يوميات الأخبار

سقوط بغداد.. بين الألغاز والأكاذيب

أسامة عجاج
أسامة عجاج

بعد يومين، تحل الذكرى العشرين لسقوط بغداد، للمرة الثانية فى تاريخها، الأولى فى القرن الثالث عشر على يد هولاكو، والثانية على يد بوش الابن وجماعته (مغول القرن الحادى والعشرين)، فى استنساخ لأحد الأيام الحزينة فى تاريخ المنطقة.

بعد بدء الحرب بيوم واحد وتحديدًا فى العشرين من مارس ٢٠٠٣، ظهر وزير الدفاع الأمريكى رامسفيلد، على شاشات التليفزيونات الأمريكية، وهو يقول (هناك اتصالات بيننا وبين قادة الحرس الجمهورى فى العراق، ولن نكشف عنها حاليا، فانتظروا الأيام القادمة) يومها تعامل البعض مع ذلك على أنه جزء من الحرب النفسية، وهو أمر معتاد فى مثل هذه الظروف، وبعد ثلاثة أيام أذاعت وسائل إعلام أمريكية، شريطًا يسجل أصواتًا عربية، ترشد القوات الأمريكية إلى أهداف مهمة، لقصفها من قبل القوات الجوية، عزز الاعتقاد والتشكيك فيما قاله وزير الدفاع الأمريكي، هذه المقاومة البطلة من القوات العراقية فى (أم قصر)، وهى قرية صغيرة على الحدود مع الكويت، والتى استمرت أسبوعين قبل سقوطها، وبعدها بدأ الانهيار، ففى الخامس من إبريل منذ عشرين عامًا، وصلت القوات العراقية إلى مشارف مطار بغداد، لتخوض معارك شرسة فيما عرف يومها بمعركة المطار، يومها كان وزير الإعلام العراقى الأشهر محمد سعيد الصحاف، يقول للإعلام الدولى (العلوج الأمريكان)وهو التعبير الشهير الذى استخدمه طوال أسابيع الغزو- (سيسقطون على أسوار بغداد، والمطار سيكون مقبرة لهم، كما هى مدينة بغداد) وفجأة وفى اليوم التاسع من إبريل من نفس العام، انهارت منظومة الدفاع العراقية، وسيطرت القوات الأمريكية على المطار، الذى لا يبعد عن قلب العاصمة سوى ٢٠ كيلو مترًا فقط، فى ظل تبخر تام للحرس الجمهوري، وعناصر فدائيى صدام، فى لغز يبحث عن تفسير، وكانت اللحظة التى أذهلت العالم، عندما سقط تمثال صدام حسين فى ميدان الفردوس، وجندى أمريكى لم يسمع بالعراق وحضارته وتاريخه، يغطى وجه صدام بالعلم الأمريكي، وسط مشاعر متضاربة بين الذين تجمهروا فى الميدان، مع توالى مشاهد السلب والنهب المنقولة عبر الفضائيات، تحت أعين الغزاة الجدد، ويقتصر دور قوات الغزو على حماية وزارتى النفط والداخلية، وكما كان سقوط العاصمة (لغزًا) يبحث عن تفسير، فإن أسباب الغزو الأمريكى للعراق هو الآخر (كذبة القرن).

البحث عن ذريعة

كان مشهد سقوط العاصمة العراقية بغداد نقطة فاصلة، خاصة أن العملية تمت على يد قوات دولة لم تر النور منذ مئات السنين مقارنة بتاريخ عاصمة العباسيين، السقوط أنهى مرحلة من الصراع بين الإدارة الأمريكية من الجمهوريين وبين صدام حسين، وفق مخطط وضعته واشنطن للإيقاع به، بعد سنوات من التحالف بينهما، فى أعقاب سقوط شاه إيران والذى كان يتعامل وبدعم أمريكى كشرطى للخليج، وحافظ لمصالح واشنطن، والذى انتهى دوره بنجاح ثورة آية الله الخميني، وسيطرة رجال الدين على مقاليد الأمور فى طهران، فخروج صدام محتفظا بكل قدراته العسكرية، من الحرب العراقية الإيرانية، مثل خطرًا على مصالح الغرب فى منطقة الخليج، بكل أهميتها الاستراتيجية، وفق مخطط خنق العراق اقتصاديا، رغم إنهاكه أصلا من سنوات الحرب الثمانية، فكان قرار صدام الكارثة (غزو الكويت)، وضاعت على واشنطن فرصة الزحف إلى العاصمة بغداد، بعد نجاح عمليات عاصفة الصحراء، وبعد تحرير الكويت، وبدأت الخطط الخاصة بخنق العراق بالحصار الاقتصادي، والبحث عن ذرائع جديدة للتخلص من النظام، خاصة مع كراهية المحافظين الجدد فى دوائر صنع القرار، فى البيت الأبيض، والبنتاجون والأجهزة الأمنية، لصدام ورغبتهم فى التخلص منه، خاصة أنه يملك مشروعًا مخالفًا لرؤية الغرب تجاه إسرائيل، وتحول الأمر إلى مشاعر كراهية من بوش الابن شخصيا، فهو حسب قوله «لا يقبل قيمنا ولا يفهم إلا لغة القوة».

الأكاذيب الثلاث

ومن هنا خرجنا من مرحلة (الألغاز والغموض)، إلى (الأكاذيب) التى أجادها بامتياز المحافظين الجدد فى دوائر صنع القرار فى واشنطن، عبر ثلاث أكاذيب، وهناك تفاصيل مرعبة تضمنها كتاب (التصدى لصدام حسين: جورج بوش وغزو العراق) لواحد من أهم المؤرخين السياسيين الأمريكان وهو الأستاذ الجامعى الأمريكى (ميلفين ليفلر). والذى صدر منذ أسابيع فقط، والبداية كانت بكذبة مسئولية صدام حسين عن أحداث الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١، فبعد ساعات من الهجوم، طلب مساعد وزير الدفاع الأمريكي، البحث فى أدلة تربط صدام حسين بالهجمات، وبينما كانت الحرائق ما تزال مشتعلة فى البنتاجون فى مساء يوم ١١ سبتمبر، ووسط صفارات سيارات الإسعاف، عاد رامسفيلد إلى مكتبه فى البنتاجون، ليقول وفقا لما نقله عنه مساعده الأقرب ستيفن كامبون: «اضربوا صدام حسين، وليس فقط بن لادن، وفى اليوم التالي، وخلال اجتماع مجلس الأمن القومي، طالب رامسفيلد ونائبه وولفوفيتز باتخاذ إجراء ضد صدام حسين، ولاحقا هل صدام حسين مرتبط بأى شكل من الأشكال بالهجمات؟ كانت الإجابة نموذجية، فى استهداف العراق مهما كان السبب، وكنت (لا أرى علاقة لصدام بهذه المذبحة، وقالت الاحتمالات صفر، والمسئول عنها هو القاعدة)، لكن رامسفيلد وولفوفيتز أصرا على استهداف العراق بحجة أنه «لا توجد أهداف جيدة فى أفغانستان لضربها، ولا أماكن يراد إخراج طالبان منها، وأن العراق هو هدف أفضل لإظهار قوة أمريكا وقيادتها».

البحث عن مجرم

لم يتوقف الأمر عند هذا، وبدأت لعبة جديدة بعد أسبوع من أحداث سبتمبر ٢٠٠١، عنوانها مسئولية العراق عن انتشار رسائل الانثراكس فى أربع ولايات أمريكية، وتسببت فى مقتل خمسة مدنيين أمريكان وأصابت العشرات، وكان الهدف من إثارة هذه القضية، تخويف الشعب الأمريكى وإنهاء تردد الرئيس بوش، ودفعه للحرب ضد العراق، خاصة أن المادة المستخدمة من أسلحة الدمار الشامل البيولوجية، مع اتهام العراق بامتلاكها، واستمرت التحقيقات فى الأمر سبع سنوات كاملة، وتم الإعلان عن نتائجها فى أغسطس ٢٠٠٨، وكشف أن العالم الأمريكى المتخصص فى مجال الأسلحة البيولوجية بروس إيفنز، هو المتهم الوحيد فى السرقة من مستودعات الجيش، وبعدها أغلقت وزارة العدل الأمريكية ملف القضية، بعد وفاة المتهم الوحيد.

الكذبة الكبرى

ولعل ملف امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل هى الأطول، رغم أن الوقائع تشير إلى أنه بعد حرب تحرير الكويت فى فبراير ١٩٩١، تعاون العراق مع الأمم المتحدة، فى ملف الانتهاء من كل برنامجه للأسلحة الكيماوية، والمعدات والمواد ذات الصلة، وتم تحديد مواقعها وتدميرها بمعرفة الجانبين، ليتم فتح الملف من جديد، مع سيل اتهامات من قبل الثنائى واشنطن ولندن، وإثارة القضية عبر الأمم المتحدة، ونتوقف عند التقرير الذى كشفه تونى بلير رئيس الوزراء البريطانى فى ذلك الوقت فى سبتمبر من عام ٢٠٠٢، بعنوان (أسلحة الدمار الشامل فى العراق : تقييم الحكومة البريطانية) وجاء فى ٥٥ صفحة، ومزودًا بصور للأقمار الصناعية، وكان نشر مثل هذا التقرير الاستخبارى على الملأ، غير مسبوقة، كما اعترف بلير بنفسه، ولكنه برر ذلك بالرغبة فى إشراك الرأى العام البريطانى فى هذا الأمر.

ورد العراق بعد أسابيع قليلة بتقرير شامل إلى مجلس الامن. تحديدًا فى ديسمبر من نفس العام تضمن ١٢ ألف صفحة، يجيب فيه عن كل الأسئلة العالقة بعد كل عمليات التفتيش، التى وصلت إلى ٧٠٠ عملية، وصلت إلى غرف نوم الرئيس صدام حسين نفسه، ويكشف عن أن بغداد لا تمتلك أية أسلحة دمار شامل، ولأن قرار الحرب قد اتخذ فكانت شهادة الزور التى قدمها كولن باول وزير الخارجية الأمريكية، بشكل مسرحى أمام جلسة شهيرة لمجلس الأمن، فى الأسبوع الأول من فبراير ٢٠٠٣، أى قبل الغزو بأسابيع قليلة، واستمرت ٨٠ دقيقة، حبس العالم أنفاسه فى متابعة وقائعها، وقال (زملائي.. كل تصريح أقوم به اليوم، مدعم بالمصادر الموثقة، وما أقوله ليس مجرد ادعاءات، نحن نمنحكم وقائع، وخلاصات قائمة على معلومات استخبارية متينة) والغريب أن استقصاء تم إجراؤه على جمهور من الأمريكيين، كشف عن أن ٦٨ بالمائة منهم لم تقنعهم أدلة باول، والنسبة الباقية أيدت الذهاب إلى الحرب، وهو ما حدث بالفعل فى العشرين من مارس ٢٠٠٣.

اعترافات بالذنب

وتوالت الاعترافات بالأكاذيب، والندم على من ارتكب، (أم الكوارث)، وآخرها ومنذ أسابيع، وفى زلة لسان بوش الابن فى خطاب له، هجومه على الغزو الروسى لأوكرانيا، قال «إن قرارًا اتخذه رجل واحد، لشن حرب همجية وغير مبررة على الإطلاق، واجتياح (العراق) ثم استدرك وصحح أقصد أوكرانيا»، أما وزير الخارجية الأمريكى كولن باول فكان الأسرع والأشجع، فلم يمر يوم عام الغزو، حتى اعترف أن تبريراته للغزو (وصمة عار فى مسيرتى السياسية)، كما اعتراف رئيس فريق التفتيش عن أسلحة التدمير الشامل العراقية بعد الاحتلال، «ديفيد كي» أمام لجنة الخدمات المسلحة فى مجلس الشيوخ الأمريكي، بقوله «دعونى أقول لكم نحن جميعا كنا خاطئين بشأن أسلحة التدمير الشامل العراقية»، وعلى نفس المستوى جاءت صراحة سير ريتشارد ديرلاف مدير الاستخبارات البريطانية، فى ذلك الوقت، الذى قال أنهم سيغزون العراق، حتى لو كان ما بحوزته (رابط مطاطى، أو مشبك ورق، كنا سنقول إنه سيستخدم هذه الأشياء لقفأ أعيننا)، وكذلك رؤساء فرق التفتيش هانز بكيس ومحمد البرادعى وايكيسوس، حاولوا التبرؤ من تهمة التواطؤ مع واشنطن، بفبركة أدلة مزعومة.

وبعد هل حققت أمريكا أيا من أهدافها من الغزو؟، لعل واقع العراق هو أفضل إجابة، فقد سعوا اليه كهدف، دون أن يكون لديها تخطيط لليوم التالى للسقوط، بعد قرارات حاكم العراق الأمريكى بريمر الكارثية، بحل الجيش العراقي، فوقعت فريسة سهلة لتنظيم داعش، الذى استطاع تحت سمعهم وبصرهم، السيطرة على ثلث العراق، أرادوها نموذجًا للديمقراطية فى المنطقة، فخلقوا طائفية ومحاصصة سياسية لم يعرفها العراق من قبل.