يوميات الاخبار

أسطى.. وصبيان

سمير الجمل
سمير الجمل

سمير الجمل

عندما طالب المخرج الكبير صلاح أبوسيف من نجيب محفوظ بأن يكتب السيناريو كانت اجابته: ليست صنعتى يا أستاذ أنا أدباتى!

ظهر مؤخرا نظام ورش السيناريو الذى يعتمد على الاسلوب الجماعى فى الكتابة.. ومن يشاهد الافلام القديمة سيجد على الشاشة مجموعة اسماء تبدأ بصاحب القصة أو الرواية ثم من صاغها فى قالب سينمائى أو تليفزيونى.. ثم من كتب السيناريو وآخر قد كتب الحوار.. وفى فيلم «القاهرة ٣٠» على سبيل المثال كانت القصة للاستاذ نجيب محفوظ.. ولكن الرقابة رفضتها مراراً وتكراراً وكان اسمها الأصلى «القاهرة الجديدة» ورأت الرقابة انها تحمل الكثير من الإسقاط السياسى على القصر..

وعاد بها إلى أيام الملكية حتى يهرب من هذا المأزق وضع أبوسيف تصوره لتقديم الرواية فى السينما وبعض المواقع تكتب أن محفوظ اشترك فى السيناريو وهو أمر غير حقيقى.. لان المخرج بعد أن استقر على المعالجة أو طريقة تقديم الرواية فى السينما أسند كتابة السيناريو إلى تلميذته «وفيه خيري».. وكان يستعين بفريق من الذين درسوا فى المعهد الذى أسسه لفن السيناريو.. لمناقشة السيناريو فى كتابته الأولى ثم الثانية بعد المناقشات.. وتكرر الأمر فى أكثر من جلسة.. بعدها استقر أبوسيف على إعادة صياغة السيناريو بشكل أكثر احترافية من خلال السيناريست على الزرقانى.. وهو معهم خطوة خطوة.. ولأن الرواية تأخذ الطابع السياسى.. اختار لكتابة الحوار لطفى الخولى الكاتب الصحفى اليسارى.. وهكذا اجتمعت تحت بند التأليف أربعة اسماء لم تتقابل مع بعضها.. وقد أصدر الناقد الكبير هاشم النحاس يوميات هذا الفيلم فى كتاب ممتع.. يحكى فيه كان المخرج العبقرى يعيش ميلاد الفيلم من اللحظات الأولى حتى إذا جاء وقت التصوير كان السيناريو كله فى رأسه وقلبه ووجدانه.. ولذلك يعيش مثل هذا العمل جيلا بعد جيل..
السيناريو هو قطعة الأرض التى يتم عليها بناء العمارة السينمائية.. وكل العناصر المشتركة تنطلق من «النص» الذى يسمونه فى هذه الأيام بالورق.. وهى تسمية سخيفة ورخيصة لا تليق بعمل ابداعى وانظر إلى أفلامنا الشامخة الراسخة خلف منها كاتب أو مجموعة كتاب حدث ذلك فى أعمال عظيمة مثل الأرض /الرسالة/ صلاح الدين الأيوبى.


أما أن تتشارك مجموعة فى عمل بحيث يأخذ كل واحد فيها أحد الخطوط ويعمل عليها.. فالنتيجة النهائية غالبا نص مشوه مهما حاولوا تجميله لانه يفتقد الروح الواحدة المتسقة مع ما تقول وتكتب وكاتب نوبل جابريل ماركيز عنده واحدة من اشهر ورش السيناريو فى العالم.. تضم الكاتب والروائى والسيناريست والمصور والمخرج.. المنتج والمونتير.. ويدخل عليهم ماركيز طالبا منهم فكرة مسلسل بوليسى فى ١٣ حلقة مثلا.. عندها يبدأ كل واحد فى طرح فكرة مأخوذة عن رواية أو حادثة أو حكاية سمعها من هنا أو هناك ومثلما ترمى بحجر فى نهر.. ليضع دائرة سرعان ما تتسع إلى دوائر أكبر فأكبر.. تنمو الفكرة من المناقشة.. رأى من هنا وآخر من هناك.. وشخص واحد فقط يكتب ويصيغ ما تم الاتفاق عليه.. وبعد الاستقرار على خطوط المسلسل وشخصياته.. تبدأ المجموعة فى الحلقات واحدة بعد الأخرى.. يفكرون كمجموعة.. فى عمل واحد.. يكتبه فى نهاية المطاف كاتب واحد يترجم الافكار إلى مشاهد وحوار وتفاصيل.. لكن أن يأتى احدهم لمجرد أن اسما لمع فى عمل لسبب أو آخر.. فتراه فى العمل التالى أسطى بجد مع مجموعة صبيان.. ولا تتعجب اذا وجدت لهذا الكاتب أربعة أو خمسة أعمال فى موسم واحد.. وستضحك بعد ذلك أن الغالبية تدخل الاستديو وليس معها الا حلقات قليلة وقد حكى لى ممثل قدير أنهم تكلموا معه عن مسلسل ولما سأل عن السيناريو قالوا له دورك أب لثلاث بنات كل واحدة عندها مشكلة والبركة فيك يا أستاذ.. ورفض هذه المسخرة الفنية.. ولو وقفنا أمام أفضل الأعمال فى السنوات الأخيرة سنجد أن خلفها كاتبا..

عبدالرحيم كمال مثلا فى «جزيرة غمام» وقبلها ونوس ودهشة.. ومريم نعوم فى «ذات» ومريم وهالة الزغندى فى رواية بهاء طاهر «واحة الغروب».. ومسلسل «راجعين يا هوى» الذى كتبه محمد سليمان عبدالمالك عن مسلسل إذاعى كتبه أسامة أنور عكاشة فى ٣٠ حلقة وكانت مأمورية السيناريست هنا الاستفادة من حوار أسامة وتحويل المسموع إلى مرئى.. بجهد مشكور.
ولن تنصلح أحوال الدراما.. إلا بوجود السيناريست المثقف الواعى.. الذى يعرف كيف يحترم كل حرف يكتبه ورحم الله الأستاذ عبدالوارث عسر أو من كتب النص فى تاريخ السينما ورحم الله الأكابر الذين تعلمنا منهم أن حياة كل فرد يبحث عن النجاح تحتاج فيه أن يفتش عن السيناريست الذى يعيش بداخله وهو لا يشعر بأنه اذا أحسن التخطيط ورسم صورة مستقبله على ضوء حاضره مستعينا بماضيه سوف يصل الى ما يريد وقديما قال يوسف بك وهبى: ما الدنيا إلا مسرح كبير.. فهل أصبح من حقنا الآن أن نقول: وما الحياة إلا سيناريو عرفنا بدايته ولا يعلم نهايته إلا الله سبحانه!
فلاش باك
عندما طالب المخرج الكبير صلاح أبوسيف من نجيب محفوظ بأن يكتب السيناريو كانت اجابته: ليست صنعتى يا أستاذ أنا أدباتى!
لكن المخرج الذى قرأ ما صدر لهذا الأديب من روايات كان يعرف أن اسلوبه فى السرد أو الحكى.. أقرب إلى السيناريو.. الشخصيات عنده لها ملامح واضحة فى ظاهرة وباطنها وسلوكها المخفى والمعلن وهى تتحرك وتتفاعل فى سياق القصة التى تجمع الكل..
أبوسيف جاء إليه بعد ذلك بنص سيناريو نظر إليه محفوظ بعين العجب والدهشة.. ل/ن/د/خ.. لقطة عامة/ متوسطة أفان تتر/.. ولكن المخرج شرح له أنها ليست لوغاريتمات أو معادلات كيميائية.. لان «ل» يعنى «ليل» و»ن» «نهار» و»د» داخلى و»خ» خارجى.. وأحجام اللقطات شغلانة المخرج.. والمهم فى المشهد أن تحدد مكانه وزمانه وماذا يدور فيه وما هى شخصياته وهو اشبه بدرجات السلم كل واحدة تأخذك لما بعدها وكل ما يدور بين أربعة جدران وسقف «داخلي».. وكل مكان مفتوح خارجى..
وكل ما كان وصف الحالة التى عليها شخصية القصة.. دقيقا.. كلما عرف الممثل كيف يمسك بها ويعيشها.. فالسيناريست قد يكتب بأن «فتحي» قدم إلى «سعيد» مبلغا من المال. لكنه غفل عن الطريقة التى قدم بها المبلغ شاكرا.. غاضبا.. بلا مبالاة.. فى تكبر.. فى ضعف.. وكلها تفرق كتير.
قد يكتب أحدهم فى رأس المشهد أنه يدور فى حديقة عامة.. لكن السيناريست الحريف سيحددها.. فإذا اختار حديقة الأزهر مثلا فإنه يسمح للمخرج والمصور معه.. بإظهار الوجه الإسلامى للقاهرة.. لان الحديقة على مرتفع وتحيط بها مآذن الازهر والحسين وسائر المساجد.. وامامها المقابر. ومشيخة الأزهر.. ودار الإفتاء.
واذا قال حديقة الأورمان.. فهى قريبة من جامعة القاهرة... وأغلب روادها من الطلاب والطالبات.. تم إن فيها زهورا وأشجارا نادرة.. والفتى الذى أخذ مكانه إلى هناك سوف يقارن بينها وبين زهرة موجودة فى الحديقة..
فى الحياة العامة نحن نتصرف حسب الظروف.. فى الحياة الدرامية.. كل شيء يتم اختياره عن طريق متخصصين.. الملابس.. الديكور.. الاكسسوار الالوان.. الصور على الحائط.. الشخصية الموجودة على الحائط التى تقول إن الأهلى هو نادى القرن وانه عمهم.. أو تتحدث عن مدرسة الفن والهندسة..
«فوتوكوبى»
من قال إن الفن يأخذ من الواقع.. لا يعرف أن الفن مهمته محاكاة الواقع أو الإيحاء بأن ما تراه على الشاشة «واقعي».. ثم إن مهمته الأعظم إعادة صياغة الواقع.. لكى نتصالح مع انفسنا.. ومع من حولنا.. لان الواقع نعيشه ونقله حرفيا مسألة غير منطقية.. لان الزمن على الشاشة زمن درامى.. يسمح لك أن تحكى سيرة بطل عاش ٨٠ عاما فى ساعتين ويسمح للبطل أن يسافر إلى امريكا فى غمضة عين من مشهد إلى آخر بينما فى الواقع.. يحتاج مقابلات ودولارات وتأشيرات وطيران كل يوم تمشى فى هذا الشارع من ٣٠ سنة.. لكن الكاميرا صورته من أعلى فاذا بك ترى ما لم تكن عينك قد رأت.. فى الحياة نتكلم حسب ثقافتنا وأعمارنا.. فى الدراما نتكلم لغة أخرى يختلط فيها الواقع بالحكمة وخفة الظل بكلام مكتوب بمهارة وصنعة ربما يناسب كل شخصية حسب المهنة والبيئة والوضع الاجتماعى.
أسامة أنور عكاشة.. لم يدرس السيناريو وعندما قابله زميل دراسته المخرج فخر الدين صلاح وطلب منه أن يكتب للتليفزيون اندهش لانه يكتب القصة والرواية الأدبية.. لكن فخر كان يعرف بأن اسامة خريج الفلسفة وعلم النفس اذا «شبط» فى هذه الصنعة فسوف يكون من الاسطوانات فى زمن قياسى.. لان القصة أو الرواية ما هى الا مجموعة من الاحداث تجرى بين شخصيات فى أماكن معينة وأزمنة محددة وشكرا.. وهى نفس أعمدة الفيلم أو المسلسل التليفزيونى أو الاذاعى أو المسرحية.. لا تختلف الا فى الوعاء الذى يحتويها.. لان زمن الفيلم غير المسلسل وتتابع المشاهد على الشاشة يختلف عنه على خشبة المسرح.
والدراما.. قصة أو حدوتة أو حكاية فيها صراع.. بين قوى وضعيف.. غنى وفقير.. ظالم ومظلوم.. وقد يتصارع الانسان مع عقده وكلاكيعه.. وقد يتصارع مع الطبيعة براكين عواصف زلازل.. أو مع اقداره.. فى البر والبحر والجو.. أومع ظروفه واسامة تفوق فى المسلسلات لانه مثل عداء المسافات الطويلة بينما وحيد حامد فى السينما مثل عداء المائة متر.. مع طلقة البداية يكون فى نصف السكة..إضافة إلى ذلك فإن بداية وحيد مع الدراما الاذاعية التى تراها بأذنك وليس بعينك.. جعلت حواره أبعد ما يكون عن الرطرطة والزوائد والجملة المحفوظة التى أكل عليها الدهر وشرب: انت جيت يا أحمد؟ طيب ياللى على الباب مستعجل ليه؟.. لازم اشرب عشان أنسى؟..
ومن يريد أن يتعلم كيف يكون الحوار مناسباً للمكان والشخصيات عليه أن يتابع فيلم شاطيء الغرام.. للمعلم الكبير على الزرقانى.. عندما يغازل ليلى مراد على صخرة مطروح الشهيرة وهى تغنى «أحب اتنين سوا».. ينطلق الحوار من هنا ويا ترى هما بيحبوكى.. لقد وقف على مقربة منها حتى تنتهى من الغناء ثم يكلمها بلطف ينسجم مع هواء البحر ولوكان شابا من ابناء عصر نمبر زيرو.. لجاء من خلفها كأنه عفريت يريد أن يأكلها فى وحدتها هذه: الحلو بيعمل ايه هنا لوحده احنا فى الخدمة ياقمر ثم فى مشهد آخر يذهب صدقى إلى ليلى فى المدرسة التى تعمل بها.. وبينما تكتب على السبورة اسماء بعض الحيوانات.. والاطفال الصغار يرددون خلفها.. تلاحظ وجود صدقى والأبرياء يضحكون.. فإذا بها تكتب «حمار» ولما ظل على اصراره اضافت الى الحمار وصف «كبير».. هكذا جاء الحوار من وحى مهنة البطلة والموقف واختيار مدرسة ابتدائية تعكس براءة الاطفال.. وإلا تحول المشهد إلى مدرسة المشاغبين.