يوميات الأخبار

صالح الصالحي يكتب: النظام العالمي الجديد

صالح الصالحي
صالح الصالحي

الآن يمكن بوضوح القول بأن الحرب الباردة عادت من جديد بين الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي روسيا والصين. 

كثيراً ما كانت هناك توقعات وسيناريوهات حول الشكل الجديد للنظام العالمى .. كانت تجتهد فى خلق صور نحو افتقاد الولايات المتحدة لدور الهيمنة الذى احتلته بعد انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتى فى أوائل تسعينيات القرن الماضى .. فقد سيطرت الولايات المتحدة على المشهد على مدار أكثر من أربعة عقود ورغم ذلك كانت دائما هذه السيناريوهات لا تغفل صعود روسيا والصين والاتحاد الأوروبي كقوى كبرى مؤثرة آخذة فى التزايد والتى من شأنها إعادة تشكيل هذا العالم، ولم يكن أحد يتوقع أن يكون هذا التشكيل بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التى حققت هذا الشكل فى عام واحد فقط، وخلقت معه قوى جديدة وتصارعات وتنافسات عديدة. 

فتتعاظم الاضطرابات وتتجه بقوة لمنطقة الشرق الأوسط التى تعلن بجدارة أنها بؤرة المصالح العالمية.. فى مشاهد تعضد من الارتباك العالمى فى صور متعددة.. غواصة نووية أمريكية واقتحامات لباحة المسجد الأقصى وتحرشات أمريكية بالصين فى بحر الصين الجنوبى وأخرى صينية بتايوان.. وموجة تصالحات فى منطقة الخليج مع إيران وقبلها تمثيل دبلوماسى وتطبيع مع إسرائيل واستمرار لأوج الحرب الروسية الأمريكية. 

مخاطر تخلق مخاطر
أصبح العالم بين ليلة وضحاها يتجه نحو المزيد من القلق على كافة أصعدة التحركات الدولية لكافة الدول سواء كان فى محيطها الإقليمى أو تجاوز لمحيط مصالحها .. تحركات تمثل مخاطر وتخلق مخاطر وتوترات فى مناطق أخرى تدفع للمزيد من التوتر لدواعى الأمن القومى الجيوسياسى والجيواستراتيجى .. والتساؤل هل القوى الدولية الكبرى والفاعلة هى صاحبة هذه الموجة من التوترات .. باعتبارها تدفع لمزيد من الاحتقان والتفكك والصراعات بين الدول لحماية مصالحها؟ .. أم أن ظهور قوى صاعدة جديدة بدأت تفرض نفسها على الساحة هو السبب فى تحريك هستيرى من دول على الجانب الآخر مثل الولايات المتحدة التى مازالت تحرك المشهد على مستوى العالم كله لمزيد من التصعيد ؟ !. 

فجعلت الكل فى توجس وخيفة من الغد، ولم تعد شعارات السلام موجودة.. وهذه الشعارات التى حلقت فى سماء العالم فى النصف الثانى من القرن العشرين وكانت تسيطر على كافة علاقات الدول، كانت تؤكد على دعم روابط الصداقة والتعاون، ثم بدأت فى الانحسار بموجة غزو الشرق الأوسط بحرب الخليج وبعده أفغانستان فأشعلت فتيل الانقسامات فى المنطقة والتى معها عادت التحالفات للظهور على الرغم من انتهاء الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفيتى الذى عاد لموازين القوى فى أواخر القرن الماضى وبداية القرن الحالى، الذى قطعنا شوطاً زمنياً منه ليس بالقليل قارب على ربعه، وظهور الصين كقوة كبرى اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً أضافت قوة للمعسكر الشرقى ناهيك عن علاقات قوية لها مع دول الشرق الأوسط وكذلك روسيا التى لم ينتقد أو يدين حتى الآن أيا من دول الشرق الأوسط حربها على أوكرانيا .. ناهيك عن ثورات الربيع العربى التى تجاوزت عقداً من الزمان وكانت كفيلة بخلق صراعات داخلية لمعظم الدول العربية حتى تلك التى تحكمها الملكية تأثرت بشكل غير معلن فزاد توترها مع ارتفاع المد الإسلامى المتطرف فى صور داعش ونماذج أخرى اتخذت من دول عديدة مراكز لها، ناهيك عن استفزاز التيار الشيعى الذى خرج من مركزه من ايران نحو دول أخرى وأصبح دعمه علنياً فى دول بعينها، قد يكون هذا الدعم ومواجهته سبباً أساسياً لأزمات الدول المدعومة مثل اليمن وسوريا ولبنان .. وأصبحت إسرائيل فى موقف أقوى من ذى قبل، فكل دول المواجهة معها أصبحت تعانى أزمات داخلية تجعل القضية الفلسطينية ليست من أولويات المنطقة فى الوقت الحالى، فعاثت اسرائيل فساداً فى مواجهة الفلسطينيين الذين سبقوا الجميع بالانقسام على أنفسهم ما بين جبهة حماس والحكومة الشرعية، وكانت الفرصة الحقيقية لإسرائيل لأن تمطر غزة والضفة بالعقوبات اليومية ما بين قتل وحصار واعتقالات، وإن كانت سابقا اقتحامات المسجد الأقصى ومنع الفلسطينيين المصلين على فترات بحجج أمنية وعقابية فى أعقاب عمليات انتحارية، فإن المشهد الآن اختلف بأن وصل لاحتفال اليهود بذبح القرابين داخل باحة المسجد وحصار كنيسة القيامة فى أسبوع احتفالات عيد الميلاد المجيد .. فى موجة من التصعيد لم تشهدها الأراضى المحتلة من ذى قبل . 

وفى المقابل يشهد الأمر تصعيداً فلسطينياً وان كانت خسائره أقل تتمثل فى قتل مستوطنين وإطلاق صواريخ عديمة الجدوى فى الخسائر التى تسببها .. فى وقت أمتد التصعيد الإسرائيلى للجنوب اللبنانى حيث تعتبره إسرائيل نقطة انطلاق لهجمات صاروخية ضدها، رغم إعلان إسرائيل أنها لا تريد مواجهة مع حزب الله اللبنانى، إلا أنها أكدت على ضربها لأهداف تابعة لحركة حماس فى الأراضى اللبنانية وقطاع غزة . 

يتجه المشهد لمزيد من التصعيد والتوتر ويتحول الجميع لبؤر من الصراع، يدفع لتوقعات وسيناريوهات مخيفة فى المستقبل القريب بقدوم غواصة نووية أمريكية للشرق الأوسط .. حيث أعلنت البحرية الأمريكية أن الغواصة تعمل بالطاقة النووية ومزودة بصواريخ موجهة تعمل فى الشرق الأوسط دعماً للأسطول الخامس الأمريكى الذى يتخذ من البحرين مقراً له . 
وفى مواجهة هذا الأمر تعلن كوريا الشمالية انها أجرت اختباراً جديداً على غواصة نووية مسيرة فى أحدث رد على المناورات الأمريكية الكورية الجنوبية .. على الرغم أن الجانب الأمريكى يتجه للتصعيد وإشعال الأوضاع .. إلا أنه يتحجج أن هذا التصعيد بسبب التعرض لمصالحه بدليل أن الجيش الأمريكى وفقا لموقع «بلومبرج » نفذ ضربات جوية ضد مجموعات مدعومة من إيران فى سوريا بعد مقتل مقاول أمريكى، فيما تردد أنه هجوم من جانب مُسيرة ايرانية الصنع على منشأة عسكرية أمريكية فى شمال شرق سوريا . 

الرادع النووي الأمريكي
والمدقق للمشهد يجد أن الولايات المتحدة تستعرض قواها بدفعها للرادع النووى فى بحر العرب لمواجهة القوة النووية الوحيدة خلاف إسرائيل وهى ايران، الأمر الذى يدفع لمزيد من التوترات مع إيران التى بدأت تستجيب لعلاقات التصالح مع دول المنطقة حتى ولو كان على حساب علاقتها مع حليفها الحوثى كما ذكرت بعض التقارير، فى وقت مازالت تسيطر فيه بشكل كامل على العراق ولم تسحب دعمها لحزب الله والرئيس بشار الأسد . 

والواقع يؤكد أن الجانب الأمريكى يدعم حليفه الأول إسرائيل فى مواجهة ايران فى ظل تصاعد التوترات بين إسرائيل وايران خلال الأسابيع الماضية، بالإضافة للحفاظ على المصالح الأمريكية فى بحر العرب الذى يسيطر عليه الجانب الإيرانى .. والذى وصفته بأنه أحد أكبر ممرات الشحن ازدحاما فى العالم .. حيث يتم نقل ملايين الدولارت من البضائع التجارية والنفط والغاز يومياً، وحذرت من احتمالية هجوم الجيش الثورى الايرانى على شركات الشحن الإسرائيلية والتى نصحتها أمريكا بإغلاق أجهزة الإرسال والاستقبال الخاصة بها والإبحار فى أقرب مكان ممكن من ساحل عمان بعيداً عن الساحل الإيرانى والإبلاغ بشكل روتينى عن مكان وجودهم وأى نشاط مشبوه . 

ومما لا شك فيه أن الحرب الروسية الأوكرانية كانت سبباً واضحاً فى تفجر كل هذه الأوضاع .. حيث تسببت فى إشاعة القلق والفوضى فى كل دول العالم سواء كانت قريبة من مركز الأحداث أو بعيدة، فالكل فى قرية صغيرة تحكمه المصالح الحيوية سياسية واقتصادية وعسكرية، وتدفع بالجميع للتشابك فى طى الأحداث، ويصبح الكل طرفاً أصيلاً يدفعه التوتر والقلق لاتخاذ إجراءات حمائية تصل للعدوانية فى وقت تستفيد أطراف بعينها من هذا التصعيد فتعمل على تحريكه لتحقيق استفادات أكبر، فى وقت تأثر العالم كله بتداعيات ضخمة لهذه الحرب بشكل أعاد للأذهان حقبة الحرب الباردة، بل إنها أعادت تشكيل العالم سواء فى منطقة الشرق الأوسط أو حتى أوروبا نفسها وكذلك الولايات المتحدة، حيث خلقت صراعات تنافسية جيوسياسية وأربكت التجارة العالمية وأسواق الطاقة وخلقت فوضى اقتصادية انعكست فى اختناقات أسواق السلع وارتفاعات غير مسبوقة للأسعار، حيث شهدت معدلات التضخم ارتفاعا حتى فى الدول المتقدمة نفسها .. وتغيرت التشابكات والتجاذبات فى جميع علاقات الدول ببعضها البعض، فتفككت علاقات قديمة وظهرت أخرى جديدة وقوى جديدة استقرت أكثر فى ظل هذه الاضطرابات، وساندت هذه الأوضاع دول بعينها مثل تركيا ودول الخليج التى أسهمت قوة اقتصادياتها وارتفاع أسعار النفط فى تعزيز قوتها الإقليمية وبالتالى تعظيم دورها السياسى الدولى، فى وقت زاد تقارب دول المنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً مع روسيا والصين . 

تحولات للنفوذ.. وتقارب صيني
فى وقت ألقت هذه الحرب بظلالها فى إعادة تشكيل علاقات القوى الإقليمية مع الخارج وإحداث تحولات على نفوذ القوى الكبرى فى الشرق الأوسط، بسبب تفاقم أهمية الطاقة فى المنطقة، فى وقت غيرت فيه دول منطقة الخليج نفسها من توجهاتها الاستراتيجية فى علاقاتها الخارجية بالتوجه أكثر للقوة الصينية، التى ازدادت فى مواجهة الولايات المتحدة .. فالحرب الروسية الأوكرانية خلقت وضعاً جديداً لروسيا والصين، وأتاحت لهما الفرصة لإثبات قوتهما الدولية، والذى كان واضحاً من الشراكات الجديدة معهما إلا أنه على الجانب الآخر أدت كل هذه الأوضاع لزيادة الوجود العسكرى الغربى فى المنطقة وسط زيادة الاهتمام بالطاقة الخليجية والمخاوف التى تحيط بإسرائيل الحليف الأمريكى ومصالحها فى أكبر منطقة مصدرة للطاقة، وتعاظم قوة إيران وروسيا والصين مما يدفع بالمنطقة لمزيد من الضغوطات والتوترات ويرشحها بقوة لمزيد من التصعيد الذى سيأخذ فى طريقه الاقتصاديات الضعيفة والهشة والتى تمثلها دول ليست بالقليل زادت معها معدلات الفقر فى أعقاب فيروس كورونا وزادت انكشافاً بالحرب الروسية الأوكرانية.