محمد سليم شوشة يكتب: رمزية سردية لمسيرة النضال

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

فى رواية «حجر السعادة» للروائى العراقى أزهر جرجيس تجربة سردية مهمة وثرية، وفى جزئها الأول تحديدا حال سردية نادرة عن البؤس المتصاعد مع الإنسان فى تواتر درامى مشوق ومتنامٍ يجعل هذا الجزء تحديدا من الرواية ذا طاقات سردية إنسانية تتسم بالعالمية وأتصور لو أن الرواية انغلقت على هذه التجربة الفردية الخاصة للطفل كمال.

وربما كانت أكثر قابلية للقراءة الإنسانية العامة التى ترشحها للترجمة وأن تكون نصا روائيا ذا طابع عالمي، وفالرواية فى كثير من تجاربها العالمية قد تتجاهل ما هو منغلق على ثقافة واحدة لتقارب أطرا سلوكية عامة أو غير مقصورة على ثقافة بعينها، أو قد تتجاهل ما قد يبدو من الأحداث مرهونا بحقبة تاريخية معينة للانطلاق نحو كل ما هو مشترك وإنسانى مطلق يربط بين الثقافات المختلفة، أو على الأقل تحاول أن تحول ما هو خاص إلى رمز يدل على العام أو المطلق.

لا يعنى هذا أن بقية الحكاية التى يقوم عليها خطاب الرواية فى جزئها الثانى من التماس مع المكونات السياسية والاجتماعية والثقافية والتحولات التى حدثت فى العراق يمثل عبئا على الرواية أو يقلل من إمكاناتها، بل ما أردنا التأكيد عليه من جانب هو تفرد الجزء الخاص برصد طفولة معاناة كمال ومقاربتها نفسيا فى تصاعد وتيرة البؤس نتيجة اليتم ودور زوجة الأب الماكرة، وقسوة الأب السكير الواقع تحت تأثير زوجته.

وكيف كانت لغة السرد فى هذا الجزء عبر سخريتها ونقدها للذات أو نبرة السخرية من الذات ومن الحظ العاثر قادرة على إنتاج قيم جمالية فى غاية القدرة على التأثير فى المتلقى وتجعل السرد يتجاوز حدود المألوف والمتكرر من الخطابات الروائية القائمة على سرد البؤس والمعاناة. فهذا الجزء فى تقديرنا يمثل حالا سردية استثنائية أو متفردة فى الرواية العربية القائمة على الرصد العميق للتجربة الفردية المبتعدة عن الفخر والمباهاة والمنزلقة برشاقة إلى قاع احتقار الذات واستخفاف وجودها أو السخرية منها بأكثر أشكال السخرية مرارة وأسفا مع حس مضحك من هجاء الذات أو ندب الحظ.

وفى هذا الجزء الأول من عالم الرواية - والتى ليست مقسمة بحدود شكلانية بالأساس – يصبح المتلقى مضطرا للتعاطف مع كمال ومراقبا له فى أدق تفاصيل حياته البائسة التى يصبح فيها مطاردا ومصيره معلقا على الصدفة أو فرص النجاة الضئيلة التى يلاقيها بالمصادفة.

وفى تصوير لحال من العبثية المفرطة التى يتقاذف فيها الإنسان حالات عشوائية من القسوة أو الرحمة اللتين لا تتبعان قانونا فى توزيع فرصهما، وهو ما يجعل أفق التلقى ضبابيا ولا يمكن التنبؤ بمصير هذا الطفل الذى يصبح عاريا من كل أشكال الحماية أو مظاهر الرحمة، بل من المفارقات المدهشة أن بعد خبرة معينة فى انقلاب مصادر الخير وتحولها إلى شر يصبح المتلقى موازيا لحال بطل الرواية كمال فى حمله لخبرة من التوجس والريبة التى تجعله لا يثق فى أى شكل من أشكال الرحمة أو الخير ويرى فى كل احتمال لهما بذرة للشر الخفى.

وهو ما يزيد من حد التوتر ومصادر التشويق فى الرواية لأن هذا الطفل المتقدم فى دروب الحياة يبدو أقرب لنموذج بطل أسطورى كُتب عليه أن يعبر غابة الوجود منفردا ومجردا من الدروع أو أهون وسائل الحماية.

وإن فهم هذه المساحة من عالم الرواية بشكل عميق ربما يكون مدخلا ملائما لفهم الطبيعة الرمزية الشاملة للرواية، فهذا التجذير البائس لطفولة كمال المواطن العربى المؤمن بوطنه يبدو أقرب لأن يكون سردا رامزا إلى فترة البؤس الحضارى فى القرون السابقة وليس مجرد عقود من الانهيار أو التردى الحضاري، فإذا كان الأب مجرد تاريخ ماض وبعيد من القسوة وسوء التواصل معه.

فإن الأم التى هى المدنية والحضارة ميتة أو فقيدة، لهذا فإن هذا النموذج الإنسانى يتيم الأم لكونه لم يجد الحضارة أو النظام الحضارى والمدنى الذى يحميه، فالأم هى التى تطعم وتنظم حياة أبنائها وتحنو عليهم وتمنحهم الحماية أو الحصانة من قسوة الأب أو مشاكل التاريخ.

ولهذا كان طبيعيا أن تأتى حياة كمال الرامز إلى المواطن العراقى النموذجى حياة متجذرة فى البؤس ومتصاعدة فى وتيرته ويظل ذلك مهيمنا على حياته من بدايتها لنهايتها حتى وإن استقرت معه الحياة فى فترة معينة وهو يعيش تحت مظلة الفن وبقايا الدولة العراقية المدنية المؤمنة بالفن والراغبة فى الحياة.

وهكذا يرمز لهذه الحالة المؤقتة فى عمر الدولة المدنية الحانية عدد من الشخصيات القلائل الذين يمثلون استثناءً؛ هم المصوران خليل وموريس أفندى وكذلك فوزى المطبعجى والد نادية الذى حول مطبعته إلى متحف يحوى أفضل ذكريات العراق وتاريخه المضئ ، ومهنته بذاتها دالة على مستوى معين من الثقافة والفكر، بل إن أغلب المهن لدى شخصيات الرواية دالة على معنى خفى أو إيحائى أو تصبح هى الأخرى متسقة مع الشخصية وما ترمز له بشكل عام من قيمة إيجابية أو سلبية.

وهكذا تصبح حال اليتم والتشرد وغياب الحماية هى السمات التى تمنح شخصية كمال قابليتها الرمزية الدالة على المواطن العراقى أو العربى عموما، الذى لا يعيشه لحظته الحضارية المواتية أو المرجوة، بل يعيش حالا من المعاناة الحضارية الممتدة.

ولكن ما يصبح مهما جدا فى هذا التشكيل السردى هو قدرته على حمل طاقات جمالية تجعل المتلقى مندمجا فى هذا العالم وتفاصيله ويجد نفسه منحازا لهذا النموذج البائس المسالم الذى ليس له يد فى استيلاد كل هذا البؤس الذى آل إليه بمحض الصدفة أو لأسباب غيبية.

ومن أبرز هذه السمات الجمالية هو التصوير النفسى الدقيق والعميق الذى يجعل الشخصية متشكلة بملامح متسقة وباطراد واتحاد فى التكوين، وهذا التصوير النفسى كذلك يجعل السرد مشحونا بحال من القلق والتوتر ذلك لأننا فى النهاية أمام إنسان من لحم ودم يجوع ويتشرد ويعاين من مظاهر الشر ما يعجز عن مواجهته الكبار ذوى الخبرة.

فتكون سذاجة الطفولة وفطرتها فى مواجهة مع شر العالم المتكاثف والمركز فى غموضه وتنوع مصادره، بين السياسى والدينى أو المذهبى بالإضافة إلى فوارق الجسد أو التكوين، وفى الرواية لمحة فى غاية العبقرية دالة على هذا التنوع فى مصادر الشر التى واجهها كمال وهى تلك التى ترتبط بالتنمر الجسدى أو التنمر الذى ربما لا يكون له من جذور أو دوافع غير التفوق البدني.

وفى إشارة إلى أن هذه فطرة المتفوقين بدنيا بأن يهاجموا الأصغر أو الأضعف ويتنمروا عليهم، وهو ما يكمل تفاصيل لوحة الشر الذى يجابهه كمال فى هذا العالم المظلم الذى يشكل النور فيه مصادر شحيحة وضعيفة تتمثل فى العم خليل مثلا أو صالح ونادية والعم فوزي، فى حين تهيمن نماذج الشر على تفاصيل لوحة العالم الروائي.

ووفق هذا النسق الانتقائى والتوزيعى بين مساحات الخير والشر نجد أننا أمام عالم أقرب إلى الغابة المظلمة التى هى فى تقديرنا أفضل ما يرمز إلى حال التردى الحضارى وغياب المدنية، وتزداد حدة هذا الظلام مع هيمنة الحروب والشعارات والنزعة الطائفية وحكم المليشيات وغيرها من الظواهر السلبية التى يبدو خطاب الرواية ناقدا لها أو مفككا لها فى خطاب جمالى ناعم يتراوح بين الصخب فى الرفض أو الهمس فى التصريح بهذه السلبيات التى عاشها العراق.

وتمارس الرواية شكلا من التأريخ الفنى للعراق، وفى هذا الشكل التأريخى يتم توظيف التصوير على نحو جيد من حيث الاعتناء بالتفاصيل وسرد الخبرات الفنية والحديث عن الأرشيفات وقدر ما تجسد من تصوير لتاريخ المكان أو تؤرشف ملامحه وتبدلات هذه الأماكن بعمقها التاريخى والإنساني.

وفى تصوير يتوازى فيه الإنسان مع المكان فى تبدلاتهما وحركتهما بين الانحدار والصعود أو الانهيار ومحاولات الصعود فى حركية أقرب لأن تكون ملحمة مسرحية يتكاثف فيها تاريخ العراق بين السقوط والنهوض كما لو أن الوطن يتم تصويره فى الرواية وهو يؤدى رقصة تعبيرية مصحوبة بموسيقى التأسى الحزينة.

وإن كان يمكن توسيع مدى خبرات فن التصوير وتفاصيله على نحو أفضل عبر التعميق ودلالة الزوايا والكادرات وتحليل الصور وقراءتها أو التعليق عليها بما يحولها إلى علامات دالة أو لوحات فنية تمثل أرشيفا أو سجلا قادرا على أن يكون كتابا تاريخيا موازيا.

وكان يمكن ذلك عبر دمج معارف بعض الكتب عن فن التصوير أو بعض المحاضرات أو الكورسات التعليمية التى ينخرط فيها بعض الشخصيات وأولها قابلية لذلك هو كمال نفسه الذى لا تمنحنا الرواية تفصيلا واسعا عن تطور موهبته فى التصوير وتراكم خبراته وقدراته التمييزية بين الجيد والرديء أو الفنى والتقليدى من اللقطات والكادرات التصويرية.

وفى الرواية منفذ جمالى بارز ومهم ارتكز على توظيف الحجر الغامض الذى عثر عليه كمال وأسماه حجر السعادة الذى أصبح عنوانا للرواية، بما يوحى بانفتاح نسبى على توظيف أسطورى أو غرائبى أو شكل من الفنتازيا أو العجائبية التى كان يمكن تنميتها وتوسيعها أيضا بشكل يطور من التشويق أو ينميه وبخاصة لو كانت هذه التنمية ترتكز على ربط لهذا الحجر باحتمالات تاريخية بأن يكون حجرا موروثا عن شخصية تاريخية أو حجرا يتجذر فى تاريخ العراقى الأسطوري.

وربما يكون ميل منشئ الخطاب الروائى إلى تحجيم هذه الفنتازيا بدافع الحرص على ألا تشوش هذه الفنتازيا على الأبعاد الواقعية التى أراد نقدها، وإن كان تصورنا أن العكس هو الصحيح وأن تنمية الفنتازيا كان قادرا على إثراء الإسقاط الواقعى وخلق حال من المقابلة بين الماضى والحاضر أو بين التاريخ القديم المزدهر والواقع الحالى المتردي.

ولكن المهم إجمالا أن هذا الحجر الأسطورى مازالت له أبعاده العجائبية المحجمة التى تربطه بالماورائيات والسحر، والقابلية للتفسير الرمزي، بأن يمثل هذا الحجر وامتصاصه استحلاب عبق التاريخ أو بقايا طعمه فى ذاكرة المواطن العراقى الذى يتصبر به على مرارة واقعه، والتمليح فى آخر الرواية إلى أن هذا الاستحلاب لدسم التاريخ وعبقه يمثل مصدرا للخمول أو الاستنامة ولذلك كان التمرد على حجر السعادة الغامض مطلبا لتحقيق النهضة أو الإصلاح الذى أوحت به الرواية فى آخرها.

ويبدو نموذج الإنسانى العراقى الذى يجسده كمال نموذجا مثاليا يحافظ على براءته ولا تلوثه شرور العالم التى تصادفه أو تحرفه إلى وتبدله إلى إنسان آخر، بل يبقى فى أغلب الأحيان طوباويا محبا للحياة مؤمنا بالوطن حتى النهاية وهو ما يجعلنا فى المجمل أمام رسالة كلية أو إجمالية متفائلة برغم كل هذا البؤس الظاهر.

وففى الأعماق يعيش الأمل جنينا منتظرا، وما يعترى هذا النموذج المثالى من الرغبة فى الانتقام هى مجرد حالة عابرة ورد فعل مؤقت وطبيعى يتلاشى مع الوقت، وهكذا فإن كل هذا التصوير والتشكيل الموجه أو الذى يحمل بأعماقه دلالات خفية سواء ترتبط بالشخصيات أو المكان ليدل على قصد تصوير المسيرة أو رصد تاريخ الوطن بهذه الكيفية التى يتراكب فيها الفردى والجماعى فى علامة واحدة. فالمشهد الواحد مثلا قد يدل على الواقع اليومى الفعلى أو يكون دالا على رمزية تاريخية.

وكما نجد ذلك متجسدا فى مشهد السينما الذى يستعيده كمال واختلاف رأى رواد السينما من العراقيين حول مصير الزوجة الخائنة فى الفيلم الإيطالى من الجنة أو النار الذى تحول إلى مشاجرة دالة على الاحتراب والتشاجر الدينى الذى حصل فى المستقبل، وكيف انتهى هذا الشجار بسلاسة عبثية حين تدخل أحد السكارى بالفعل المتهور والرأى وتحول المشهد أو بالأحرى انقلب إلى عناق وأحضان وتصالح، وبما يوحى بدلالات كثيرة مهمة عن جوهر الإنسان العراقى الذى يرى الخطاب الروائى أن كلها هذه السلبيات التى لحقت به هى مجرد ملوثات خارجية طارئة ما أسهل إزالتها أو محوها والعودة إلى الجوهر الطيب. فى هذا المشهد المثالى الذى يوجد مشاهد أخرى شبيهة فى الانفتاح على التأويل أو التذبذب بين الواقعى والرمزي.

ولكن هذا المشهد المركزى الذى يأتى فى منتصف الرواية يحاول تكثيف رسالة الخطاب الروائى الإجمالية ويوحى بها وفق هذا النمط التأويلى الذى يصبح المتلقى فيه شريكا فى إنتاج الدلالة. وحين نحاول أن نلتمس العلامات الصغيرة العابرة التى تعضد هذا التأويل، سنجد الكثير منها، مثل ذلك التعبير أو الجملة التى يصرح بها البطل عن جذور الإنسان العراقى وأصوله التاريخية، والإشارة المكثفة إلى ملحمة جلجامش بوصفه جدا للعراقيين.

وحين كان يبكى على صاحبه أو يجتاز الغابة باحثا عن الحقيقة، فهى كلها دالة على تلك المعانى الإيجابية التى يوحى بها الخطاب ويحملها فى أعماقه برغم كل هذه الحمولات الظاهرة من التردى والشر ومظاهر الانهيار. ولذا ربما تكون العبارة الأخيرة أو القفلة الختامية فى الرواية قفلة نموذجية وعظيمة على المستويين الجمالى والدلالي.

وحين انتهت الرواية بممارسة الحب بين قطبى الحياة العراقية المخلصين؛ كمال ونادية، وطلع النهار بعد هذا الحب بما يرمز له من الخروج إلى النور وشمس الحضارة واستعادة الصورة المثالية للعراق واستقراره ومدنيته بعد ثورة عنيفة على المليشيات الدينية والاستبداد، وكذلك بفوات الفرصة فى الانتقام، بأن طلع النهار وفات الوقت للانتقام فلم يكن هذا البزوغ ملوثا بأى من مظاهر الشر أو بالانتقام أو القتل ولكن بجلاء الفاسدين وغير الوطنيين.

والحقيقة أن من الناحية البنائية أو الشكلية هناك ألعاب سردية كثيرة اعتمد عليها الخطاب الروائى تتمثل فى التشويق والاستعانة بالأحداث الكبرى أو تيمات الصراع والاحتراب أو الأطراف المتنازعة أو المتعارضة لخلق بنية سردية مشوقة، سواء فكرة القاتل المأجور أو حالات الصراع من أجل البقاء بتوزعها على خطاب الرواية كله.

وسواء الصراع مع اللصوص أو الفاسدين أو البلطجية.. إلخ مما يجعلنا أمام عالم يهيمن عليه الصراع وحالات الشد والجذب بين هذه الأطراف المتناقضة من الخير والشر. وهناك كذلك توظيف الرؤى أو الصراع ضد الموت والمجهول وحالات الفقد سواء للحبيبة فى مساحة من السرد أو فقد الأخ والأخت والأم فى مجمل أحداث الرواية، بما يخلق دوافع نفسية مكثفة تنهض عليها الملامح الداخلية للشخصية.

اقرأ ايضاً| ناصر الربَّاط يكتب: القاهرة أكبر مركز للإنتاج الثقافى فى العالم العربى و يرى أنها لم تتزعزع رغم محاولات بعض الدول