يوميات الأخبار

نصف قرن من التنوير

حازم نصر
حازم نصر

أراد القدر أن يكون رحيله الدرامى قصة تتوارثها الأجيال ليظل حيًا فى القلوب.. داهمته أزمة قلبية وهو فى طريقه لمؤتمر اتحاد الجامعات العربية مستقلًا سيارة أجرة مع البسطاء

17 مايو 1962

أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قرارًا بإنشاء كلية للطب فى المنصورة لتكون نواة للجامعة.. وكان أن وقع عليه الاختيار ليكون المؤسس وأول عميد لها بالتزامن مع الإعداد لإنشاء الجامعة.

ترك قاهرة المعز وعاد للمنصورة عروس الدلتا فى صيف ذلك العام لإنجاز المهمة فى ظل عدم توافر أى إمكانيات لتحقيق الحلم.

قام بمسح شامل للمدينة عله يجد ضالته فى مبنى يصلح كمقر للكلية الوليدة فلم يجد سوى بيت ناظر مدرسة المنصورة الثانوية للبنين الملاصق للمدرسة.
حصل على المبنى بعد مفاوضات ماراثونية وقبل التحدى وتوجه مع بدء الدراسة بصحبة 159 طالبًا وطالبة كان لهم شرف أن يكونوا طلاب الدفعة الأولى للكلية التى تحولت بعدها بعقد واحد من الزمان لجامعة فريدة.

المرحوم الدكتور إبراهيم أبو النجا مؤسس جامعة المنصورة، لم يذق وقتها طعمًا للراحة.. استغل كل ركن من أركان بيت الناظر وطوعه لخدمة الكلية الوليدة.. وحتى المطبخ نجح فى تحويله لمعامل ومشرحة.

استقطب أفضل أعضاء هيئة التدريس من القاهرة ووفر لهم المنح الخارجية للانفتاح على أحدث المدارس الطبية فى العالم، كل فى تخصصه.. لم يتهاون فى ما يمكن أن يؤثر فى تكوين طبيب يكون نموذجًا فى أداء رسالته النبيلة.

عين وكيلًا لجامعة القاهرة فرع المنصورة بقرار جمهورى فى 11 مارس 1971 وكان مرشحًا لرئاسة جامعة شرق الدلتا بعد استقلالها عن جامعة القاهرة لكن القدر لم يمهله حتى صدور هذا القرار عام 1972.

استطاع أبو النجا خلال عشر سنوات فقط أن يؤسس جامعة المنصورة حيث كان يحمل الطوب ومواد البناء على كتفه أثناء تأسيسها وحقق داخلها روح الأسرة الواحدة فحافظ أساتذتها على التقاليد التى رسخها المؤسس العظيم.

أراد القدر أن يكون رحيله الدرامى قصة تتوارثها الأجيال ليظل حيًا فى قلوب الجميع.

كان فى طريقه من المنصورة للقاهرة لحضور المؤتمر الثانى لاتحاد الجامعات العربية فداهمته أزمة قلبية بالقرب من مدينة أجا وهو يستقل كعادته سيارة أجرة مع المواطنين البسطاء حتى لا يحمل الجامعة الوليدة تكاليف سيارة يتنقل بها.

عاد به السائق مسرعا لمستشفى جامعة المنصورة أملًا فى إنقاذه لكن روحه الطاهرة فاضت إلى بارئها ليلقى ربه راضيًا مرضيًا عن عمر لم يتجاوز الثامنة والخمسين عامًا بعد أن ترك ما عجز عن تحقيقه الكثيرون..

احتفلت الجامعة العام الماضى بيوبيلها الذهبى ومرور خمسين عامًا على إنشائها.. وهذا العام تحتفل بمرور نصف قرن على صدور القرار الجمهورى بتغيير اسمها من شرق الدلتا لجامعة المنصورة عام 1973.

أطلال ذكريات الطفولة

ما تبقى من أطلال ذكريات الطفولة كان مرتبطا بالجامعة.. فقد اصطحبنى والدى رحمه الله وكان المعلم المثالى على مستوى الجمهورية وقتها ومعه ناظر مدرستنا المثالى أيضا المرحوم الأستاذ عبد الله عويدات وهما يجمعان التبرعات لبنائها.

كان ذلك منذ أكثر من نصف قرن من الزمان أتذكر جولاتهما التطوعية بكل تفاصيلها وكأنها بالأمس.. لا أنسى علامات البهجة وهى ترتسم على وجه كل منهما ـ وكانا يتسمان بالسماحة والصلاح ـ عندما يتضاعف المبلغ الذى يجمعانه لصالحها.

لم أدرك الحكمة من اصطحابى فى تلك الجولات إلا بعدها بأعوام طويلة عندما احتضنت الجامعة جيلنا وما تلاه من أجيال وأصبح شقيقى الأصغر د.عابد نصر أحد أساتذتها النابهين فى مجال الفيزياء الهندسية.

اقتربت من رؤسائها بدءًا من الفقيه القانونى الدكتور عبد الفتاح حسن بالتزامن مع بدء حياتى العملية فى ثمانينات القرن الماضى.

استمر اقترابى من رؤسائها العلماء المحترمين محمد عمارة وأحمد أمين حمزة ويحيى عبيد وأحمد جمال الدين موسى ومجدى أبو ريان وأحمد بيومى شهاب الدين والسيد عبد الخالق ومحمد قناوى وأشرف عبد الباسط ورئيسها الحالى شريف خاطر.

كما اقتربت من علمائها وقاماتها ودرة تاجها عالم مصر الكبير محمد غنيم وعبد المنعم البدراوى ومحمد عبد المقصود النادى وفاروق عزت ومحمود نور الدين وسعيد عاشور وصلاح الحمادى وعلى حجازى وصالح عطية.. ومن قيادتها وعلمائها وأساتذتها الذين يصبون فى شرايينها علمًا وفكرًا بجانب جهودهم المضنية لإعداد أجيال قادرة على تحمل مسئوليات جسام فى ظل التحديات العاتية التى تواجه الوطن.

فلا يخفى على فطن الحاجة الملحة لخلاصة عقول علمائنا والعالم يقفز للمستقبل مرتكزًا على التعليم والبحث العلمى وما ينجم عنهما من ثورات تكنولوجية لم تخطر يومًا على بال ويتحتم علينا مواكبتها.

استرجعت جانبًا من أطلال تلك الذكريات وأنا أطالع ترتيبها فى تصنيف الجامعات وتقدمها فى أهم تصنيف عالمى حيث قفزت لمراكز متقدمة خاصة فى العلوم الطبية والصيدلية والهندسية وعلوم الحياة..

تولى ثلاثة من بين أفضل أساتذتها مسئولية وزارتى التعليم والتعليم العالى وهم الدكاترة أحمد جمال الدين موسى والسيد عبد الخالق والهلالى الشربينى..

والمرحوم الدكتور عبد العظيم وزير محافظًا لدمياط والقاهرة والدكتور رضا عبد السلام محافظًا للشرقية بجانب الكثير من أساتذتها الذين أثبتوا جدارة كبيرة فى كل المواقع التى شغلوها داخل مصر وخارجها.

فبراير 2022

دعانى الصديق الدكتور أشرف عبد الباسط رئيس الجامعة السابق للحديث عن تاريخ الجامعة فى لقاء اختار له مدرج المؤسس الدكتور أبو النجا بكلية الطب فى إطار الاحتفال بيوبيلها الذهبى..

وحرص رغم مشاغله على حضور اللقاء ومعه نائبه الدكتور محمد عطية البيومى ولفيف من نواب رؤساء الجامعة وعمدائها وأساتذتها وطلابها.

استقبلنا عميد كلية الطب المتميز الدكتور أشرف شومة ووكلاء الكلية وضاعف من سعادتى أن كان من بين الحضور الصديق المثقف النبيل الدكتور عمرو سرحان عميد الطب الأسبق وأحد أعلام الجامعة ورئيس لجنة التأريخ للجامعة، التى أشرف بعضويتها.

اخترت وقتها عنوانًا للمحاضرة:

«نصف قرن من التنوير وصناعة المعرفة»

وخلال حديثى اكتشفت صعوبة الإحاطة بجانب واحد من تاريخ الجامعة فى عدة محاضرات فاضطررت لإلقاء الضوء تلغرافيًا على بعض جوانب تميزها.
ويكفى أنها حولت المنصورة لعاصمة مصر الطبية وأصبحت مؤهلة كعاصمة للطب العربى والإفريقى بمراكزها الطبية العالمية والتى يقوم على إدارتها مجموعة متميزة من أفضل أساتذة الطب فى مصر فأصبحت قبلة كل باحث عن العلاج من داخل مصر وخارجها.

فى رحاب الله

امتد شوقى لزيارة بيت الله الحرام والصلاة بالروضة الشريفة وزيارة رسول الله لأكثر من عشرين عامًا بعد أداء فريضة الحج عام 2003..

وكان من حسن الحظ أن أكون بصحبة الأخ والصديق الدكتور محمد ربيع ناصر رئيس مجلس أمناء جامعة الدلتا للعلوم ونخبة من القامات الوطنية من الوزراء ورؤساء الجامعات من بينهم الدكاترة مفيد شهاب وعمرو عزت سلامة وأحمد زكى بدر والسيد عبد الخالق وإبراهيم فوزى وصالح هاشم ويحيى المشد وعبد الهادى القصبى رئيس لجنة التضامن بمجلس النواب وعدد من أعضاء مجلس أمناء جامعة الدلتا وقياداتها.

سعادتى تضاعفت وأنا ألمس على أرض الواقع هذا الود وذلك التلاحم بين قيادات وأبناء الشعبين المصرى والسعودى وأن تلك العلاقة تسمو على كل محاولات الصيد فى الماء العكر.

كل الألسن المغرضة والمحاولات اليائسة لجماعات الشر التى تتوهم أنها قادرة على العبث فى تلك العلاقة الأزلية لن تنجح فما بين الشعبين والقيادتين أعمق مما يتصوره هؤلاء الواهمون.

عودة طابا

منذ أيام احتفلت مصر بالذكرى الرابعة والثلاثين لعودة آخر شبر من أرض الفيروز.. فبعد النصر العسكرى الخالد الذى حققه أبطال قواتنا المسلحة فى عام 1973 وبعد النصر السياسى الذى حققه الزعيم الراحل أنور السادات بتوقيع معاهدة السلام عام 1979 استكملت مصر انتصاراتها فى معركة التحكيم الدولى بعد جهد قانونى وقضائى دولى استمر لمدة ستة أعوام شارك فيه نخبة من خيرة رجال الوطن وتوج فى عام 1989.

أحد هؤلاء الرجال الأستاذ والصديق القامة الوطنية الدكتور مفيد شهاب الذى يتحدث بفخر واعتزاز شديد عن تلك الذكرى باعتباره يومًا خالدًا فى تاريخ انتصارات مصر.

طلبت منه أن يدون مذكراته عن تلك المعركة وغيرها من الأحداث المهمة التى عايشها.. وأثق أنه سيحرص على أن يتركها لذاكرة الوطن لتدرك الأجيال قدر التضحيات والجهود التى بذلها رجال مخلصون يدركون قيمة وطن عظيم يستحق كل التضحية والبذل والعطاء.