خواطر الإمام الشعراوي: الخطأ والنسيان

 الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

فى خواطره حول الآية 286 من سورة البقرة يقول الشيخ الشعراوي: وبعد ذلك يقول الحق على لسان عباده المؤمنين: «رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا»، ولقائل أن يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم طمأننا، فقال: (رُفع عن أمتى الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه). فكيف يأتى القرآن بشيء مرفوع عن الأمة الإسلامية ليدعو به الناس ربهم ليرفعه عنهم؟. على مثل هذا القائل نرد: هل قال لك أحد: إن رفع الخطأ والنسيان والاستكراه كان من أول الأمر؟. لعل الرفع حدث بعد أن دعا الرسول والسابقون من المؤمنين، فما دام قد رُفِعَ (بضم الراء وكسر الفاء وفتح العين) فمعنى ذلك أنه كان موجوداً، إذن فلا يقولن أحد: كيف تدعو بشيء غير موجود؟ أو أن ذلك يدل على منتهى الصفاء الإيماني، أى الله يجب ألاّ يُعْصى إلا خطأ أو نسياناً، وأن الله لا يصح ولا يستقيم أن يُعصى قصداً؛ لأن الذى يعرف قدر الله حقاً، لا يليق منه أن يعصى الله إلا نسياناً أو خطأ؛ لأن الخالق هو المنعم بكل النعم، وبعد ذلك كلفنا، وكان يجب ألا نقصد المعصية.

ولذلك فالحق سبحانه وتعالى قد سمى ما حدث من آدم معصية مع أنه يقول: «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» «طه: 115». وسمى الله النسيان فى قصة آدم معصية: «وعصى آدَمُ رَبَّهُ فغوى» فكان النسيان أولاً معصية، ولكن الله أكرم أمة محمد، فرفع عنها النسيان. وفى مسألة آدم هناك ملحظ يجب على المؤمن أن يتنبه إليه؛ فآدم خُلِقَ بيد الله، ونحن مخلوقون بقانون التكاثر، وآدم تلقى التكليف من الله مباشرة وليس بواسطة رسول، وكُلِّفَ بأمر واحد وهو ألا يأكل من الشجرة. فإذا كان آدم مخلوقاً من الله مباشرة ومكلفاً من الله مباشرة، ولم يكلف إلا بأمر واحد وهو ألا يقرب هذه الشجرة، ولم تكن هناك تكاليف كثيرة فماذا نسى؟ وماذا تذكر؟ إنها معصية إذن. لقد كان النسيان بالنسبة لآدم معصية؛ لأنه مخلوق بيد الله.

«قَالَ يا إبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» «ص: 75». لذلك فلم يكن من المناسب أن ينسى هذا التكليف الواحد، وما كان يصح له أن ينسى، وَلَعلّ سيدنا آدم نُسِّيَ لحكمة يعلمها الله رُبَّما تكون ليعمر الأرض التى جعله الله خليفة فيها؛ أما بالنسبة لأمة محمد فحينما نقول: «رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا» فكأننا يا رب نقدرك، حق قدرك، ولا نجترئ على عصيانك عمدا، وإن عصينا فإنما يكون العصيان نسياناً أوْ خطأ، وهذه معرفة لقدر الحق سبحانه وتعالى. ولكن ما النسيان؟ وما الخطأ؟ أولاً فيه (أخْطَأ) وفيه (خَطِئَ) و(الخِطْء) لا يكون إلا إثما؛ لأنه تعمد ما لا ينبغي، فأنت تعلم قاعدة وتخطئ، والذى أخطأ قد لا يعرف القاعدة، فأنت تصوب له خطأه لأنه حاد عن الصواب. ومثال ذلك: عندما تتعلم فى المدرسة أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب وفى وسط السنة يصححون لك القاعدة حتى تستقر فى ذهنك، إنما فى أيام الامتحان أيصحح لك المدرس أم يؤاخذك؟ إنه يؤاخذك؛ لأنك درست طوال السنة هذه القاعدة، إذن ففيه خَطِئ وفيه أخطأ، فأخطأ مرة تأتى عن غير قصد؛ لأنه لا توجد قاعدة أنا خالفتها، أو لم أعرف القاعدة وإنما نطقت خطأ؛ لأنهم لم يقولوا لي، أو قالوا لى مرة ولم أتذكر، أى لم تستقر المسألة كملكة فى نفسي؛ لأن التلميذ يخطئ فى الفاعل والمفعول مدة طويلة، وبعد ذلك ينضج وتصير اللغة ملكة فى نفسه إن كان مواظبا على صيانتها.

كان التلميذ فى البداية يقول: قطع محمد الغصن، ولا يقولها مُشَكَّلةً ولكن يسكن الآخر فى نهاية نطقه لاسم محمد، وساعة يتذكر القاعدة ينطقها (محمد) بالرفع وينطق (الغصن) بالنصب لماذا؟ لأنه ترد ثلاث قواعد على ذهنه، هذه فاعل والفاعل حكمه الرفع، فهى مرفوعة، فهو يمر بقضية عقلية، لكن بعدما يمر عليها يقرأها صحيحة وقد لا يتذكر القاعدة، فقد صارت المسألة ملكة لغوية عنده، هذه الملكة اللغوية مثلما نقول: (صارت آلية).