سلفادور دالي.. تجارب «لذيذة الطعم»

سلفادور دالى.. تجارب «لذيذة الطعم»
سلفادور دالى.. تجارب «لذيذة الطعم»

إن أعظم فلاسفة أعضاء جسم الإنسان هى أسنانه. هذه الجملة التى قالها سلفادور دالى ليست ملخصاً لفلسفة كونت كيسيرلينج والتى ترى أن المحرك الرئيسى لحياة البشر وثقافتهم هو الجوع، وإنما هى انعكاس لواحدة من ثوابت الشخصية الفنية الأعمق عند سلفادور دالي.

ربما ليس من الفراغ أن نؤكد على أنه فى اللغة الإسبانية تعبر كلمتا «مادة» و«نخاع« عن مفاهيم تنتمى على حد السواء للميتافيزيقا كما تنتمى للطعام. ف ألذ« ما فى الحساء هو «مادته» التى صُنع منها، وعلى نفس الشاكلة فإن المادة فى علم الميتافيزيقا هى الأساس الوجودى الذى يقوم عليه أى كائن/كيان. كان الكاتب والفيلسوف الإسبانى ميغيل دى اونامونو يفضل الحديث عن «نخاع» أو «لب» الكيان أو الشخصية كما لو كان يتكلم عن طبخة إسبانية أقل ما يقال عن حسائها إنه «يحيى العظام وهى رميم».

فى أعمال دالى يختلط فى كثير من الأحيان المأكول مع الحقيقي. فأكثر الأشياء حقيقةً هو أكثرها قابليةً للأكل. أكثر الأشياء حقيقةً هى ألذها طعاماً. وبالتالي، تصبح لوحاته ورسوماته، إلى حد كبير، قابلة للأكل. تصبح الغذاء الأفضل قواماً، والألذ بالنسبة لمذاق وذائقة القرن العشرين، والتى أراد أن يبث فيها ويبعث إليها الإفرازات اللعابية لمأدبات هوميروس، والتى عادةً ما تقدم أفضل مشهد لأسراب الثيران والعجول وهى تشوى على الفحم.

يقص علينا دالى أنه فى طفولته كان يرى كل عناصر الوعى كقطع الحلوى، وكل قطع الحلوى كما لو كانت عناصر الوعى فى شكل مادة ملموسة. لذا كانت أُولى أمنياته وهو طفل أن يصبح طباخاً، لتصبح أمنيته بعدها أن يكون نابليون بونابرت. إذن، رؤية دالى هى أن يكون نابليون الطباخ، أن يكون ذلك المحب العاشق للطعام الذى تربى على الصرامة والحزم الحديدى والإمبراطوري.

وبالفعل فإن إحدى «الماكينات المفكرة» التى اخترعها دالى تقوم على فكرة تصوير «نابليون قابلاً للأكل»، قام من خلالها سلفادور دالى -على حد قوله - بصناعة هذين الشبحين اللذين أثرا فى طفولته المبكرة، فى شكل مادي: هذيان غذائى شفهى وإمبريالية روحية مبهرة.

ولهذا، لا غضاضة عند دالى أن يؤكد أنّ خمسين كوباً من اللبن الفاتر معلقة فى كرسيّ هزاز تعنى بالنسبة له تماماً ما تعنيه فخاذ نابليون الممتلئة.

مجموعة الصور المدهشة التى رسمها دالى فى مطلع الثلاثينيات لكتاب «أناشيد مالدورور» لكاتبها كونت لوتريامون يتجلى بصورة جليّة هذا الربط الذى ابتدعه دالى بين نابليون والمأكولات، هذا الرابط أيضاً بين زماننا هذا واللحوم، تلك الرغبة فى التهام اللحوم التى تجعل لعاب الفم يسيل، تلك اللحوم التى تحفز إفرازات الغدد اللعابية وقد يصل بها الحال أن تكون باعثاً على العدوانية. 

ويمتلك نخاع العظم، وفقاً لرؤية دالي، الجرأة على التعبير عن الحقيقة. لكن قبل الوصول إلى تلك اللحظة الرائعة للروح/المأكول، ما هذه المعركة الفريدة والشجاعة بين العظم والأسنان صورة رقم (2). أحشاء وعظام، نسائر لحوم، عضلات بارزة بلا جلد، أعضاء تقطعت فتحولت أشلاء، أو تقطِّع نفسها بنفسها، أجزاء تشريحية، تحولات لملامح الوجه إلى كتل عظمية أو رقائق معوية، سكاكين، مشارط وساعات رخوة وأحشاء.. كل هذه عناصر تظهر بكثرة فى الرسومات التى رسمها دالى لكتاب «أناشيد مالدورور».

وهو من الأعمال المهمة جداً المعبّرة عن سريالية دالى فى ثلاثينيات القرن الماضي. فى مقدمة معرض رسومات هذا العمل فى معرض Galerie de Quatre Chemins عام 1934 يقول دالي: لا يمكن لأى صورة أن تصوّر بكل هذه الحرفية، وبطريقة أكثر هذيانًا، لوتريامون وكتابه «أناشيد مالدورور» على وجه الخصوص، أفضل من تلك التى رسمها منذ ما يقرب من سبعين عاماً جان فرنسوا مييت، ذلك الفنان المستعصى على الفهم، صاحب اللوحات التى تُصور عادات البشر المأساوية فى أكل لحوم البشر أمثالهم، ولقاءات اللحوم الحلوة الطرية وعالية القيمة والجودة. إن لوحته الشهيرة جداً الملاك هى الوحيدة، من وجهة نظري، التى تعادل فى فن الرسم ذلك «اللقاء العابر على مائدة تشريح لماكينة خياطة وشمسية»  يغوص المحراث فى ذلك اللحم الحقيقى عديم القوام، ألا وهى الأرض المزروعة، يغوص فيها بنية تخصيبها، تلك النية التى تتميز بها قواطع المشرط الهذيانية، ذلك المشرط الذى يبحث، كما هو معلوم للجميع، وبكامل السرية، وبحجة التحليل والتشريح، فى تفاصيل أى جثة عن حبة بطاطس الموت الخصبة والغذائية والاصطناعية.

وفى المقدمة ذاتها نقرأ ما يلي:

لم يوضع على مائدة الإنسان ولا حتى مجرد ضلع نيئ، كنموذج متوسط للأشياء المأكولة، إلّا وتشكلت ولاحت فى سحب الأفق، وبشكل مفاجئ، صورة نابليون «الجائع».

بين الطاهى والجائع، بين المبدع والمستقبل لتجارب «لذيذة الطعم» ترتسم الصورة الرئيسية لشخصية دالي، صورة شفهية لمكان إمبريالى يونانى قديم، تتجّلى وترتقى من خلال الفن.

وفى المنهج الفنى الخاص بدالى تتجلى المأكولات عبر ظواهر مختلفة تربطها فيما بينها علاقة، كالفم، والخبز واللحم واللبن (كما فى مثال لوحة بائعة اللبن التى رسمها الهولندى جوهانس فيرمير واهتمام دالى بهذا العمل بشكل خاص)، كالعظام ورخاوة العظام المتحولة إلى لحوم ونخاع وفعل المضغ والذى عادة ما يتمثل فى لوحات دالى من خلال صور الجماجم، مما يعكس بشكل واضح العلاقة بين الغذاء والموت، أو بمعنى أصح موت الجسد الفاني.

وأحيانًا تترابط مفردات كالغذاء والموت والجنس والعدوانية، كما فى لوحة جمجمة ميت فضائى يضاجع آلة بيانو كبير.

بإمكان المرأة الأسطورية المحبوبة، وهو موضوع مهم جداً لفهم سيكولوجية الرسم عند سلفادور دالي، أن تتمثل بعض صفات المأكولات. لذا رداً على سؤال أحد الصحفيين الذى تعجب من أنّ دالى رسم صورة لزوجته وبها ريشتا لحم مشويتان تتمايلان على ظهرها، رد سلفادور دالى قائلاً: «أنا أحب الضلوع (الريش) وأحب زوجتى ولا أجد مانع من رسمهما معاً».

وبعد مرور عام من هذه القصة نجد أنه فى لوحة أطياف الانجذاب الجنسي، توجد حبة سجق كبيرة الحجم وعلى شكل شبه دائرى تشكل الجزء الأعلى من ظهر نسائي.

أن أفضل لوحتين تعبران عن الطابع الخفى للمأكولات، والذى يربطها بالموت والتدمير والحرب، هما لوحتا بناء رخو بالفاصولياء المغلية. نبؤة الحرب الأهلية (1936) وأكل لحوم البشر الخريفي، (1937 -1936). فى اللوحة الأولى نشاهد يداً خفية ووحشية تعتصر حلمة جافة، بينما يتدلى لسان، على طريقة الساعات الرخوة.

ومن طرف زائدة لحمية. كذلك نرى حبات اللوبيا عند قدم المجسّد، أو بمعنى أدق، عند قدم آلة اللحم الوحشية. فى اللوحة الثانية تتجسد بكل دقة وعناية تثير الانبهار صورة لمأدبة حزينة، مليئة بالسكاكين والشوك والملاعق، مأدبة لا تخلو بالطبع من الفواكه واللحوم. المنظر البديع الذى يغلف بمسائه الخريفى ذى اللون الذهبى هذه الكائنات «آكلة اللحوم» يساعد بشكل قوى على أن تتمثل فى هذا المشهد كل ملامح الواقع الهلاوسي.

ونظراً لقيمتها الفنية والرمزية العالية، يكتسب عنصران من عناصر المأكولات أهمية خاصة فى أعمال سلفادور دالي، ألا وهما: الخبز والبيض المقلي، وكذلك اثنتان من أدوات المطبخ: الفنجان والملعقة.

ونرى البيض المقلى فى عدد من لوحات دالى المهمة. ففى لوحة السيفون الطويل (1932) يتناغم البيض المقلى مع صورة ظهر سلحفاة ونهد امرأة فى الوقت ذاته. أما فى لوحة بيض على طبق بدون طبق (1932) يتحول البيض المقلى إلى بطل اللوحة وموضوعها الوحيد.

يظهر البيض متدل من حبل، الأمر الذى يربطه من الناحية المورفولوجية بموضوعات أخرى كالساعات الرخوة أو زجاجة الكوكاكولا التى تتدلى من حبل فى لوحة شِعر أمريكا  (1934). فى لوحة اللحظة السامية (1938) نجد بيضتاين مقليتاين، كعينين جاحظتين، على ظهر طبق موجود تحت تليفون، «يعد التليفون أحد العناصر المميزة لرسومات سلفادور دالى فى فتره الثلاثينيات». أحياناً يتم استبدال التليفون بسرطعون البحر. فى لوحة شعر أمريكا يتدلى التليفون من زجاجة كوكاكولا، فى تعبير صريح وجلى عن تقنية «تكرار التدلّي»، التى كان يحبها دالى فى رسوماته.

البيض المقلى بالنسبة لدالى هو النموذج الأساسى للمادة الرخوة والمتماسكة فى الوقت ذاته. هو الرمز التقليدى للولادة ولنشأة الكون، وهو يحمل فى لوحات دالى بعض الظلال والمعانى الشبقية. فى «ذكريات داخل الرحم» وهو الفصل الثانى من كتاب «حياة سلفادور دالى السرية» يوضح لنا دالى المعانى والقيم الرمزية التى يختص بها البيض المقلى فى أعمق أعماق فكره. يقول: الجنة الكائنة داخل الرحم كانت ألوانها كألوان الجحيم، الأحمر والبرتقالى والأصفر والأزرق الخفيف، لون ألسنة اللهب، لون النار.

وكانت هذه الجنة رخوة، ساكنة، دافئة، متناسقة، مزدوجة، لزجة. فى تلك الفترة التى كان يسودها المتعة والبهجة، كان المشهد الأكثر روعةً والأكثر تشويقاً بالنسبة لى هو مشهد بيضتين مقليتين داخل طاسة قلي. وربما كان هذا هو السبب فى الاضطرابات والانفعالات التى عايشتها بداية من تلك اللحظة وحتى بقية أيام حياتي.

وفى حضرة هذه الصورة المدهشة. البيضتان، مقليتان داخل طاسة القلى أو بدونها، اللتان رأيتهما قبل ولادتى كانتا كبيرتين جداً، فسفوريتين، وجليتاين بكل وأدق وأصغر تفاصيلهما فى ثنايا زلالهما ذى اللون الأزرق الخجول».

وليس لدى أى نية لأن أتحقق إن كان دالى قد عايش قبل مولده تجارب حسية تركت فى ذاكرته أثراً للأبد أم لا. كذلك ليس لدى النية لأتحقق إن كان ما يقوله حقيقى أم لا. ما يهم فى واقع الأمر هو أنه فى السطور المذكورة أعلاه نجد مفتاح السر للوظيفة الرمزية التى يؤديها البيض المقلى فى عالم سلفادور دالى الخيالى أو المتخيّل، ضمن مجموعة العناصر المنتمية لفصيل «المأكولات».

الخبز، وبالتحديد رغيف الخبر، يقع على الطرف الآخر من قائمة المأكولات فى عالم دالي. هو الضد الصلب للبيض المقلى الرخو. «الخبز-يقول سلفادور دالي- كان دوماً واحداً من موضوعات الهوس الجنسى الأكثر قدماً فى أعمالي، وهو الموضوع الأول الذى كنت ومازلت له وفياً، له هو وحده أكثر من غيره». فيما يلى يعقد دالى مقارنة بين سلة الخبز التى رسمها عام 1926.

وعندما كان عمره 21 عاماً (داخل السلة نرى على أحد الجوانب رغيف الخبز مقطّعاً على شكل شرائح وعلى الجانب الآخر، السلة) مع اللوحة الأكثر دقة وتعقيداً التى رسمها عام 1945 (سلة الخبز تشبه إلى حد كبير قرن حيوان الخرتيت، تلك البنية المورفولوجية التى أتقنها دالى ووظفها بشكل خاص فى أعماله، بداية من فترة الاربعينيات). يقول دالي: «بعقد مقارنة دقيقة بين اللوحتين، يستطيع أى إنسان أن يدرس تاريخ فن الرسم بالكامل، بداية من الاهتمام البدائى بالخطوط وانتهاءً بالمبالغة فى التفاصيل الجمالية متناهية الدقة».

والموضوع الأساسي، أو قل الوحيد، للوحة التى تحمل عنوان قطعتان من الخبز تعبران عن شعور الحب والتى رسمها فى بلدة اركاشون الفرنسية عام 1940، هو قطعتان من الخبز وبعض الفتات. وهذه اللوحة هى الوجه الآخر والنقيض الصلب للوحة بيض فى طبق بدون طبق، التى رسمها عام 1932. ففى حين أن أهم ما فى لوحة البيض هو الشكل المنحني، نجد أن الملمح المورفولوجى الأهم فى لوحة الخبز الجاف هو ظاهرة تفتيت الخبز إلى فتات. يحكى المصور الفرنسى روبرت ديشارنيز، عند التعليق على هذه اللوحة فى كتابه «سلفادور دالي» (1973) أن الفنان ولاعب الشطرنج الفرنسى مارسيل دوشامب.

والذى كان يحلّ حينها ضيفاً فى منزل سلفادور دالي، كان قد علّق على هذه اللوحة بالحكاية التالية: «كان هو وجالا يلعبان الشطرنج كل يوم بعد الظهيرة، فى الوقت الذى كنت استعد فيه أنا -يقول دالى عن ديشارنيز- لرسم قطعتى الخبز هاتين.

وكنت أبذل قصارى جهدى لرسم سطح أملس تقف عليه فتات الخبز الخشنة. أحيانًا كانت تسقط أشياءً على الأرض، كقطع الطابية. فى يوم من الأيام وبدلاً من جمع الطابيات فى العلبة، بقيت واحدة من قطع الشطرنج هذه واقفة وسط نموذج الطبيعة الميتة الخاصة بي. بعدها، كان لا بد من البحث عن قطع بديلة لاستكمال اللعبة، فقد استعملتُ هذه القطعة فى رسمتى ولم أكن أرغب فى أن ينزعوها منها».

وتفسر هذه القصة التى رواها دوشامب سبب وجود طابية شطرنج بين قطعتى الخبز فى اللوحة موضوع هذه السطور. هذه القطعة أضفت على اللوحة طابعاً ميتافيزيقياً يُضاف إلى التجسيد الصوفى لقطعتى الخبز، واللتين بلا شك تحييان فى ذاكرتنا صورة الطبيعة الميتة، بكل رمزيتها وواقعيتها، والتى كان يتميز بها الاسبانيان سانشيز كوتان وفرانسيسكو ثورباران.

ويظهر الخبز بطبيعة الحال فى لوحات دالى الدينية، كما فى لوحتى العشاء الأخير وعذراء بورتيجات، اللتين تعودان لفترة الخمسينيات. فى هاتين اللوحتين يكتسب الخبز معانٍى دينية واضحة تتشابك وتتداخل مع المعانى السابقة التى أشرنا إليها. ومن أبسط هذه المعانى هو فهمنا لفن للرسم كقطعة من العجين تتشكل وتُخبز فتكتسب لونها الأصفر الذهبى ثم تتشكل لتصبح بعد ذلك غذاء ومناولة.

وكاستعارة عن عملية الرسم ومراحل تطور اللوحة، يعبر البيض المقلى عن المرحلة الأولى «الرخوة»، أى مرحلة اتصال ألوان الزيت بقماش اللوحة، فى حين يعبر الخبز الذى يتحول إلى قطعة جافة وصلبة عن المرحلة التى تجف فيها الألوان الزيتية على القماش لتكتسب صلابتها.

وبعض المأكولات الأخرى التى تظهر فى أعمال سلفادور دالى هى الكريز وعنقود العنب، وبخاصة حبتى الكريز التى يربط دالى بينهما وبين الفلاحين فى لوحة الملاك لمييت، واللتان تعبران بلا شك عن «سر التشعب»، مثلهما فى ذلك مثل العكاز الثنائى أو حرف ال Y الفيثاغورسي. أما عنقود العنب، فيمثل الموضوع الرئيسى للوحة ضواحى المدينة الجنونية والناقدة. الساعة الأولى من المساء على ضفاف تاريخ اوروبا (1936).

ويتكرر ظهور عنقود العنب، بهيئته التى على شكل جزيئات، والتى لفتت انتباه سلفادور دالي، بشكل مشفر فى موضوعين آخرين من هذه اللوحة: الربع الخلفى من جسد حصان قوى وجمجمة ذات تجاويف عين كبيرة جداً.

وأما الأداتان الأكثر ارتباطاً بالمأكولات والأكثر تواجداً فى قريحة سلفادور دالى هما الفنجان والملعقة. اللوحتان اللتان تعبران بشكل واضح عمّا نقول تعودان لعام 1932. فى لوحة رمز لا دينى تحتل ملعقة ذات ذراع طويل للغاية السواد الأعظم من مساحة اللوحة. ذراع الملعقة مطويّ بحيث يستطيع تطويق قطعة من الحجر، تذكرنا هيئتها بسلة رغيف الخبز.

وفى قاع الملعقة نرى ساعة جيب متناهية الصغر تشبه إلى حد كبير ساعات لوحة صلابة الذاكرة. هى لوحة بسيطة وباروكية فى الوقت نفسه، تتخذ فيها الملعقة ملامح وصفات طريق سريع أو ثعبان ذى جسد حاد.

وفى اللوحة الحقيقية لجزيرة الموتى لارنولد بوكلين فى ساعة الملاك لمييت (1932) يوجد على الطرف الأيسر من اللوحة مكعب من الحجر وفوق المكعب فنجان، ومن فم الفنجان تخرج، كما لو كانت عصاً طويلة، ذراع ملعقة طويلة للغاية، ورأس الملعقة تختبئ فى بطن الفنجان. يُحكى أنه عندما قام صاحب هذه اللوحة السابق، البارون الألمانى فون دير هيديت بعرضها على هتلر، تركت اللوحة فى نفس هتلر انطباعاً قوياً.

وبين عامى 1944 و1945 قام دالى برسم نسخة جديدة من هذه اللوحة أسماها نصف فنجان عملاق وطائر به ملحق غير مفهوم طوله 5 أمتار. الجزيرة التى تظهر فى آخر اللوحة مستوحاة من جزيرة لاراتا الموجودة أمام شبه جزيرة رأس الصلبان.

وبخصوص التكوين الجيومترى لهذه اللوحة يقول روبرت ديشارنز فى كتابه المذكور: رسمت هذه اللوحة فى نيويورك وكاليفورنيا فى الوقت الذى أجرى فيه دالى محادثات مشوقة مع الأمير الرومانى ماتيلا جيكا والذى كان يعمل أستاذاً لعلم الجمال فى جامعة جنوب كاليفورنيا. كان دالى يعرف تمام المعرفة مؤلفاته، وبخاصة «جيومترية الفن والحياة ومقالته «الرقم الذهبي»، المنشورة عام 1931 والتى تتناول دور الطقوس والإيقاعات الفيثاغورسية فى تطور الحضارة الغربية، فقد أطلع دالى على هذه الكتب فى باريس قبل بداية الحرب. تبدأ فكرة رسم هذه اللوحة من تطور خط لوغاريتماتى دقيق جداً تقع نقطة بدايته عند مقبض الفنجان.

ويمكننا مشاهدة ثنائى آخر متقارب من الناحية الشكلية أو البنيوية من فكرة الفنجان والملعقة فى لوحات أخرى لدالي، كلوحة مائدة شمسية (1936) على سبيل المثال، وهو ثنائى الكأس الزجاجى والملعقة (الملعقة والشمعدان مستوحيان من ملاعق وشمعدان كازينو مدينة كاداكيس).

فى لوحات أخرى تم استبدال ثنائى الكأس والملعقة بثنائى المحبرة والقلم. فى لوحة سبتمبر المتسبتمبر (1938)، والتى استخدمت فيما بعد ضمن رسومات كتاب «حياة سلفادور دالى السرية»، يعطينا مثالاً عن مجموعة من العلاقات المورفولوجية لعدد من الأشياء كالكأس والملعقة، المحبرة والقلم، الطفلة والجرس، عنقود العنب والمرضعة الجالسة، وغيرها.

وفى لوحته صورة بيكاسو التى رسمها فى كاليفورنيا عام 1947 تخرج من فم الفنان التكعيبى (بيكاسو) ملعقة ذراعها طويلة جداً جداً، كما فى لوحة رمز لا ديني، ويظهر فى رأس الملعقة عود أو جيتار متناهى الصغر.

لاحظ أن الوظيفة التى تؤديها الملعقة والوردة فى هذه اللوحة، يؤديها فى اللوحة التى رسمها دالى لنفسه عام 1941، وهى بالمناسبة أقل دقةً وأقل زخرفةً من اللوحة التى رسمها لبيكاسو، مجموعة من العكاكيز وشريحة لحم مشوية.

ليس من الضرورى التأكيد على أن النموذج المورفولوجى للثنائى فنجان/ملعقة، يحمل بالإضافة إلى تداعياته الغذائية، بعض القيم الرمزية والجنسية. لكن قارئ فرويد النهم والمعجب الشديد بكتاباته (سلفادور دالي) لم يكن ليكتفى برسم الرموز فى حالتها المجردة فقط، بل كان يهتم أيضاً بإضفاء الدلالات (التوابل) عليها. وكان دوماً ما يحالفه الحظ فى وضع هذه الرموز فى شبكة من المعانى والدلالات الأصلية.

وفى المنطقة الفاصلة بين المأكولات والحيوان الحي، يتجلى لنا تفضيل سلفادور دالى للجمبرى ولقشريات غذائية أخرى، تشكل أجسادها نماذج حية أو قل بُنى صلبة من الخارج تقوم بحماية قوام غذائى رخو من الداخل. أحياناً يتجلى سمك الجمبرى فى مخيلة سلفادور دالى كدوبلير (مكافئ) للتليفون، ليس فقط من الناحية المورفولوجية وإنما أيضاً لأن قشرة التليفون الخارجية الصلبة تنطوى فى داخلها على بنية رخوة أو لفظية (الكلام). فى الفصل الأول من كتاب «حياة سلفادور دالى السرية» يتناول الكاتب بعضاً من شفرات سلفادور دالى الخاصة بالمأكولات وبخاصة تلك المتعلقة بالقشريات: «الشيء المضاد للسبانخ الطرية هى القشرة الخارجية الصلبة.

ولهذا السبب أحب أكل القشور الخارجية الصلبة وبخاصة الصغيرة منها، أى رخويات البحر. الرخويات البحرية تعد تجسيداً مادياً لتلك الفكرة الذكية والعبقرية بأن تكون العظام خارج الجسم وليس داخله، كما هو المعتاد. وبهذه الطريقة تستطيع القشريات باستخدام أسلحتها المورفولوجية الخارجية حماية الجزء الرخو والمغذى الموجود بداخلها، أن ترعاه وتحتويه ضد أى تدنيس خارجي، أن تغلق عليه بإحكام وعناية ككوب لا يُسمح باقتحامه ودخوله إلا من خلال أقوى أشكال المعارك والحروب، ألا وهى حرب تقشير القشريات».

وفيما يلي، يقارن دالى بين جمجمة عصفور ومخه لذيذ الطعم، بالمأكولات البحرية وحتى بالقشور الخارجية الصلبة التى رسمها باولو اوتشيلو. «وقد قام بهذه المقارنة بخفة وغموض يليقان بطبيعته الملكية كعصفور، تلك الطبيعة التى يدين لها باسمه».

وفى النموذج الذى ابتدعه دالى عن المأكولات نجد رخويات البحر وقشرياته تجمع بين رخاوة البيض المقلى وصلابة القشرة الخارجية لقطع الخبز. لذا فهي، أى القشريات، طعام «الحلق المثالي»، الطعام الأكثر قواماً. إضافةً إلى ذلك، فهذا النوع من المأكولات، على عكس البيض المقلى أو الخبز، يحمل فى طياته فكرة المعركة، فكرة التقطيع والتفكيك (فأكل الرخويات لا يتم إلا بعد أن يتم تفكيك القشرة الخارجية، تماماً مثلما يحدث عند تفكيك جهاز تليفون)

ومن هنا، تأتى فكرة أن شخصية الطباخ النهم ونابليون الدموى تشكل ثنائياً مقترناً فى مخيلة سلفادور دالي، وأنه على حدود فصيل المأكولات نلتقى الصيد الدموي، فنجد مثلاً أن لوحة صيد التونة (1966-1967) هى أكثر اللوحات تعبيراً عن هذه المنطقة الحدودية بين الأكل والصيد الدموي.

وعن هذه اللوحة، وهى من أكثر لوحات دالى طموحاً وأكبرها حجماً، يقول روبرت ديشارنيز: لقد جمع الفنان فى هذه اللوحة المرسومة فى مدينة بورتيجات كل اتجاهاته الفنية: السوريالية بشقيها البومبيريزم والفن الخالص، الرسم بالتنقيط، التصوير الانفعالي، التجريد الهندسي، البوب، الأوب، التاتشيزم، الفن السايكدلي. ولهذه اللوحة أهمية كبيرة تقارن بلوحته صلابة الذاكرة.

وفى التعليق الذى قدمه الرسام نفسه عن هذه اللوحة، والتى تحمل كعنوان ثانٍ تكريم ميسونير، والتى أوحت له بفكرتها القصة التى حكاها له والده بنغمة بطولية عن صيد التونة ولوحة لفنان سويدى ينتمى لتيار ال Pompierismo كانت معلقة على أحد جدران مكتب والده، يربط دالى بين لوحته ورؤية الفيلسوف والكاهن اليسوعى الفرنسى تيلار ديشاردان عن التطور. يقول دالي: أدركت حينها أن هذه القيود وهذه الحدود وهذا الانكماش للعالم هو الذى يجعل الطاقة ممكنة.. لوحة صيد التونة تعبر عن مشهد بيولوجى بامتياز، لأنه -وفقاً لرواية والدي-، فالبحر ذو اللون الأزرق الكوبالت يتحول إلى لون الدم الأحمر هو القوة الجمالية الخارقة لعلم الأحياء الحديث.

وكل عمليات الولادة يسبقها دائماً عملية سيلان دم هائلة، الدم أحلى من العسل، الدم أحلى من الدم. فى الوقت الراهن تمتلك أمريكا امتياز الدم، فشرف أمريكا يكمن فى أنها مسقط رأس جيمس واطسون، الحاصل على جائزه نوبل وأول من اكتشف المركبات الكيميائية للحمض النووى الصبغي

وتعتبر لوحة صيد التونة، وهى نموذج وتجسيد لحفلة سادية مازوخية دموية، الوريث الشرعى للوحة آكلة لحوم الخريف، لكنها أكثر وضوحاً فى تناقضاتها الأسلوبية. هذه اللوحة تعيد إلى ذاكرتى الوصف الذى قدمه القديس جيروم عن حمل مريم بالمسيح فى كتابه Emporio del Orbe (1690) عندما أشار إلى مضارب سمك سواحل مدينة قادش الإسبانية.

وحيث كانت تُجمع هناك الآلاف من أسماك التونة لقتلها وتقطيعها وتمليحها. فيما يخص هذا المشهد الدرامى يقول القديس جيروم بفرحة فشل فى إخفائها: «إن هذه التسلية ممتعة جداً، سواءً بسبب الرجال الأشداء أو بسبب تنوع الأسلحة والشباك التى يصطادون ويقتلون بها الأسماك، أو بسبب كمية الدماء التى يلطخون بها مياه البحر. الأمر ممتع لدرجة لا تضاهيه حتى مصارعة الثيران».

وفى الجهة المقابلة لعملية صيد التونة الدموية والمرعبة، يسكن فى مخيلة دالى ذلك المأكول الصلب، والذى يفقد صلابته بفعل الطهي، ألا وهى حبات اللوبيا أو الفول المنزلي، واللذان يمثلان أحد أطباق دالى المفضلة، التى يقدم دالى وصفته بكل سرور لقارئ «سيرته الذاتية السرية»: «يجب أن يطهى بلحم الخنزير أو بالسجق، وسر الخلطة يكمن فى وضع بعض قطع الشوكولاتة وأوراق اللورى على هذا الطبق».

وعلى الرغم من أن المأكولات البحرية هي، كما رأينا، المأكول الأصلى فى مخيلة سلفادور دالي، فإن المأكول الأساسى هو «الخبز». نزل «إلهام الخبز« وفضائله الرمزية والجمالية على مخيلة دالى فى بداية الثلاثينيات، بعد تناوله وجبة دسمة من الفول، بدأ يتأمل وهو شارد الذهن، ولكن بكل تركيز واهتمام، قطعة من الخبز المتبقى من الطعام.

ودون أن يكف عن تأمله، يمسك  يحكى دالى  بقطعة الخبز ويقبلها من أحد أطرافها ثم يبدأ فى مصها حتى تلين، ثم يضعها فى شكل رأسى على المائدة كبيضة كولومبوس. ومن هنا قرر «عمل أشكال سريالية بالخبز».

عندما يعود إلى باريس، ستصبح عملته الأساسية هى «الخبز، الخبز ولا شيء غير الخبز». لكن خبز دالى يختلف عن قطعة الخبز حلوة الطعم التى تقدم كصدقة وعن الخبز المتحوّل الذى يقدم فى المناولة، على الأقل فى بادئ الأمر. فهو: خبز غير بشرى بالمرة، هو خبز الانتقام من السفه الخيالى ضد مذهب المنفعة الذى ينتهجه العالم العقلانى والعملي. إنه الخبز الارستقراطي. الخبز الجمالي، خبز البارانويا، خبز المسيح، الخبز المدلل، خبز غير طبيعي، الخبز الكاشف، ذلك الخبز الذى استطاعت يد عقلى أن تشكله خلال شهرى إقامتى فى بورتيجات.

ويذكرنا هذا التصور غير الطبيعى للخبز السريالي، وتحويله إلى متعة للحلق وأداة انتقام ارستقراطية، باستخدام سلفادور دالى للّبن كواحد من أدواته الرمزية «الماكينة المفكرة« فى عام 1932، ذلك الاستخدام الذى عارضه وبشدة الشاعر الشيوعى أراغون، والذى كان يناضل حينذاك فى صفوف السوريالية.

وكانت معارضته هذه مرجعها عدة اعتبارات أخلاقية وإنسانية، والتى لم تكن لها علاقة بالموضوع، حتى وإن كانت، فى إطار القيم الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية، جديرة بالاحترام. بالفعل وبكل جدية وأمام اندهاش الجميع قال أراغون: «أعارض وأقف بشدة ضد مشروع دالي، فأكواب اللبن ليست لصنع أشياء سريالية، وإنما مصيرها أن تستقر فى أيادى أبناء العمال العاطلين عن العمل».

وتعدّ عملية الأكل، ومادتها الخام ومكملاتها هى النواة الأساسية التى يمكن وضع شخصية دالى الفنية فى إطارها، بكل التفاصيل الخاصة بهذا الأمر. وبهذا يتحول الرسم إلى نوع من الطبخ، ومشاهدة الرسم إلى نوع من الأكل، والذائقة الفنية معادل للجوع والحلق البشري.

وتتحول المأكولات والأدوات الأساسية المستخدمة من أجلها إلى نموذج لإنتاج فن تصويرى وتعبيري، إلى الفاكهة الحسية والروحية بجدارة، تلك الفاكهة التى تركها دالي،  على غرار فيرمير، تنضج على هوادة حتى تصل إلى مرحلة النضج والسواء الكامل فتكتسى باللون الأصفر الذهبي.

والأمر ليس متعلقا ًفقط بالرسم، فدالى كان يرى الشِعر أيضاً نوعاً من الأنواع التى تندرج تحت بند المأكولات. ففى فترة العشرينيات التى قضاها فى مدريد، وعندما كان دالى صديقاً صدوقاً للشاعر فيديريكو غارثيا لوركا كانت الكلمة المفضلة للفنان الكتالونى هى «الأكل».

والانطباع الذى تركه شِعر لوركا فى نفس دالى لا يمكن أن يكون أكثر «قابلية للأكل« من هذا. يقول دالى فى سيرته الذاتية: «لقد ترك لوركا فى نفسى انطباعاً رهيباً. فن الشعر برمته و»بشحمه ولحمه» بزغ بشكل مفاجئ أمامى وكأنه من لحم ودم، مشوش، محقون بالدم، لزج ورائع، تسرى فى جسده عشرات النيران، كأدوات وبيولوجيا سفلى، شأنه فى ذلك شأن أى مادة يعود شكلها وأسلوبها إلى أصالتها. لقد كان رد فعلى تجاه العالم الشعرى «حاداً وصارماً جداً»، لم أقل شيئاً لا يمكن تعريفه، شيئاً لا يمكن تحديد «مجاله« أو «ميثاقه»، شيئاً لا يمكن «أكله»

«لقد كان الأكل هى الكلمة المفضلة بالنسبة لي». وعندما شعرت بنيران شعر شاعرنا العظيم لوركا، المحترقة والبليغة التعبير، ترتفع كألسنة اللهب المجنونة والمنقوشة، حاولتُ إخمادها بغصن زيتون شيخوختى المبكرة. وفى نفس الوقت كنت أقوم بتحضير نيران نثرى اللامحدود.

وعلى تلك النيران وعندما يحين الموعد ولا يتبقى من نيران لوركا سوى الجمرات التى تتلألأ لامعة، سأكون أنا هناك لكى أشوى حبات المشروم وشرائح اللحوم وأسماك السردين التى تسكن أفكارى وعقلي، لأشبع ولمدة مئة عام قادم هذا النهم الروحاني، الخيالي، الأخلاقى والأيديولوجى الذى تتميز به حقبتنا.

والشعر الذى جسّده أو تخيله دالى فى شخص لوركا هو شعر «يمكن أكله» بلا شك، وهو أيضاً، فى مخيلة دالي، النار التى يستخدمها من أجل أن يطهو عليها ثماره الفنية. بعبارة أخرى، العلاقة بين الشعر والفن تشبه إلى حد كبير العلاقة بين النيران والأغذية التى تُطهى عليها.

وبهذا تتكون مهنة الفنان من مرحلتين جوهريتين، هما: مرحلة اشعال النيران، المعبرة، والفوضوية، ومرحلة اتباع «قوانين» المطبخ، فى صياغة العمل الفنى على القماش أو على اللوح الخشبي.

وفى المأكولات البشرية يتلاقى  بالتالى  نبض الجسد الأكثر بدائيةً مع أكثر تشريعات العقل انضباطاً. فالأكل ليس مجرد وظيفة عمياء يقوم بها الجسم، فله أيضاً، دون أن يفقد هذه الوظيفة، وظيفة إبداعية وحضارية للذكاء الانساني. بطريقة أخرى، يمكن القول إن سلفادور دالى كان طباخاً قبل أن يكون رساماً، أو بمعنى آخر.

لم يكف أبداً عن الغوص فى جذور وأعماق الفن والإدراك الجمالى المأكولة. وليس أكثر من هذه الجملة تعبيراً عن مديح سلفادور دالى للعاب وللمخاط: «عندما أنام وعندما أرسم يسيل لعابى من فرط السعادة». يقول أيضاً: «مما لا شك فيه أن كل رسام بارع يسيل لعابه وهو يرسم.

ويحدث ذلك من شدة تركيز انتباهه ومن الشعور بالرضى الذى تسببه له الصور والخيالات التى تتراءى أمام عينيه». إلا أن لعاب دالى قطبى المعنى، فهو ينتمى لعالم القشريات، لأنه سائل يتحول عند زوايا شفاهه «إلى منجم قشور سمكية تشبه قشرة معدن الميكا». يترك دالى نفسه، كما أوضح الناقد الفنى الفرنسى جيلبرت لاسكاولت، فريسة الإعجاب بفكرة وجود لعاب جاف وجوميتري، يمكن التعبير عنه على أنه «لعاب العنكبوت الأكثر نقاءً.

فدالي، مما لا شك فيه، يفضل لعاب العنكبوت على لعاب الكلب. فهو يميل ناحية اللعاب الذى يتشكل على شكل خيوط وخطوط وأشكال متناهية الدقة. ولهذا كله،  لم تأت رسومات دالى فقط على شكل مأكولات وإنما، وبشكل خاص، على شكل مأكولات قابلة للتحول.

التحولات

إنّ واحدة من أشهر ميزات وخصائص سلفادور دالى الفنية والشخصية بداية من النصف الثانى من عقد العشرينيات وحتى نهاية مسيرته الفنية هى احتواء لوحاته على موضوعات فنية مستقاة من الواقع، وتعبر فى الوقت نفسه عن «أشياء أخرى»، فنجد مثلاً الساعة التى هى فى الوقت ذاته قطعة جبنة كاميمبيرت (Camembert)، والحصان الذى هو فى الوقت ذاته جسد امرأة أو عنقود عنب، والسحابة التى هى فى الوقت ذاته ملامح إنسان، والصخرة التى هى فى الوقت ذاته سيارة، وتمثال فولتير النصفى الذى هو فى الوقت ذاته صورة امرأتين عجوزتين، وتمثال فينوس دى ميلو الذى هو فى الوقت ذاته وجه مصارع ثيران شهير، إلخ.

والأشياء تعبر عن نفسها وتعبر فى الوقت ذاته عن أشياء أخرى. تعبر عن نفسها من النظرة الأولى لها وتعبر عن أشياء أخرى بفعل لعبة الإدراك والإيحاء. فى النهاية تصبح الحقيقة هى مرآة الحقيقة والرؤية تصبح، فى حقيقة الأمر، الحقيقة الناتجة عن لعبة الإدراك. وفى حين كان بيلاسكيث يقوم بتصوير الأشياء فى لوحاته، لا كما هي، ولكن كما تبدو فى عينيّ الرسام، بحيث أصبح من الممكن إن نقول أنّ رسوماته ولوحاته معبرة جدًا عنه هو كفنان، كان سلفادور دالى يصور الأشياء لا كما هى فى العادة ولا حتى كما تتراءى لعين الرسام الذى يراها.

وإنما كحقائق تتلاعب بالعين وتخدعها وتغريها، حقائق تُحدث فى النفس مجموعة متتابعة ومتلاحقة من الإشارات النفسية، وتثير فى الروح ذلك الصوت الحاد المزعج الذى تسببه أصدائها ورنينها الداخلي.

فإذا كانت المأكولات هى الوعاء الأم الذى يطهو فيه دالى فنه، فإن المتحولات هى البهارات التى يُنمّق بها دالى ما يطهوه. وباللجوء إلى تشبيهات اللغة، يمكننا القول إن المأكولات هى عصب فن دالى وجوهره، فى حين تصبح المتحولات هى العبق والبهارات التى تميزه.

وفى لوحتيه الرجل غير المرئي(1933) واللغز الذى لا ينتهى (1938) تبدو الحقيقة المُصوّرة كما لو كانت لعبة فك وتركيب (Puzzle) غريبة الأطوار. فالحقيقة يمكن تركيبها وإعادة تركيبها. فما هى إلا مجرد لعبة تفكيك وتركيب. بهذا يصبح الرسم لعبة تركيب وتشكيل لهذه الحقيقة باستخدام مركباتها وعناصرها، والرسم السريالى هو إعادة تركيب هذه القطع وتشكيلها باتباع قوانين الهذيان الجنونى الحاكم للأشياء.

وبعبقرية فريدة درس دالى وكتب عن عملية الهذيان التنظيمى فى أهم أعماله النظرية، «الأسطورة السحرية للوحة الملاك لمييت» والتى كتبها فى مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين. تقول نظرية دالى والتى أكدها فيما بعد المحلل والطبيب النفسى الفرنسى جاك لاكان، الذى لم يمانع أن يترك نفسه يتأثر بسلفادور دالى فى مجال تخصصه.

إن البارانويا موجودة فى الجهة المقابلة للهلاوس، وذلك نظراً لطبيعتها النشطة. وعلى عكس الآلية التى تتميز بها سريالية الكاتب أندريس برتيون البدائية، فإن البارانويا تمثل منهجاً ونقداً للمنهج فى آنٍ واحد. سيثبت لاكان، كما فعل دالي، إن التأويل الذى يُخضع له الشخص المصاب بالبارانويا بيانات الإدراك ليس إلّا جزء من أجزاء الهذيان الهلاوسي.

ومن هنا يصل كلٌ من الفنان والطبيب النفسى إلى نتيجة واحدة، وهى أن البارانويا تنتمى لنوع من الهذيان المفتعل. من جانبه، اختار دالى «الصورة المزدوجة» كنموذج كاشف ومعبر عن البارانويا. فالصورة المزدوجة (كما يتضح من لوحتى الرجل غير المرئى واللغز الذى لا ينتهي) تمتلك القدرة على أن تجعل جوهر ولب الهذيان والتأويل -على حد قول باتريك شميث- يتجلّى بصورة واضحة جليّة.

بداية من لوحة وجه ل ماى ويست يمكن استخدامه كصالون الموجودة فى متحف فيجيراس وحتى لوحة مصارع الثيران المهلوس، ظل دالى يستكشف ويطور مختلف افتراضيات الصورة المزدوجة، والتى تعتبر لوحة البارانوى الأكبر (1936) أكبر تجسيد وتعبير عنها. لنفس هذا الاتجاه تنتمى مجموعة من اللوحات، منها وجهة نظر (1936-1937) ورأس امرأة على شكل معركة (1936) واسبانيا (1938) وغيرها. 

وخلف هذه اللوحات تقبع بكل تأكيد الذاكرة التاريخية للوحات تبدو غير مكتملة أو مشوهة والتى كانت واسعة الانتشار بين رسامى عصر الباروكو، كالإيطالى جيسيبى أرسيمبولدو، الذى عاش فى القرن السابع عشر. فى حين أنّ ما كان يقوم به هؤلاء الرسامون هو تدريب على إتقان تقنيات الرسم فى مواجهة تيار «الحياة حلم» أو «الحقيقة الخادعة»، (وهما الموضوعان المتداولان بشدة فى تلك الفترة)، نجد أن سلفادور دالى يغوص ليستكشف خبايا اللاوعى الخفية، نجد تعمقاً وتبحّراً فى جذور الحقيقة الفانتازية والهذيانية، بحيث تبدو الحقيقة نفسها مجرد تثبيت أو تجسيد عادى ومفيد للفانتازيا.

والفئة الأساسية التى تندرج تحتها ظاهرة الصورة المزدوجة (التى تمثل الشيء نفسه وشيئاً آخر فى ذات الوقت) هى فئة قابلية الأشياء للتحول، والتى نجد أولى تجلياتها فى مقولة الفيلسوف اليونانى هيرقليطس: «كل الأشياء تتحول إلى نار، والنار تتحول إلى كل الأشياء، كالذهب الذى يستخدم فى مقايضة كل السلع والبضائع». 

أقوال أخرى مأثورة عن فيلسوف مدينة الإفسوس (هيرقليطس) وعن علم الأجناس الأفلاطونى تناولت وطورت هذه النظرية التى تقول إن الروح البشرية تتحول إلى الشيء الذى يشغل وجدانها، وأن الحقيقة ليست سوى المادة التى تعكس عليها الروح نشاطاتها وأفعالها. أما الأفلاطونية الجديدة التى ظهرت فى عصر النهضة، وعلى رأسها بيكو دى لاميراندولا وجيوردانو برونو، فترى الإنسان على أنه كائن يقف فى مرمى بصر كل الحقائق الممكنة، والتى تمارس تأثيرها عليه.

جدير بالذكر إن استكشاف دالى للصورة المزدوجة ولازدواجية الواقع ما هو إّلا استكمالاً لمسيرة علم الانثربيولوجى (علم الأجناس) الذى أسس مبادئه الفلاسفة هيرقليطس وأفلاطون، وقام فى المسيحية على يد القديس أغسطين. وطبقًا لهذا العلم فالكائن البشرى كائن مزدوج، مكوّن من أشياء دنيوية وأخرى غير دنيوية، والعالم المادى أو الدنيوى ليس إلا حقل بذور أو مشتل للروح.

وفى السيرة الذاتية لسلفادور دالى تلفت انتباهنا بعض القصص والحكايات التى يمكن أن نفيد منها فى شرح وتفسير ملامح شخصيته التى أهلته لاستكشاف والغوص فى تقنية الصور المزدوجة واستخدامها فيما بعد فى الرسم: «كان عمرى 22 عاماً  يحكى سلفادور دالى  كنت طالباً فى كلية الفنون الجميلة بمدريد.

ورغبتى المستمرة فى أن أفعل، وبشكل مستمر وبأى ثمن، تماماً عكس ما يفعله الآخرون، كانت تدفعنى إلى شطحات ما لبست أن أصبحت معروفة وجلية فيما بعد فى الأوساط الفنية. فى محاضرات الرسم كانوا يطلبون منا أن نرسم لوحة قوطية للعذراء باتباع النموذج الذى كان يُقدم لنا. قبل الخروج كان الأستاذ يصر إصراراً على أننا يجب أن نرسم بالضبط ما كنا نراه أمامنا ليس إلّا».

وفى نهاية المطاف رسم الشاب سلفادور دالى صورة لميزان كان قد رآها فى كتالوج بدلاً من صورة العذراء. وأمام دهشة الأستاذ ودهشة بقية زملائه، تجرأ دالى وألمح لهم بالآتي:  «ربما ترى حضرتك صوره للعذراء كبقية الزملاء، لكننى أرى صورة ميزان».

وبعدها قدم دالى نفسه تفسيراً لهذا الأمر وعرض رؤيته الخاصة من خلال الربط بين العذراء والميزان فى الأبراج الفلكية، حيث كان يرى فى هذا التأصيل الأسطورى مقدمةً لفلسفته التصويرية فى المستقبل، أى تحويل الصورة المستوحاة إلى شيء مادى ملموس، تلك القدرة الهائلة على تجسيد الهلاوس والخيالات البصرية. فى كتابه «حياته السرية» يحكى سلفادور دالى كيف اكتشف وهو فى عمر التاسعة ظاهرة التقليد، التى هى أساس الصورة المزدوجة.

وكان ذلك خلال فترة صيف كان قد قضاها فى مدينة كاداكيس عندما لاحظ بين النباتات التى تنمو بشكل عشوائى وكثيف على الشاطئ وجود حشرة صغيرة جداً على شكل ورقة شجر يقول: لقد أحدث اكتشاف هذه الحشرة فى نفسى انطباعاً رهيباً، فقد اعتقدت حينها أننى اكتشفت واحداً من أكثر أسرار الطبيعية سحراً وغموضاً. ولا يوجد أدنى شك فى أن هذا الاكتشاف الحسى قد أثر من وقتها فى طريقة بلورة الصور غير المرئية والبارانوية التى تسكن السواد الأعظم من لوحاتى الحالية وذلك بظهورها الخفى الذى يشبه الأشباح.

وثم يضيف قائلاً:بعد ذلك بكثير، عندما رأيت  بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914  أوائل السفن المتخفية تتبع آفاق كاداكيس، سجلتُ فى دفتر الانطباعات الخاص بى شيئاً شبيهاً بالآتي: «اليوم وجدت تفسيراً لوجه موني، (هكذا كنت اسمى الحشرة التى اكتشفتها) عندما رأيت قافلة حزينة من السفن المتخفية. من أى شيء كانت تحتمى حشرتى عندما تخفت وراء قناعها؟

بالفعل، لقد كان القناع (يمكننا أن ننظر له على أنه نتيجة لخيال سلفادور دالى التحوّلي) واحداً من أكثر الأشياء التى كان يعشقها الفنان. «اختفائى فى طفولتى وراء القناع، يحكى سلفادور دالى فى كتاب «حياتى السرية»، كان من أكثر الأشياء المحببة إلى قلبي». هذا الحب للقناع.

والذى كانت تشاركه فيه زوجته جالا، واستمر معه طيلة حياته، بما فى ذلك سنواته الأخيرة، عندما كان يلجأ إلى القناع الباباوى لبوبولوس البا، تلك الشخصية التى اخترعها فى مسرحيته التراجيدية «الشهيد»، وتجلى هذا الحب للقناع بشكل قوى للغاية فى بعض المناسبات كما حدث فى حفلة الرقص الخيالية التى نظمها كاريسى كروسبى وجوييا ليفى على شرف دالى يوم 18 يناير من عام 1935 فى مطعم كوك روج (Coq Rouge) بنيويورك، أو ذلك الذى نظمه كارلوس بيستيجى فى قصر لابيا (Labia) بفنيسيا بتاريخ 13 سبتمبر من عام 1951 والذى حضره دالى وزوجته جالا متخفيان فى شكل عمالقة طوال يبلغ طولها 7 أمتار.

وقام دالى بعمل تصميم لدعوات الحفل الراقص فى كوك روج يصور جسد المرأة فى حالة تحول، ورأس المرأة على شكل مهد تبرز بداخله رأس طفل حديث الولادة. فى تلك المناسبة تفوقت جالا على دالى نفسه فى قدراتها على الإثارة عندما استعرضت فى حليتها صورة طفل رضيع من شريط سينمائى قد التهم النمل بطنه. هذا لا يعنى بأى حال من الأحوال أن جالا كان لها الفضل فى إبداعات سلفادور دالى الفنية أو الأدبية. على العكس، فقد كانت جالا تفخر دوماً.

وهذا ما تأكدت منه فى عدد من المحادثات التى دارت بيننا، بأنها لم تكن تتدخل أبداً فى أعمال زوجها الفنية، إلّا من خلال دورها كملهمة أو موديل. كما أننى استطيع الجزم، كممثل لمبدأ الحقيقة، أنها فى كثير من الأحيان كانت تنسى دالي. فبالنسبة لجالا، كما كانت تكرر مراراً وتكراراً، العبقرى هو دالى والموهبة موهبة دالي.

ولو سرنا على نهج دالى الذى كان يسأل فى 1914 وهو يتأمل السفن المتخفية قبالة شاطئ كاداكيس، يمكننا نحن أيضاً أن نسأل مما كان يحتمى دالى نفسه عندما تخفى، عندما أتخذ لنفسه قناعاً؟ وهل الكلام هنا يكون عن التخفى أم عن التعرّض؟ هل يمكن أن يكون فعل التعرّض فى حد ذاته تخفي؟ أى صورة مزدوجة من الواقع الذى نعرضه؟ ألا يمكن أن يكون التخفى الذى يحمى هو النقيض من تلك الرغبة النابليونية التى يشعر بها الأنا لكى يفرض نفسه من خلال التعرضّ؟

وأياً ما كانت الإجابة على هذه التساؤلات المطروحة، سيظل هناك دائماً هامش من الشك حول حقيقة وهوية لا التجربة الأساسية للصورة المزدوجة وإنما لحقيقة تلك الصور الأخرى التى يمكن أن تدخل فيها كطرف براعة دالى الميكانيكية وخياله الواسع. هل بإمكاننا أن نفهم بعض العبارات كتلك التى تقول: «لا أفهم لماذا عندما أطلب جمبرى على الفحم فى أحد المطاعم لا يقدمون لى تليفوناً مغلياً» على معناها الحرفي؟

ويقدم دالى بعض التأملات التى تبدو لنا فى زماننا هذا سابقة لأوانها وزمانها!  تليفونfrappé، تليفون بلون النعناع، تليفون مثير للرغبة الجنسية، تليفون على شكل جمبري، تليفون بغلاف أسود لموائد مكياج جنيات البحر ذوات الأظافر المزودة بأغلفة من جلد ابن عرس، تليفون ايدجار الان بو، بداخله فأر صغير ميت، تليفونات بوكلين مثبته داخل شجرة سرو (وباستعارة عن الموت مرصعة بالفضة على ظهره)، تليفونات متحركة ومتشابكة الأيدي، مثبته بالمسامير فى ظهر سلحفاء حية، تليفونات، تليفونات، تليفونات.

وهل هناك تجربة فنية أصيلة فى إعادة تشكيل الواقع، فى إعادة تركيب الأشياء، تتمثل فى الفقرة السابقة؟ أليس هذا فى الحقيقة مجرد توفيق للأجزاء لتبدأ فى الحركة والدوران بطريقة آلية، إن لم تكن نبوءة فريدة لطريقة استخدام الهاتف التى ستحدث فى زماننا هذا وبعد سنوات طويلة من موت دالي؟ لا يمكننا الجزم قطعاً إذا ما كان هذا تجربة فنية أصيلة أم استباق للزمن أم أنه مجرد نتيجة حتمية لفكرة توفيق الأشياء مع بعضها البعض؟ ومع ذلك، فالإجابة على هذا التساؤل من الجائز أن تكون فى فعل البارانويا ذاته، فعلاً تتحد فيه وبقوة تجربة الهذيان مع النشاط النفسى لآلية تفسيرية أو دلالية تفسر للضمير أو الوعى الظواهر الإدراكية «بطريقة بارانوية». بعبارة أخرى، يمكن القول إن الهذيان الهلاوسى وآلية التفسير هما وجهان لنفس الفعل النفسي.

وإنّ الإسهام الأكبر لدالى فى تيار السوريالية، من وجهة نظري، وواحد من أعظم اسهاماته فى الفن المعاصر هو قدرته على إبداع صور مبهمة وغامضة لها القدرة على أن تثير فى رؤيتنا العادية للأشياء معانٍ خفية أو منسية وأن تتسبب -بناء على ذلك- فى ظهور أشكال رمزية وترابطية محكمة الإبداع.

ولقد استطاعت أدوات المنهج النقدي-البارانوى الذتى انتهجه دالى أن تجعل من «المأكولات المتحوِّلة» الذى ابتدعه واحدة من ألذ الأطعمة وأكثرها اغراءً وعطاءً، طعامً يمكنه أن يسد نهم مجتمعاتنا الحالية وحاجتها إلى استهلاك حقائق رمزية جديدة والتعرّف على الآليات السرية التى تحكم أو تنظم هذه الحقائق.

اقرأ ايضاً | اللزوم الدلالي في القرآن الكريم ظاهرة التمايز عن لغة البشر