الذكرى الـ 59 لرحيل العقاد

عبقرية العقاد l مفاتيح الشخصية .. وأسرار صاحب الكرامة

الأديب عباس العقاد
الأديب عباس العقاد

أعدّ الملف:عبدالهادى عباس

عباس العقاد عملاق الفكر العربي، ومجدد لغة الضاد، وصاحب العبقريات، يستحق أن نحتفى به فى كل وقت وحين، وفيما تحل ذكرى رحيله الـ59 عـن دنـيانا وبالتحـديد فى 13 مارس 1964، نجد أنه من المناسب أن نحـتـفى بعبـقـريتــه، ونحاول أن نصل إلى مفاتيح تـلك العبقرية الـتى مازال صداها يحيط بالحياة الفكرية والأدبية، تلك المفاتيح  سيوضح لنا تفاصيلها نخبة من كبار الأساتذة والمتخصـصـيـن فـى الدراسات الأدبية والمهتمين بتلك الشخصية العبقريــة الـثريـة، والتى مازلنا نجد فى تراثها الجديد برغم طول فترة الغياب.

حياة العقاد كانت صورة من شخصيته والعكس صحيح، وأثّر الاثنان فى قلبه اللين الصلب وعقله المرن وفكره العميق، وكرامة القلم وعزة النفس اللتان كانتا من سمات حياته العامة والسياسية وإنتاجه الفكرى بصفة عامة وخاصة الشعرى، وكذلك كانت حياته العاطفية، ونحاول فى هذه السطور تحديد مفاتيح عبقرية العقاد .
فى البداية يروى لنا الدكتور أبو اليزيد الشرقاوى أستاذ الأدب فى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة قصة عابرة فى حياة العقاد، حدثت فى عام 1950، ويمكن من خلالها أن نعرف أحد مفاتيح شخصيته وملمحا من عبقريته، وتوضح كيف كانت معارك العقاد فى حياته وبعد مماته على السواء.

ملخص القصة أن الأديب الراحل عباس خضر وهو كاتب وروائى وصحفى من خريجى دار العلوم، كان يقلّب فى صفحات مجلات قديمة فوجد خبرًا مريبًا خلاصته أن عباس العقاد يدعو زملاءه الراسبين فى الشهادة الابتدائية إلى اجتماع فى حديقة الأزبكية للنظر فى مشكلتهم؛ فقال خضر إن هذا معناه أن العقاد راسب، وإن كان حصل على الابتدائية فربما يكون قد حصل عليها فى الملحق «الدور الثانى فى جيلنا»، خاصة أن صفحة مجلة الوقائع الرسمية التى نشرت أسماء المتخرجين فى الشهادة الابتدائية فى سنة تخرّج العقاد لم تذكر لفظ «العقاد» فى اسمه، وليس بالضرورة أن يكون «عباس محمود» هو عباس محمود العقاد، فربما كان عباس محمود شخصًا آخر غير عباس محمود العقاد، وطلب من العقاد أن يثبت حصوله على الشهادة الابتدائية إن كان قد حصل عليها بالفعل.
نشر عباس خضر هذا المقال فى مجلة «الرسالة» لصاحبها أحمد حسن الزيات، وقرأ العقاد هذا الكلام فاستشاط غضبًا وقرر مقاطعة هذه المجلة التى كان يكتب لها المقالة الافتتاحية أسبوعًا بعد أسبوع ونفذ وعده فلم يكتب للمجلة إلى أن توقفت عن الصدور.
فى العام التالى (1951) قررت كلية الآداب الاستعانة برموز ثقافية للتدريس بها فرفعت مذكرة إلى إدارة الجامعة تطلب الاستعانة بالعقاد وسلامة موسى ورفعت مذكرة بهذا الأمر إلى رئيس الجامعة، وفى مجلس الجامعة تم رفض الطلب بالإجماع لأنهما شخصان غير جامعيين ولا تليق دعوة أشخاص غير جامعيين لإلقاء محاضرات فى الجامعة.
وفى السنة نفسها اقترح أحد الدارسين فى مرحلة الماجستير بكلية الآداب دراسة منتج العقاد، لكن طلبه قوبل بالرفض لأن العقاد شخص غير مؤهل وغير جامعي. وظل شيء من الرفض والحصار مضروبا حول أدب العقاد، ولم ينفك هذا الحظر إلا بعد قيام ثورة 1952.

مفاتيح السيرة
ويلفت الدكتور أبو اليزيد إلى أن الصحافة والترجمة من جوانب عديدة مسكوت عنها فى سيرة عباس العقاد، وهى جوانب تستحق الدراسة والاهتمام، وفق الدكتور أبو اليزيد الشرقاوي، أستاذ الأدب فى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، لأن العقاد مبدع فى كل شيء كتبه، ومنها الصحافة والترجمة.

ويوضح أن بداية العقاد فى القاهرة كانت للعمل فى الصحافة، وأول مقال نشره فى حياته كان فى صحيفة اسمها «الجريدة» يوم 17 يونيو 1907 وعنوانها «الاستخدام أو رقّ القرن العشرين»، والاستخدام هو التوظيف فى دواوين الحكومة، وظل العقاد يكتب فى الصحافة إلى أن وافته المنية، ثم يقوم بتجميع المقالات المتشابهة ويصنع منها كتابًا، فكتب 6321 مقالة بعضها منشور مرتين، لذلك أقول إن له 6000 مقالة تحاشيًا للمتكرر وهذا رقم تقريبي.

ويضيف: كان العقاد مثل أى صحفي، يغطى الأخبار الجارية التى إذا مرّت مناسبتها لم تعد مقروءة، بالتالى فالكثير من هذه المقالات لم يتم جمعه فى كتاب ولم يعد يقرؤه أحد لأنه مرتبط بأحداث انتهت، والأهم أن الوصول إليه صعب جدًا؛ وعلى سبيل المثال كان العقاد محاورًا ممتازًا وله أحاديث صحفية كثيرة منشورة لكنها لا تلفت انتباه أى أحد من مؤرخيه مثل حديثه مع مختار باشا الغازي، وحديثه مع سعد باشا زغلول ناظر المعارف وقتها، وجزء كبير من هذه المقالات تغطية لأحداث يومية مثل مقاله عن انتشار الانتحار فى القاهرة أو الفتنة الطائفية، ومقالاته عن صراع أمريكا وتركيا سنة 1919، ومقاله عن المعاهدة السرية بين اليابان وألمانيا فى نفس العام.
ويضيف: هذه المقالات مفيدة جدا وأتمنى من وزارة الثقافة أن تطبع منها مختارات لأنها جزء من تاريخ مصر وتمارين على الأسلوب الجيد والكتابة الواعية، وإن غياب هذا الجانب من كتابات العقاد معناه اختفاء أكبر جوانب اهتماماته الحياتية، وهو الجانب الذى قدّمه للناس وعرفوه من خلاله، فعند نشر كتابه (الديوان) كان العقاد اسمًا معروفًا ينتظر الناس مقالاته، وهذا سبب من أسباب رواج كتاب الديوان.

ترجمات عميقة
ويتابع د.الشرقاوى: هذا من جوانب الإلهام فى شخص العقاد فهو الحاصل على شهادة الدراسة الابتدائية فقط عام 1903 بتقدير مقبول (112.5 من 160) درجة، تجد فى تراثه ترجمات تحتاج إلى متخصص عميق فى اللغة الإنجليزية من جهة المحتوى وإلى متفرغ لذلك من جهة الحجم، وتأخذ الترجمة عند العقاد شكلين، الأول ترجمة أعمال كاملة سواء أكانت كتبًا أم مقالات، وله خمسة كتب مترجمة، أبرزها (عرائس وشياطين) و(بنجامين فرانكلين) و(شاعر أندلسي) وسبعة مقالات مترجمة، منها: (تقرير لجنة ملنر أو تقرير اللجنة الخصوصية المنتدبة لمصر) ونشره فى أربع حلقات فى الأهرام عام 1925.

الشكل الثانى الذى يتميز به العقاد هو قراءة كتاب بلغة إنجليزية وتقديمه للقارئ العربى فى مقال تعريفى بالكاتب والكتاب ومناقشة أهم القضايا الواردة فيه بصورة مدهشة كأنك قرأت الكتاب كاملًا.
ويوضح: جمع العقاد هذه المقالات ونشرها فى عدة كتب أبرزها (ساعات بين الكتب) المنشور عام 1925 والجزء الثانى منه عام 1945، وأول مقال تعريفى منشور سنة 1916، وسأذكر أسماء بعض المؤلفين الذين قرأ لهم العقاد فى كتاب واحد فقط هو (ساعات بين الكتب) فستجد فيه عرض أفكار: هيوم وطاغور وأوتوفينجر وكوريللى وآلن كى وجوستاف لوبون وفرانس وشكسبير ووردزورث وكولريدج وبيرون وشيلى وهينى وشلر وجوته ودانتى وليوباردى وأرسطو وشوبنهاور وسنيكل وليكس ورينان وليودفتش وتريفلان وأينشتين وبيتهوفن وتوماس هاردى وجيبون وروبنس وكارميل وميكافيلى ولودفج وموير ونيتشه ووالدشتاين وأبانيز وبورجيه ومرجكفسكى ومترلنك وإبسن وشو وبودلير ودافنشى وروسو وفولتير ونتوفتش وكبلنج ولسنج وجوبينو وتشمبرلين ومقدو ودزرائيلى وفورد ونيكلسون ولينين وآخرين غيرهم لم أذكرهم خشية الإطالة.

تخيل أنه قرأ لهؤلاء وناقشهم وعرض أفكارهم فى كتاب واحد، يحتوى إلى جانب هذه الأسماء على مقالات مدهشة بعنوان: (الشعر فى مصر)، هذا فى كتاب واحد، وستجد له مئات المقالات تدور حول عرض كتاب إنجليزى قرأه العقاد وفهمه وأقام معه حوارًا خصبًا لم يسبقه إليه أحد؛ وأنا واحد من الذين استفادوا أيما فائدة من قراءة هذه المقالات فى أول حياتى العملية ففيها العالم الثقافى الأوربى معروضًا بعبقرية وعقلية منظمة جدا، وبكل أسف هذا من الجوانب التى يغفلها محبو العقاد ولم أجد دارسًا وقف عند هذا الصنيع؛ وبرغم مرور أكثر من قرن على بدء تعريف العقاد بالثقافة الأوربية على هذا النحو فمازالت هذه المقالات مفيدة للغاية ويحتاج إليها كل مثقف، وأنا أرشّح لمن يرغب كتاب (ساعات بين الكتب) ليبدأ به ولن يندم.

الكاتب الأول
كما يوضح الدكتور أسامة محمد البحيري، أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة طنطا، رئيس اتحاد كتاب مصر فرع وسط الدلتا، أن العقاد أضاف للمكتبة العربية زادًا علميا وفيرًا يزيد على مئة كتاب فى مجالات الفلسفة، والدين، والتاريخ، والاجتماع، وعلم النفس، والسير، والشعر، والرواية، وغير ذلك من مجالات المعرفة التى كتب فيها بموسوعية وتمكن واقتدار.
ويشير إلى أن تفاصيل سيرة عملاق الفكر العربى الحياتية والإنسانية والفكرية والإبداعية ثرية وباذخة، لعل أهم جوانبها المضيئة أنه أول أنموذج عرفته مصر للكاتب والأديب المتفرغ. فحين نستعرض التاريخ الأدبى والفكرى الحديث (أو القديم) فى مصر لا نكاد نجد اسم علم واحدا من الأعلام كان يكسب قوته ورزقه من فكره وأدبه، إلا إذا كان من الطبقة الغنية المترفة التى أغناها مالها عن العمل فى أى نوع كان؛ العقاد وحده هو نموذج الكاتب العصامى الذى شق طريقه فى الحياة بقلمه، وأبى أن تكون له صناعة أخرى غير صناعة القلم يعتمد عليها فى رزقه.

وقد ارتبط العقاد بالفكر والأدب والثقافة والصحافة وصناعة القلم طوال حياته حبًّا وافتتانًا، ومهنة واشتغالا، واستطاع أن يثبت للجميع فى مصر والبلاد العربية أن «الكتابة» مهنة ووظيفة شريفة معتبرة، ونجح بفضل مواهبه واجتهاده فى عمله وإبداعه وشموخه وكبريائه فى أن يجعل للكاتب والمفكر مكانة عالية مرموقة فى المجتمع المصرى والعربي: «أنا أطلب الكرامة من طريق الأدب والثقافة، وأعتبر الأدب والثقافة رسالة مقدسة يحق لصاحبها أن يصان شرفه بين أعلى الطبقات الاجتماعية، بل بين أرفع المقامات الإنسانية بغير استثناء».

القنطار والدرهم
أما الناقد الدكتور خيرى دومة، أستاذ الأدب بآداب القاهرة، فيشير إلى أنه فى مقالة باكرة، عنوانُها (أثر «المحدِّث» فى التأليف العربي، ضمها كتابه «مراجعات فى الآداب والفنون)، يكتب العقاد عن التأثير السلبى لهذا الطابع الشفهى الموسوعى التجميعى الذى غلب على المؤلفين العرب القدماء، فرفع أحيانًا من قيمة من لا قيمة لهم.

والحقيقة أن العقاد كان ينطوى من البداية على رأى سلبى فى القصّ وقيمته بين فنون الأدب، خصوصًا بالمقارنة مع الشعر، لا عن جهل بتاريخ كل فن وقيمته ووظيفته، وإنما عن تفكير وتقييم عقلانى فلسفي؛ فالقص أدنى مرتبة من الشعر بالنظر إلى معيارين واضحين عند العقاد: معيار الوسيلة فى مقابل المحصول، ومعيار الطبقة التى ينتشر فيها الفن. القصة- بالمقارنة مع الشعر- كما يقول العقاد هى «قنطار خشب ودرهم حلاوة»، وسيلة ضخمة ومحصول محدود، كلام كثير ومحصول قليل، والقصة فن ينتشر بين العامة والدهماء ممن يحبون الخيال والتسلية، بينما ينتشر الشعر بين طبقات أرقى وعقول قادرة على التجريد والتأمل، ولهذا كله لم تكن القصة تحتل مكانًا كبيرًا فى مكتبته بالمقارنة مع الفلسفة والعلم والشعر، ولهذا أيضًا كان من الطبيعى ألا يكتب العقاد من القص سوى رواية صغيرة هى «سارة».

العقاد.. وطه حسين
ويضيف دومة أنه لنفهم، يمكن المقارنة على عجل، بين طريقة الكبيرين طه حسين والعقاد فى كتابة المقال؛ فبينما حوّل طه حسين فى مقالاته دراسة الأدب والتاريخ واللغة والسياسة والتربية إلى حديث قصصى ينطوى على أخذ ورد وحوار ودراما، قدم العقاد حتى السير الشخصية للخلفاء الراشدين ولبعض آل البيت ولشعراء كبار، وهى سير قصصية بطبيعتها، قدمها فى صورة دراسات يحكمها المنطق التحليلى وليس القص ولا الحديث الحر.  
وحتى حين يكتب كل منهما سيرته هو الذاتية، فإنهما يختلفان اختلافًا واسعًا؛ فبينما يكتب طه حسين سيرته «الأيام» فى لحظة انفعالية خاصة، وفى استجابة لتحديات مجتمعه الذى يستعصى على التطور، يكتب العقاد سيرته فى لحظة استخلاص الأنا للنتائج، وفى استعراض لا لحياته، بل لـ«حياة قلم»، كأنما يكتب شهادة مباشرة أو عبقرية من عبقرياته، يكشف فيها عن قيمة الفرد ودوره فى التاريخ. وبينما يكتب طه حسين مقالاته السيرية الأولى فى مجلة الهلال (التى صارت فيما بعد الجزء الأول من كتاب «الأيام») بضمير الغائب، وكأنما يتحدث عن شخص آخر، ومتوجهًا بشكل ضمنى إلى ابنته وابنه ومن ورائهما القراء جميعًا، يكتب العقاد مقالاته (التى تحولت فيما بعد إلى كتابى «أنا» و«حياة قلم») بضمير الأنا الصريح، محللا ومفسرًا وساردًا فى تعاقب تاريخى صارم ما حدث من وقائع لا أثر فيها للتخييل القصصي.  

ويتابع: طه حسين فى مقالاته امتدادٌ واعٍ لتاريخ عربى طويل من المحدثين الشفاهيين، من الجاحظ حتى المويلحى والمنفلوطي. وهم محدثون يتوجهون بكلامهم إلى مخاطبين متخيلين، ويقوم عملهم على دراما الأخذ والرد والحوار المفترض مع أنفسهم ومع مخاطبيهم، مع قدر كبير من الارتجال والاستطراد يفرضه المنطق الشفهي. أما العقاد فيعى من البداية أنه لا يود أن يكون امتدادًا لهؤلاء المحدثين، وإنما يحب أن يكون مؤلفًا كاتبًا حديثًا، يصوغ عباراته بدقة وتجريد فلسفيين، لا يحكى ولا يتحدث بكلامه إلى مستمعين حاضرين أمامه، وإنما يكتب بحثًا إلى قراء ليسوا حاضرين فى المشهد.

هو.. والتاريخ
يقول الناقد الدكتور علاء الجابري، وكيل كلية الآداب بالسويس، إن صورة نصفية للعقاد تتصدر أعماله، ولا تبتعد عن حقيقة ظله لدينا؛ إذ يغلب ناقدُ الشعر على نواحى إبداعه المتعددة. وقد تعددت نواحى إنتاج العقاد وأثره فكتب فى الفلسفة والتاريخ والسياسة وغيرها، وكان شديد الاهتمام بتحقيق الأحداث التاريخية، وكان السياق لديه أكبر من الحدث، وقد تتقدم مراعاة قراءة التاريخ عنده على الحدث ذاته.
يضيف: هذا فى الأمور غير الأدبية، ولكنه- دون أدنى تناقض- تعامل بأريحية مع التاريخ فى الأعمال الأدبية، وهو أمر مقرر لديه ابتداء من هجومه على شوقى حين تتبع التاريخ فى مسرحيته «قمبيز»، فكان التاريخ أصلا وهو مما يخرج عن تصور العقاد أن يكون الأدب ظلا للتاريخ. لا يفترض العقاد تحقيقا فى النصوص التاريخية المتصلة بالأدب، بعدما صارت تابعة للأدب، ولم يعد من المنطق أن نفترض فيها دقة ما، هذا إذا كان فى «رواية» التاريخ منطق.

ويضيف الجابرى أنه ليس هناك أدنى تناقض بين موقـف العقاد من تحقيق الأحداث التاريخية والشك فيها بعيدا عن الأخبار الأدبية، بينما يقل اهتمامه بالأخبار الأدبية فى مصادرها، هذا وعي، ومراعاة لخصوصية المجال لا يبحث العاقل فى تناقضه؛ حيث يتقدم الأدب على سواه، وتصير الأخبار أدبية بالمجاورة، وهو ما يبدو حال كتابته- أيضا- عن جحا ونوادره فى كتاب خاص، فانتقل بالأريحية ذاتها بين قصص إيسوب وبعض مشابهاتها مع نوادر جحا ويرى تناسلها الإنسانى أمرا طبيعيا وبشريا بامتياز. وأغلب الظن أن العقاد لو كتب فى الأدب المقارن كان لينفر من طلبات المدرسة الفرنسية مباحثية الطابع.
ويتابع أن ثمة شاهدا ثالثا يؤكد سيطرة الأدب على سواه، وذلك فى رسالته- «جميل بثينة»- فيعرض لما شاب أخباره «للخلط والتناقض أو للروايات المتشابهات عن هذا أو ذاك» فلا يعبأ باحتمال اختلاط أخبار جميل بغيره من العشاق، ويرى الأمر طبيعيا ينبغى تجاوزه نفاذا إلى شعره، وهو لديه أولى بالاعتناء.

ويضيف الجابرى أن التوقف أمام نظرات جزئية جنى على العقاد كما جنى على غيره، وإذا رسمت الصورة الكاملة بان لك يقينه بتحول الأخبار الأدبية إلى أدب بالمجاورة، يغلب عليها التجاوز عن تعارضها أو لا منطقيتها، وآمن بأنها «مؤلفة» وأن هذه القصص نتاج الأدب، وليست قائدا له؛ فأخبار الأدب شعرا ونثرا تالية للأدب مؤلفة بعده. إننا نحتاج إلى رسم صورة بأقلامنا نحن، ولا نكتفى بما يصل لأسماعنا، على ثقافتنا أن تتخلص من النقل» والوثوق بالفكرة لمجرد جودة «العنعنة»؛ يعانى الأعلام من ظلال مشوهة لصورتهم البهية، فهل يكتبها الجيل الحالي؟.

المجدد
يرى الدكتور عايدى على جمعة، أستاذ الأدب والنقد بجامعة أكتوبر للعلوم الحديثة والآداب، أن العقاد يعد واحدًا من أشهر الأدباء المصريين فى العصر الحديث، وقد ترك إنتاجًا أدبيا غزيرًا، وفى جانب الشعر نجد له دواوين شعرية كثيرة، حاول فيها أن يجدد فى مفهوم الشعر السائد فى عصره، وكون مع رفيقيه عبدالرحمن شكرى وإبراهيم عبدالقادر المازنى مدرسة الديوان ذات الملمح الرومانسي، وفى جانب النقد نجد حضوره المبكر فى الحركة النقدية المعاصرة، ويعد كتابه بعنوان «الديوان فى اللغة والأدب» الذى اشترك فيه مع المازنى ذا شهرة كبيرة فى هذا السياق، وكان مفكرًا له رأيه فى مجموعة الأفكار والمذاهب السائدة فى عصره، وله كتب كثيرة يظهر فيها باعه الواسع فى مجال الفكر عمومًا والفكر الإسلامى خصوصا على نحو ما نجد من كتابه بعنوان «عقائد المفكرين فى القرن العشرين»، و«عبقرياته» التى حققت شهرة واسعة.

ويضيف أنه من ملامح العقاد القوية أيضًا انغماسه فى السياسة التى أعطته من الشهرة الكثير، ذلك على الرغم من اكتوائه بنارها، حيث سُجن تسعة أشهر فى عهد الملك فؤاد الأول بتهمة العيب فى الذات الملكية، وقد انخرط العقاد فى معارك أدبية وسياسية وفكرية طاحنة مع مشاهير عصره، وكان إيمانه بالفردية، بمعنى قدرة الفرد العبقرى على التأثير فى مجتمعه من مرتكزات كتاباته.

عابر سبيل
ويتابع جمعة: رغم تنوع كتابات العقاد وما أثارته من تفاعل كبير، فإننى أود أن أشير إلى تجربة لافتة من تجاربه الشعرية ظهرت فى ديوانه «عابر سبيل». فى هذا الديوان نجد الاهتمام الكبير بما يبصره الشاعر فى محيطه وبيئته، وهذا على عكس ما هو متحقق فى نماذج كثيرة من شعر الفصحى عندنا، ذلك الشعر الذى يمتاح من المرويات أكثر مما يمتاح من الأشياء التى يبصرها، ولذا نجد البيئة المصرية وعناصرها منحسرة فى كثير من قصائده.

وتقوم فكرة العقاد فى هذا الديوان على بث الروح الشعرية فى التفاصيل الصغيرة التى يراها الشاعر فى بيئته، وهذه الفكرة هى ما استطاع الشعر الجاهلى أن يتفاعل معها بطريقة فنية، وقد كانت المدينة وما فيها حاضرة بقوة فى ديوان عابر سبيل، حيث نجد البيت وحديقة الحيوان وما فيها من قرود خصوصا الجيبون ونجد عسكرى المرور والقطار والبنك وكواء الثياب ليلة الأحد ووليمة المأتم؛ وهذه الأشياء المتناثرة فى المدينة تبصرها الذات الشاعرة وتأخذ منها العبرة، حيث تصل من خلالها إلى فكرة عميقة، ولكن لغته تنتمى إلى المرويات أكثر مما تنتمى إلى الواقع اللغوى فى مصر فى فترته التاريخية، فهو مثلا يخاطب الجيبون ويقول له «أيهذا الجيبون أنعم سلاما»، والناس يقولون السلام عليكم أو صباح الخير أو مساء الخير ولا يقولون أنعم سلاما، وهنا يظهر بوضوح اختلاف الفكرة عن التوجه السائد فى عصره، ولكن فى لغة تراثية غالبة وأوزان تراثية مهيمنة، مما جعل هناك انفصاما ما بين الفكرة وتحقيقها؛ ورغم ذلك فإن هذا الديوان يعد من الأهمية بمكان، لأنه استطاع أن ينزل عيون الشعر لكى تبصر ما هو موجود فى البيئة، وتتفاعل معه.

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 8/3/2023

أقرأ أيضأ : وزيرة الثقافة تكشف خطة الحفاظ على مقتنيات «عباس العقاد»