د. مينا بديع عبدالملك يكتب: مناجاة .. فى ذكرى البابا كيرلس السادس

د. مينا بديع عبدالملك
د. مينا بديع عبدالملك

فى 9 مارس 2023 حلت الذكرى 52 لرحيل البابا كيرلس السادس. وبمناجاة عذبة وصادقة، سجل الابن المحب لأبيه الأب رافائيل آفا مينا (الشمّاس الخاص بالبابا كيرلس الأستاذ روفائيل صبحى) الذى كان مرشحاً لأسقفية الإسكندرية بشرعية القوانين، وحُسن السيرة، وحُب الأبناء المتلهفين للعودة لحياة الصلاة الصادقة. فقال: لم ينس البابا كيرلس السادس يوماً أنه الراهب الفقير مينا، وإن اختياره للبطريركية ليس شيئاً يدعوه إلى تغيير حياته النسكية .. بل كان على العكس يعتقد أنه يجتاز تجربة مريرة يحتاج معها لمزيد من التنهد والحُزن والانسحاق والصوم والصلاة.

وكأنى بالأشواق الصالحة القوية التى ملكته منذ فجر شبابه - كمختار من الله - ودفعته إلى أن يلفظ العالم، ويمسك بالرب الذى بداخله، لم تتحول يوماً إلى غير ما كان يحرص .. لقد أغلق كل أبواب العالم عن نفسه - الشهوات مع الرغبات - ليبحث فيها عن الكنز المخفى .. باع كل شيء ليشترى اللؤلؤة الواحدة كثيرة الثمن .. أهمل احتياجات الجسد، فلم يعد عليه سلطان، وأشعل الروح بزيت الفضائل الذى لا ينطفئ. وبعد أن ذاق، وشارك، وعاش، ولم يكن ممكناً أن يتطلع لاقتناء شيء آخر، لقد ربح السماء .. فما حاجته لهذا الآخر.

من المتعذر علينا حقاً أن نقترب من شخصية البابا كيرلس السادس إذا لم تكن لنا خبرة حقيقية بحياة الشركة مع الله، ولا يمكننا بالتالى أن نفهم حياة هذا الرجل القديس، ما لم نكن نعرف معنى الصلاة بالروح والحق.. لقد كان قداسته دائم الصلاة .. يصلى ولا يمل .. لا يفتر لحظة عن التسبيح .. فى قلايته.. أو فى مقابلاته.. أو فى سيره.. أو عند تناوله الطعام.. دوماً يتلو المزامير، رافعاً لله عقله، وقلبه، وكل حواسه.. كانت الصلاة مصدر تعزياته، ووسيلته لحل ما استعصى من المشاكل.. والمرشد لاتخاذ القرار الحاسم. فهناك فى قلايته بعيداً عن الأعين كان يقضى أوقاتاً طويلة فى صلوات عميقة طارحاً أمام الله كل المشاكل طالباً من أجل أولاده، ومن أجل الكنيسة والبلاد. لقد كانت حياة البابا كلها صلاة.. وكانت الصلاة أيضاً هى حياة البابا.

كان قلبه يلتهب بالحب لأبنائه، تجذبه جذباً إلى أولاده جذوة إلهية متقدة.. إنه لا يستطيع إلا أن يحبهم، ولا يقدر إلا أن يفتح لهم قلبه، قبل أن يفتح بابه. من أجلهم تألم، وحزن، وبكى، واكتأب، وتعب. وإذ كان الحُب الذى يملأ قلبه حُباً إلهياً، لذلك فقد أحب الجميع: من أساء إليه مثل من كرّمه، من قبله مثل من رفضه. وهو إذا زجر أو قسا، فلأنه يحب محبة صادقة مخلصة. وإذا تحنن وأشفق، فهو يشدد ركباً مرتخية، أو يخشى على قصبة مردودة من عاصفة لا يريدها أن تقصف بعود يابس. وإذ كانت روحه أقوى من جسده بما لا يُقاس، لذلك لم يعقه مرض أقعده عن أن يلتقى بأبنائه .. يلقاهم لأنه يحبهم .. حتى وهو على سرير المرض تنتابه أتعاب وأوجاع لا يعرف أحد عنها شيئاً، سوى القريبين إليه جدا. سوف نذكرك يا أبانا لسنوات وسنوات. وسوف يذكرك التاريخ لأجيال وأجيال. وسوف يشهد لك السمائيون إلى دوام الأزمان: أنك الأب الذى كان لأولاده.. والراعى الذى كان لرعيته.. معلماً لها بوداعة واتضاع ومحبة.. معطياً إياها سلاماً من فيض سلام السماء عليك.. لم تكن لها واعظاً.. بل كنت لها بحياتك عظة.

وأخيراً سافرت يا أبى إلى السماء.. استرحت من أتعابك ونلت أكاليل البر.. كنت ترفع عقلك وحواسك إلى الله طوال حياتك، فرفعك إليه لتنعم به إلى الأبد.. عشت حاملاً فى جسدك آلاما.. دخلت من الباب الضيق.. سرت فى الطريق الكرب.. تعبت .. تنهدت.. وحزنت.. وبكيت.. وجاء سيدك فوجدك تفعل هكذا، فقال: نعماً أيها العبد الصالح والأمين، كنت أميناً فى القليل، فسأقيمك على الكثير.. ادخل إلى فرح سيدك.

وأنا - كاتب المقال أقول - كان الله يرشده بقوة على من يختارهم من الرهبان ليكونوا أساقفة، وكانوا جميعاً - بدون استثناء - أناسًا ممتلئين من كل نعمة ومحبة - بغض النظر عن شهاداتهم الجامعية أو حتى تعليمهم - لكنهم كانوا رجال الله بالحقيقة. لم يستشر لحماً ولا دماً ولكنه كان مُساقاً من الله فى اختياراته، وكانت اختيارات كلها صائبة. وبالمثل فى اختياره للشباب ليكونوا كهنة بالإسكندرية - التى هى مقر كرسيه - أو القاهرة، كانوا جميعاً من الشباب النقى المُحب للخدمة والعبادة الصادقة، ولم لا؟ وقد وجدوا فى أبيهم القدوة الحسنة فى الخدمة بلا حدود، والحب لأولاده محبة كاملة، والفقر الاختيارى، والزهد فى الملبس والمأكل والسهر فى الصلاة. وإذ كان يصلى كان الله يسمع له.

وأشهد أنا - كاتب هذا المقال - أنه فى شهر يونيو 1970 صليت معه قداساً منفردين وحدنا بدير مارمينا بمريوط، وبعد انتهاء صلوات القداس الذى استغرق أكثر من ساعتين، جلس على الأرض كما يجلس الإنسان البسيط وطلب أن يشرب ماءً من إناء فخارى بسيط، وبعد أن شرب جلست بجواره وتحدثنا فى أمور شتى خاصة بأحوال الدراسة - إذ كنت وقتها طالباً بالفرقة الثانية بهندسة الإسكندرية - وعن أحوال جمعية مارمينا العجايبى للدراسات القبطية بالإسكندرية التى كان قد أوحى بتأسيسها وهو الراهب مينا البراموسى المتوحد عام 1945. وبعد أن انتهينا من الحديث طلب منى أن أنتظره حتى يستند عليّ إلى قلايته البسيطة الخاصة بالدير - إذ كانت آلام الجلطة التى فى قدميه شديدة، وقد وضع يده اليمنى المباركة على كتفى الأيمن وسرنا سوياً نستكمل حديثنا الرائع حتى باب قلايته بالدير، ثم شكرنى وودعنى بالسلام والبركة.

فى ذكراه العطرة نذكر تلك الأيام الجميلة التى كانت بحق من أزهى العصور لأقباط مصر بل وللمصريين جميعاً.