقت نفسه للمحفظين، مع حرص وزارة الأوقاف على أن ترعى الكتاتيب بشكل مناسب، وأن تبقى هذه الكتاتيب مستقلة، فلا توجه الطالب إلى جماعات أو تيارات معينة، ولا تنشر الفكر المتشدد، ولا أن يتم تعميمها فى جميع ربوع مصر، من كفور ونجوع ومراكز ومحافظات، من أجل تقوية المدرسة المصرية في حفظ القرآن الكريم، لنشر الإسلام الوسطى.

رواق الطفل
في الجامع الأزهر وتحديدا في رواق الطفل الأزهري لحفظ القرآن الكريم وعلومه، يتوافد يوميا مئات الأطفال بصحبة أولياء أمورهم الذين حرصوا على إلحاق أبنائهم في هذا البرنامج الذى يهدف إلى تحفيظ القرآن، وفى إطار رعاية فكرية ونفسية وبأسلوب علمي جديد يكون فيه متابعة وتنظيم بوجه دائم، وفى ظل دراسة مجانية بالكامل ومفتوحة لكافة المصريين، وليس الأزهريين فقط، بمختلف مستوياتهم التعليمية وأمام البنين والبنات.

ويتم تنظيم الدراسة على مستويات، الأول يبدأ من سن خمس إلى ست سنوات، ثم تأتى بعد ذلك المستويات التي لها منهج مقرر ومدروس، وتم تخصيص مكتب خاص في كل محافظة للرواق يضم 7 من المنتدبين من المعاهد الأزهرية لكى يتابعوا سير الأروقة، ويرفعوا التقارير اليومية والأسبوعية والشهرية إلى الجامع الأزهر الذى يوجد به غرفة عمليات من أجل متابعة عمل الأروقة في كافة المحافظات.

ومن يقومون بعملية تحفيظ الأطفال القرآن الكريم، هم من العاملين في المعاهد الأزهرية والوعظ، ويتم مقابلتهم في مسألة تحفيظ القرآن الكريم من خلال لجنة مراجعة القرآن الكريم في مجمع البحوث الإسلامية، كما يتم عمل مقابلات فكرية معهم من خلال لجنة تضم عددا من علماء الأزهر للاطمئنان على أن من يقوم بهذه المهمة يتفق مع منهج الأزهر الشريف عقيدة وفكرا ومنهجا، ولم يُقبل شخص وجدت عليه مجرد شبهة واحدة، وهذه المسألة في مأمن كبير.

ولعل هذا الإقبال على الكتاتيب وانتشارها بمثابة رد عملي من المصريين أنهم يحبون الأزهر، ورد عملي على من يظن أن الدولة المصرية تحارب الدين كما يزعم البعض، فالدولة تشجع على كل فكر سليم يدعم إلى اللُحمة الوطنية وجعل المجتمع يعيش في سلم وأمان.

وبدورها، أطلقت وزارة الأوقاف عدة برامج للدروس والتحفيظ المجاني للقرآن الكريم تحت إشراف أئمة المساجد، كما أن هناك البرنامج الصيفي للأطفال، وهو يقام بالمساجد مجانا في فترات وحتى نهاية العطلة الصيفية، وتشتمل فعاليات البرنامج الصيفي للأطفال بالمساجد على تدريس وحفظ ومراجعة ما يتيسر من القرآن الكريم بالتجويد حسب قدرات كل طفل، وتفسير جزء عم من كتاب «المنتخب» في تفسير القرآن، والتوعية بموسوعة الدروس الأخلاقية، وتعليم بعض الآداب العامة، وكذلك دروس في السيرة النبوية بالإضافة إلى إصدارات سلسلة رؤية للنشء.

الكتاتيب العصرية
وقد أعاد  الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، الاهتمام بالكتاتيب لكن بمفهوم جديد، حيث أطلق مشروع "الكتاتيب العصرية"، وقال حينها: نعمل في اتجاهات متعدّدة للعودة بالكتاتيب إلى سابق عهدها في التحفيظ والتربية الأخلاقية، حتى لا يخرج علينا من يقتلنا باسم القرآن، ونسعى إلى ضبط مكاتب تحفيظ القرآن حتى لا نترك النشء فريسة لهؤلاء.
وتهتم هذه الكتاتيب بجانب تحفيظ القرآن بتدريس القيم الأخلاقية والوطنية وقد راعت وزارة الأوقاف أن يكون المحفِّظ من الشيوخ الوسطيين الذين تثق بهم الوزارة.