منى عبد الكريم تكتب : مقام طه القرنى فى محبة التراث الشعبى

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

جاء فى تعريف لفظ المقامات فى المعاجم أنه يعنى فى الفلسفة والتصوف حالات ثابتة ينالها السّالكُ بجهده الخاصّ أهمها التَّوبة والورع والزُّهد والفقر والصَّبر والتَّوكّل والرِّضا، ولفظ «مقام» يعنى كذلك المنزلة والمكانة، ويقال مَقَامُ الوَلِيِّ الصَّالِحِ أى مَكَانُهُ الْمُقَدَّسُ، والمَقَامُ كذلك ارتبط بأضرحة الأولياء، أما فى سُلَّم الموسيقى فالمقام يعنى تَسَلْسُل النَّغم درجة فوق أُخرى.

وقد اختار الفنان طه القرنى «مقام» عنوانا لأحدث معارضه التشكيلية الذى افتتح بجاليرى آزاد، وضم ما يقرب من خمسين عملا بمختلف الخامات من بينها الجوبلان والخيامية والحرير، ليكشف من خلال هذا المعرض عن الكثير من الفلسفات التى ارتبطت بلفظ «مقام» بتعدد معانيه ودلالاته.

وبما فى ذلك ارتباط الفنان التشكيلى ب الثقافة الشعبية وانحيازه للبسطاء واحتفاءه بحياتهم، وهو الأمر الذى اتضح فى كثير من أعماله ومعارضه السابقة وانعكس كذلك فى اختياره لأسمائها ومن بينها «المولد» و«الزار»، و«سوق الجمعة»، و«عزبة الصعايدة» وغيرها، إذ يستمر الفنان فى معرض «مقام» فى الاحتفاء بالبسطاء ومقامهم، فقد جاء اختيار العنوان تأكيدا على ما لهؤلاء الناس من مقام مميز فى الحياة يتضح فى صياغتهم لمفردات حياتهم وفى خلق أجواء تخصهم، بل وفى قدرتهم على تحيلة الحياة بطريقة خاصة .

الأمر الآخر الذى استشعرته أثناء جولتى بالمعرض وارتبط فى ذهنى بمعنى المقام، هو أن للمعرض موسيقى تستدعيها المخيلة السمعية، فى محيط من البهجة اللونية ومن انتشار الآلات الموسيقية كالمزامير والربابة والطبلة وغيرها داخل اللوحات.

وبخلاف حالة الوجد المرتبطة بالموسيقى الصوفية التى تنساب إلى مسامعنا مع مشاهدة رقصتى المولوية وكذلك رقصة التنورة، وهى أحد الموضوعات الرئيسية التى تناولها الفنان فى أكثر من عمل بهذا المعرض.

 

وربما لهذا السبب كانت فكرة الدوران أحد الأفكار الأساسية التى تمركزت حولها كثير من اللوحات، وقد استعار الفنان فكرة الدوران فى مشاهد تجاوزت الرقصات الصوفية لنراها أيضا فى مشهد تجمع السيدات الشعبيات بزيهن المميز، ففكرة الدوران كما يتحدث عنها الفنان هى فكرة الحياة ذاتها، والدوران فكرة أساسية لاستمرار الحياة نراها فى كثير من الفلسفات والديانات.

وففى الثقافة الإسلامية نجد الدوران حول الكعبة يرتبط فى كثير من الثقافة بفلسفة الكون فى أن كل يشىء يدور منذ بدء الخليقة ، كذلك نراها متجلية فى القباب، ونراها أثناء الصلاة والالتفاتة فى التسليم،  والدوران يعنى عند الناس التغلب على أى صعب وإيجاد حلول للفكاك من تلك الصعاب.

وبخلاف توظيفه لحالة الدوران فى مشاهد مغايرة للمعتاد، نجد الفنان كذلك يميل إلى طرح رؤية تشكيلية مغايرة من خلال الاعتماد على منظور عين الطائر فى أعماله، وهو الأمر الذى استمر معه منذ معرضه السابق فوق الرأس.

وذلك المنظور الذى يستدعى تساؤلات فى معرضه «مقام» حول إذا ما كان أبطال الأعمال من يعلقون أعينهم بالسماء فى حالة الوجد المرتبطة بالدوران فى الرقص الصوفى وبالحب الإلهى، أم أننا نكتشفهم من زاوية جديدة فى الرؤية.

وإلا أن الأمر يتجاوز لدى الفنان الفكرة الفلسفية إلى الحلول التشكيلية التى يطرحها للمسطح التصويرى كمبحث تشكيلى، فلا يتوقف القرنى عن البحث عما هو جديد، إذ يقول الفنان «يرتبط الأمر بكيفية حل اللوحة من الأوجه الأربعة بحيث يمكن لف اللوحة بأى شكل طولا أو عرض.

ومشاهدتها من أى زاوية دون إخلال بالتصميم بها، بل إنه يمكن تعليقها أيضا فوق الرأس ومن هنا جاءت تسمية معرضه السابق.. الأمر الذى يخرج باللوحة التصويرية عن قيودها المعتادة التى تحتم تعليقها بطريقة معينة لرؤيتها بما لا يخل بالتصميم .

ولا يتوقف القرنى فى مبحثه التشكيلى على زاوية الرؤية بل يمتد الأمر فى هذا المعرض إلى إعادة توزيع الضوء فى كثير من لوحاته اعتمادا على فكرة انتشار الضوء بعد سقوطه على الكريستالة فى حالة دورانها، إذ يقول: أمارس تجربة مختلفة عن فكرة التنورة والمولوية بشكليها المعتاد الذى نراه، لأحول ذلك لطاقات نور موزعة فى اللوحة مثل الكريستال، وأخذت هذا باعتباره مقام للمولوية بحالات التجلى.

وعلى الرغم من ارتباطه بالثقافة الشعبية فى أعماله، إلا أن كل تجربة تأتى كخلاصة قراءات متعمقة فى الأدب والفلسفة والتصوف وغير ذلك، بل وبحث دؤوب ممتد يقوم به الفنان ليصيغ خلاصة أفكاره فى قالب تشكيلى مختلف، فهو يقترب من اللوحة محمل بخلاصة كل تلك الأفكار ليمارس تجربته التشكيلية بحثا عما هو جديد فى التقنية والتكنيك.

ولهذا اختار الفنان أن يعيد توظيف خامات الحرير والجوبلان والخيامية ليقدم عليها عددا من أعماله ، وذلك للخروج بخامة ترتبط بالثقافة الشعبية إلى آفاق الحداثة التشكيلية، عبر رحلة طويلة لمدة أربع سنوات درس فيها القرنى لك الخامات، وجلس مع الحرفيين لفهم أسرار الصنعة والسبيل إلى تقديم أعماله التشكيلية عليها.

ويعتبر الجوبلان والخيامية وسيطين مختلفين يتعامل معهما الفنان طه القرنى لأول مرة، وهى – كما جاء بالكلمة المصاحبة للمعرض- صيغ جديدة للعمل التصويري، لكنها تتوافق مع مسار تجربته الإبداعية المغامرة والمُنقبة عن جواهر الموروث الشعب.

والفنان طه القرنى يتعامل هنا مع لوحات الجوبلان والخيامية بجدية تامة، فهو يستكشف فى دأب الإمكانات التى يمكن أن يتيحها كل وسيط منهما لفنان مغامر ومنقب عن مسارات مختلفة للرسم. فى هذه الأعمال تتحول لوحات الجوبلان والخيامية من وسيط هامشى إلى مساحات إبداعية تتمتع بطبيعة خاصة.

ويقتنص الفنان هذين الوسيطين من إطار الحرفة والتوظيف النمطى إلى براح الابتكار فيحولهما إلى مساحات زاخرة بالتجريب والإبداع. هى مغامرة مختلفة بلا شك قد تفتح المجال لمسارات جديدة وملهمة تضاف إلى مسيرة الفنان وسعيه المستمر للبحث والتجريب.

اقرأ ايضاً| د. نللى حنا تكتب :  النصوص الأدبية ساعدتنى فى التأريخ للقاهرة