طارق النعمان يكتب: تقنيات الرواية.. حساسية نصية وإحكام بنائي

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

لن أصدِّر خطابى بما اعتاد الكثيرون أن يُصدِّروا به خطاباتهم حين يتحدثون أو يكتبون عن أصدقائهم، بأن شهادتهم فى هذا أو ذاك الصديق مجروحة؛ إذ إننى أنطلق من موقع آخر، ومن زاوية نظر مختلفة، وهى أن شهادة الصديق يُفترض فيها أن تكون موثوقة، وأن الصديق الحق هو بلغة السرد راوٍ ثقة reliable narrator بكل معنى الكلمة، لأنه يُتَاح لرؤيته أن تكون «رؤية مع»؛ إذ لا يمكن لها بالطبع أن تكون «رؤية من الخلف» أو أن تكون مجرد «رؤية من الخارج»، مثلما تكون فى الأغلب رؤى غير الأصدقاء، والحقيقة أن وصفى لشهادتى هنا بأنها من قبيل «الرؤية مع» ليس من قبيل التلاعب البلاغى بالمصطلح، وإنما لأننى فعلاً قد عايشت على عفيفى فى كل محطات حياته الأساسية على مدار ثلاثة عقود متصلة.

إن صداقتى بعلى عفيفي، تمتد كما قلت إلى ثلاثة عقود كاملة، وهو من نوعية الأصدقاء الذين تنطبق عليهم مقولة الصداقة من أول لقاء؛ ذلك أن هناك أصدقاء تنعقد ما بينك وبينهم معاهدة الصداقة من تلقاء نفسها بمجرد لقائكما الأول معًا؛ إذ تدركان معًا  أنكما قد أصبحتما صديقين، ولا شك أن علاقتى بعلى من هذه النوعية وأنا شخصيًا لدىّ عدد وافر من هؤلاء الأصدقاء وهم فعليًا جميعًا الأصدقاء الحقيقيون بالنسبة لي، سواء كنتُ أتواصل معهم باستمرار أو ننقطع حتى عن بعضنا لسنوات، بسبب ظروف الحياة، لكن ما أن نلتقى حتى يتصل ما انقطع وكأننا كنا معًا بالأمس.

ومنذ أن عرفت على أدركت فيه أصالة على الصعيد الإنسانى وأصالة أخرى أيضًا على الصعيد الثقافى والمعرفى والعلمي، وفى تقديرى أن على شخص استثنائي، وموهوب بكل معنى الكلمة، بل إننى لا أبالغ أو أغالى إذا ما قلت إنه متعدد المواهب.

وفهو، لمن لا يعرف، شاعر له ثلاثة دواوين هى «الخنادق» و«غير قابل للكسر»، و«غرفة الورد»، فضلاً عن العديد من القصائد والمقالات المنشورة فى العديد من المجلات والدوريات المصرية والعربية. وهو أيضًا سيناريست ومخرج ومُعِدٌّ للعديد من الأفلام التسجيلية المتميزة والمهمة، وهي:

سيناريو فيلم البرلس، إنتاج قناة النيل للأخبار، قطاع النيل للقنوات المتخصصة، تليفزيون جمهورية مصر العربية،عام 2003.

• فيلم رباعية الفرح، سيرة شعرية لمحمد عفيفى مطر، إنتاج قناة النيل الثقافية، قطاع النيل للقنوات المتخصصة، عام 2004.

• فيلم شجرة العيلة، إنتاج قناة النيل للأخبار، قطاع النيل للقنوات المتخصصة، عام 2004.

• فيلم ليلة أفريقية، إنتاج الإدارة المركزية للإنتاج المتميز، قطاع النيل للقنوات المتخصصة، عام 2004.

• فيلم سطور من نور، مصادر المعرفة فى مصر، إنتاج قطاع الإنتاج بالتليفزيون المصري، عام 2005.

• فيلم مسافر فى الطوفان، عن الشاعر محمد الشهاوي، إنتاج قناة التنوير، قطاع النيل للقنوات المتخصصة، 2005.

• بدلة برونز، عن النحات سيد عبده سليم، إنتاج الإدارة المركزية للإنتاج المتميز، قطاع النيل للقنوات المتخصصة، عام 2005.

• أحمد شوقي، أمير الشعراء، إنتاج مؤسسة جائزة البابطين بالكويت، 2007.

• فيلم بين شطين وميه، عن الفنان محمد عبلة، إنتاج قناة النيل الثقافية، 2007.

• فيلم قناة السويس، التليفزيون المصري، 2007.

• فيلم منتدى ديفوس الاقتصادي، التليفزيون المصري، 2007.

• فيلم النوبة، إنتاج قطاع الإنتاج، التليفزيون المصري، 2008.

• على مصطفى مشرفة، عالم الذرة المصري.

فضلاً عن 30 فيلمًا تسجيليًا أعدها إبان عمله فى قطاع السينما فى هيئة قصور الثقافة. إضافة لعمله كمعد أيضًا للعديد من البرامج فى قناة النيل الثقافية.

وكما عمل أيضًا فى مجال النشر، وكانت لديه دار نشر، والأطرف من كل ذلك أنه قبل أن يحصل على ليسانس اللغة العربية والماجستير والدكتوراة فى مجال السرد، حصل على بكالوريوس العلوم والتربية فى الفيزياء والكيمياء، كما أنه أيضًا مترجم متميز، كما درَّس اللغة العربية للأجانب فى كل من جامعة تكساس بالولايات المتحدة.

وكذلك بجامعة كومينيوس بسلوفاكيا. وهو قبل كل ذلك، وبعده، كما سبق أن قلت، إنسان حقيقى بكل معنى الكلمة، ورجل بكل بمعنى الكلمة مع أصدقائه، صديق وفى وشهم وجدع، وكما يقول التعبير اليومى المألوف، صاحب صاحبه، وإضافة إلى كل ذلك هو إنسان عذب جدًا، وخفيف الظل للغاية لمن يعرفونه عن قرب.

وهذا فى عُجالة سريعة بورتريه سريع جدًا لعلى عفيفى كما عرفته على مدار كل هذه السنوات الطويلة التى مضت سريعًا، فضلاً عن مجموعة أخرى من المهارات الحياتية واليدوية التى لا يتسع لها المقام هنا بالتأكيد، وفى تقديرى أن هذا كله يجعل منه منظومة إنسانية فريدة متعددة الوجوه والجوانب والملكات.

وأما إذا ما انتقلت إلى على عفيفى الباحث والناقد، فإنه يمكننى القول إن على عفيفى يتصف بصفتين هما، فى تقديري، أهم صفتين يمكن أن يتصف بهما باحث أو دارس حقيقي، وهما: الفضول المعرفي، والقدرة على المساءلة وطرح الأسئلة الجديدة.

وإن الفضول المعرفى يتجلى تمام التجلى فى اختياره لموضوع الماجستير الذى كان حول مفهوم جديد كل الجدة على النقد العربى والثقافة العربية، وهو مفهوم المروى عليه الذى لم يتم تقديمه للنقد العربى والثقافة العربية إلا على يدى على عفيفى وكلامى هنا خالٍ تمامًا من أى مبالغة، إذ بالفعل لم يكن لهذا المفهوم حضور من أى نوع فى مكتبة السرد العربى إلى أن ترجم على عفيفى 1993 مقال جيرالد بيرنس Introduction to the Study of the Narratee «مقدمة لدراسة المروى عليه» عن هذا المفهوم ونشره فى مجلة فصول، ثم كان تسجيله للماجستير فى المفهوم ذاته مطبقًا على روايات عبد الحكيم قاسم رحمة الله عليه. وبهذا المعنى يُعد  على عفيفى أحد من ساهموا مساهمة مهمة وبارزة فى تقديم بعض جوانب النظرية السردية المعاصرة للقارئ العربي.

وإذ قدَّم لنا هذا المفهوم البالغ الأهمية مرة من خلال الترجمة وأخرى من خلال تمثله له وتطبيقه على نصوص عبد الحكيم قاسم، ومرة أخرى فإن الأمانة تقتضى تسجيل ريادة على عفيفى فى تقديمه لمفهوم المروى عليه الذى كان مجهولا تمامًا على امتدادالعالم العربى من أقصاه إلى أقصاه.

وإلى أن قدَّمه هو. وقد كان من دواعى سعادتى وسرورى أن دفعتُ بهذه الرسالة إلى النشر فى المجلس الأعلى للثقافة خلال وجودى رئيسًا للإدارة المركزية للشعب واللجان، وإن كان قد صدر بعد رحيلى عن المجلس.

ولا شك أن كتاب على عفيفى حول المروى عليه، والمطبوع تحت عنوان «نظرية القراءة: روايات عبد الحكيم قاسم نموذجًا» هو أوفى ما كُتِب حتى الآن حول هذا المفهوم المهم والذى أصبح اليوم مفهومًا مركزيًا فى مجال دراسات السرد، وهو بهذا المعنى يعد صاحب إسهام حقيقى فى تقديم بعض مفاهيم النظرية المعاصرة فى مجال السرد وفى مجال نظرية القراءة فى العالم العربي.

وفى تقديرى أن اختيار مفهوم جديد على هذا النحو، أى مفهوم مجهول تمامًا داخل الثقافة العربية لا يُقْدِم عليه إلا شخص يتسم بفضول معرفى شديد وشجاعة لافتة، ومراهنة كبيرة على الذات تصل إلى حد المغامرة، إلا أن نتيجة هذه المغامرة قد أسفرت عن عمل شديد التميز أصبح هو المرجع المعتمد حول مفهوم المروى عليه تقريبًا فى كل الدراسات التى تتناول المفهوم بعد ذلك، بما يؤكد لنا أنه كما قال المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتى العزائم     وتأتى على قدر الكرام المكارم

وتعظم فى عين الصغير صغارها    وتصغر فى عين العظيم العظائم 

وهو وإن كان قد اختار فى دراسته للماجستير مفهومًا جديدًا تمامًا فى مجال السرد، وهو مفهوم «المروى عليه»؛ فإنه فى دراسته للدكتوراة يختار مفهومًا قد يبدو قديمًا ومألوفًا، وهو مفهوم «زاوية النظر»، أو «وجهة النظر» «point of view» الذى تعود نشأته إلى عام 1921 أى إلى حوالى قرن كامل من الزمان.

والذى كان أول من قدمه فى صورته البكر الأولى بيرسى لوبوك فى كتابه الشهير The Craft of Fiction أى حرفة الرواية، أو صنعة الرواية، ثم أخذت تتوالى بعد ذلك الدراسات حوله لدى نورمان فريدمان عام 1955 فى مقاله الشهير «زاوية النظر فى القص: تطور مفهوم نقدي» Point of View in Fiction: The Development of a Critical Concept ثم واين بوث عام 1961 فى كتابه بلاغة القص The Rhetoric of Fiction ثم لدى بوريس أوسبنسكى فى شعرية التأليف الذى صدر بالروسية وترجم إلى الفرنسية فى 1972 وإلى الإنجليزية عام 1973 ولكنه لم يدخل الثقافة العربية ويظهر لأول مرة إلا  فى رسالة سيزا قاسم للدكتوراة التى نوقشت عام 1978،

وكانت طبعتها الأولى بعد ذلك عام 1982 عن دار التنوير، ثم كانت طبعته الثانية فى الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1984 والتى كانت فى تقديرى تشكل نوعًا من القطيعة فى مجال دراسات السرد فى العالم العربي، إذ قبل كتابها هذا كان النقد السائد فى مجال السرد هو النقد الأيديولوجى المنطلق من الماركسية.

ولكن المؤكَّد أن كيفية تناول على عفيفى لمفهوم «وجهة النظر» أو «زاوية الرؤية» سواء على صعيد تأصيله النظرى أو على صعيد تحويله إلى أداة تحليلية ناجعة وكاشفة لتقنيات سردية أخرى يمثل خصوصية تناوله لهذا المفهوم، أو بعبارة أخرى يكشف عن أن الدراسة كانت تحركها من البداية مجموعة من الأسئلة الضمنية المضمرة، حول علاقة زاوية الرؤية بمختلف المكونات والتقنيات السردية وتفاعلها معها ورصد وتحليل هذه التفاعلات وتجلياتها فى عشرين عملاً روائيًا.

وهو ما يمثل إضافة حقيقية غير مسبوقة على صعيد دراسات السرد العربى وعلاقة زاوية الرؤية بكل من النوع الفرعى والتيمة والزمن والمكان والمسافات السردية.. على نحو ما هو فى هذه الأطروحة. ذلك أن عنوان هذا العمل الأصلى كرسالة دكتوراة هو «أثر زاوية الرؤية فى تقنيات السرد: عند روائيى الستينيات»، وليس كما هو فى صورته المطبوع عليها ككتاب بعنوان «تقنيات الرواية» وهو ما يعنى أنه لا تتم فى هذه الدراسة معاينة مفهوم «زاوية الرؤية» فى ذاته أو فى نطاق انعكاساته العامة على السرد، بصورة عامة على نحو ما نجد فى العديد من الدراسات.

وإنما نجد أن الدراسة تنظر إلى زاوية الرؤية كتقنية محورية فاعلة فى علاقاتها بالعديد من العناصر والتقنيات السردية الأخرى، وهذا ما يمثل خصوصية هذه الدراسة وأوجه اختلافها وتمايزها والفارق بينها وبين العديد من الفصول التى تحمل عنوان «زاوية الرؤية» أو «وجهة النظر» فى العديد من الكتب والدراسات الخاصة بالموضوع، تلك الدراسات التى يتعذر أن تجد فيها جديدًا حول الموضوع والتى تكرِّر المقولات ذاتها حول هذا التصنيف الثلاثى لزاوية الرؤية، أو لوجهات النظر وفقًا لجان بويون وتودوروف، وهي:

النوع الأول: رؤية الراوى العليم أو الراوى الكلى المعرفة omniscient narrator، وهى التى يدعوها جان بويون «الرؤية من الخلف» «vision from behind» والتى يرمز لها تودوروف ب أن (الراوى > الشخصية) (حيث يعرف الراوى أكثر مما تعرف الشخصية، أو بالضبط يقول أكثر مما تعرف أى شخصية من الشخصيات).

النوع الثاني: الراوى = الشخصية (الراوى لا يقول إلا ما تعرفه فقط الشخصية)؛ وهذا هو السرد الذى يدعوه لوبوك السرد ب «وجهة نظر» أو ب «حقل محدود» with “restricted field”، وهو ما يدعوه بويون «الرؤية مع » vision with"

النوع الثالث: الراوى < الشخصية (الراوى يقول أقل مما تعرفه الشخصية)؛ وهو ما يدعوه بويون "الرؤية من الخارج" "vision from without."

وفى تقديرى أنه كان من الأفضل أن يكون مصطلح زاوية الرؤية أو وجهة النظر مضمنًا فى عنوان الكتاب المنشور، كأن يكون مثلاً «زاوية الرؤية وتقنيات الرواية» ، فإن مثل هذا العنوان كان سيعنى أكثر بمضمون الكتاب ومحتواه، كما أنه كان سيكسبه التمايز الذى يميزه عن كتب أخرى تحمل مصطلح التقنيات هكذا على إطلاقه، إذ لو كان الكتاب قد عُنْوِن بهذا العنوان لكان كاشفًا من عتبته الأولى عن هذا التفاعل بين زاوية الرؤية والتقنيات بدلاً من هذا الإخفاء أو هذه التعمية التى لا أجد لها أى مبرر فى الحقيقة.

ولذا أتمنى أن يتم تضمين مصطلح زاوية الرؤية فى طبعات الكتاب اللاحقة، لأن كتابًا كهذا لابد فى تقديرى من أن تتعدد طبعاته؛ نظرًا لأهميته وتفرده حتى هذه اللحظة فى مجال الدراسات السردية.

ولعل جملة النفرى الشهيرة «العلم المستقر جهل مستقر»  والتى تتحول لدى البعض، إلى طقس وشعيرة، ومنهم، فيما أتصور، على عفيفي، والتى يفتتح ويختتم بها مقدمة الدراسة توجز لنا موقف الدارس والدراسة من العلم والمعرفة؛ إذ فعليًا لا ينطلق الدارس فى هذه الدراسة من العلم المستقر؛ ولا من الإجابات المستقرة، وإنما يعيد مساءلة المفهوم فى ذاته وفى علاقاته.

وأى أن هذه الدراسة تعيد تناول سؤال زاوية الرؤية مجددًا، والسؤال هنا هو من أى زاوية رؤية تعيد هذه الدراسة مساءلة مفهوم ’’زاوية الرؤية‘‘، بالتأكيد ليس من زاوية الراوى العليم؛ لأنه لا يوجد راوٍ عليم أو كلى المعرفة فى مجال العلم، ولا من زاوية الرؤية مع، ولا من زاوية الرؤية من الخارج، وإنما من زاوية رؤية أخرى تمامًا هى زاوية مفعولات كل زاوية رؤية من هذه الزوايا وما ينتج عنها على صعيد تقنيات السرد المختلفة أى زاوية الرؤية فى علاقتها بالمروى عليه، وزاوية الرؤية فى علاقتها بالزمن، وزاوية الرؤية فى علاقتها بالمكان، وزاوية الرؤية فى علاقتها بإيديولوجيا السرد، وزاوية الرؤية فى علاقتها بالمسافات السردية المختلفة، فضلاً عن علاقة زاوية الرؤية بالأنواع الفرعية للرواية كجنس أدبي، حيث يتناول زاوية الرؤية فى علاقتها بالجنس الروائى، وأثر الجنس الروائى على زاوية الرؤية، وما قد يفرضه من ضرورات سردية، وفى هذا السياق تناولت الدراسة عشرين رواية تمثل أنواعًا سردية مختلفة تنوعت ما بين الرواية التاريخية، ورواية السيرة الذاتية، والفانتازيا أو الرواية العجائبية، ورواية تعدد الأصوات، ورواية الرحلات.

وعلى مستوى الرواية التاريخية تناول بالتحليل كلاً من (الزينى بركات) لجمال الغيطانى، و(ثلاثية غرناطة) للراحلة الجميلة رضوى عاشور و(السائرون نيامًا) لسعد مكاوى و(قلعة الجبل) لمحمد جبريل بوصفها نماذج للرواية التاريخية، وبالنسبة للسيرة الذاتية تتناول الدراسة كلاً من (حملة تفتيش) للطيفة الزيات ومعها (الأيام) لطه حسين كنموذجين للسيرة الذاتية، الأولى لاستخدامها ضمير المتكلم، والثانية لاستخدامها ضمير الغائب، وكذلك رواية (تلك الرائحة) لصنع الله إبراهيم، لخصوصية استخدامه لزاوية الرؤية «من الخارج» ضمن الرؤية «مع».

وكما نجد تحليلاً لثلاث روايات للراحل العظيم بهاء طاهر هى: (الحب فى المنفى) و(قالت ضحى) و(نقطة النور) باعتبار الأولى والثانية تقدمان نموذجا على استخدام ضمير المتكلم والرؤية «مع»، بينما تقدم (نقطة النور) استخدامًا  للراوى العليم وبالنسبة للرواية العجائبية يحلل كلاً من رواية (الشطار) لخيرى شلبى ورواية عبد الحكيم قاسم، (طرف من خبر الآخرة) بوصفهما نموذجين مختلفين للرواية العجائبية.

ورواية سليمان فياض، (أصوات) كنموذج لتعدد الرواة، كما يتخذ من روايتى صبرى موسى (فى الصحراء) وروايته (فساد الأمكنة) نموذجًا لأدب الرحلات،  كما يحلل روايتى عبد الحكيم قاسم، (أيام الإنسان السبعة) و(قدر الغرف المقبضة) كنموذجين على الرؤية «مع» باستخدام ضمير الغائب.

ومن هنا خصوصية مقاربة هذه الدراسة وتميزها اللافت. وفى تقديرى أن هذه الكيفية فى التناول مختلفة كل الاختلاف عن كل ما كتب فى مجال زاوية الرؤية باللغة العربية حتى الآن؛ ذلك أن أغلب أشكال التناول المهيمنة على مقاربة زاوية الرؤية تركز على الأبعاد الرؤيوية والمضمونية والأيديولوجية لكل زاوية رؤية من هذه الزوايا الثلاث، أما هذه الدراسة فقد قلبت المنظور، وأخذت تُقارب زاوية الرؤية بوصفها تقنية تنعكس على ما عداها من تقنيات سردية أخرى وتتفاعل معها.

ولعل أهم ما يميز قراءة الكاتب ليس فقط وعيه بالتقنية ودلالاتها، وإنما حساسيته النصية، ورهافة هذه الحساسية تجاه النص، فالكاتب لا يتراطن بمصطلحات وصيغ لا يفهمها على نحو ما نجد فى العديد من كتب البعض عن السرد ونظريات السرد، حيث نجد مؤلفين يحدثوننا عن مفاهيم لا يفهمونها بلغة تعكس عدم الفهم؛ ومن ثم تعجز بدورها عن الإفهام. بعبارة أخرى، إن من أهم ما يميز الكتاب الجانب التطبيقى المتمثل فى تحويل زاوية الرؤية إلى أداة تحليلية طيعة وناجعة فى توليد دلالات النصوص؛ كما يُضَاف إلى كل هذا تلك الحساسية التحليلية القادرة على استكناه واستخلاص الدلالات الثانوية فى التقنية لا بشكل مجرد أو عام.

وإنما انطلاقًا من خصوصية المعطيات الخاصة بكل نص من النصوص وآليات اشتغال تلك المعطيات. إذ نجدنا على مستوى قراءة النصوص السردية إزاء بصيرة نقدية نافذة، وإزاء قارئ يمتلك جهازًا قرائيًا شديد الحساسية، جهازًا قرائيًا بقدر ما يمتلك من معرفة مفاهيمية وإجرائية بقدر ما يتسم أيضًا بحساسية نقدية وذائقة أدبية رهيفة، ذائقة أدبية قادرة على إدراك اختلاف مذاقات النصوص وطعومها، وعلى الإنصات لأصواتها ونبراتها الخاصة.

ومن ثم لا تتحول القراءة فى هذه الدراسة إلى أى نوع من الآلية التى نشهدها فى الكثير من الدراسات التطبيقية والتى لا تعدو فى بعض الحالات أن تكون من قبيل إسقاط أو لنستخدم تعبيرًا أكثر تمثيلاً، دلق أو كب المفاهيم والإجراءات على النصوص دون إدراك اختلاف اشتغال التقنيات ذاتها ما بين نص وآخر.

وما يوجد بين التقنيات من تفاعلات وجدل. وهو سبب الشكوى الدائمة من ضعف وضحالة التطبيق فى واقعنا النقدي، وتكرار المقولات النظرية والمفاهيم دون تكييفها لمعطيات النصوص، ودون الحساسية الكافية فى إدراك خصوصية كل نص.

ويُضاف إلى كل هذا قدر كبير جدًا من الإحكام البنائى اللافت، فنحن إزاء نص يحقق شروط النصية بكل ما فيها من اتساق وتلاحم وتناغم، وتوازن شديد ما بين السرد والاقتباس من النصوص. وكل ذلك يتجلى عبر لغة وأسلوب يتسمان بالتدفق والانسيابية وجمال البناء، سواء على مستوى الجمل أو الفقرات أو الفصول.

 وأخيرًا، فإن هذا الكتاب من أثرى الكتب التى قرأتها بالعربية فى مجال نقد الرواية. بل إنه كتاب كانت تفتقر إليه المكتبة العربية بشدة فى مجال نقد الرواية، ونقد السرد بصفة عامة. إنه واحد من الكتب التأسيسية القليلة فى مجال النظرية السردية، ولذا فإننى أدعو جميع المهتمات والمهتمين بمجال السرد إلى قراءته.

وإن كان لى من ملاحظة أخرى أبديها، فهو عدم تعرض الدراسة للتطوير الذى قام به جيرار جينيت لمفهوم زاوية الرؤية من خلال تبنيه لمصطلح آخر هو مصطلح التبئير focalization لكي يتجنب الإيحاءات والتداعيات البصرية الكامنة فى  مصطلح «زاوية الرؤية»؛ إلا أننى أتصور أن مثل هذا التناول يمكن أن يكون موضوع دراسة أخرى قادمة أتمنى أن ينجزها الكاتب فى قادم الأيام. 

اقرأ ايضاً | اللزوم الدلالي في القرآن الكريم ظاهرة التمايز عن لغة البشر