يوميات الأخبار

يوم الشهيد

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

فى التاسع من مارس تحتفل مصر كل عام بيوم الشهيد، وهو يوم استشهاد الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، يوم 9 مارس 1969 على شاطئ القناة.

• الطريق إلى خط النار

وصل الفريق عبد المنعم رياض مبكراً لقيادة الجيش الثانى الميدانى بالإسماعيلية، ليتفقد الجبهة، فقد قام رجال المدفعية أمس بدك مواقع العدو بنيران حامية، فى معركة قاسية لن ينساها الإسرائيليون. كان فى استقباله قائد الجيش الثانى الميداني، اللواء عدلى حسن. ذهبا معاً إلى موقع (رقم ستة) الذى أبلى بالأمس بلاءً رائعاً فى المعركة.

كان الموقع متقدماً للغاية. على القناة نفسها. نزل الفريق رياض من سيارته مع قائد الجيش. سار بين الجنود. تحدث معهم. داعبهم. حيا جهودهم التى بذلوها بالأمس. فجأة اشتعلت الدنيا. قصف العدو الموقع بشراسة. كان لا بد أن يحتمى الجميع بالحفر البرميلية. الحفرة البرميلية هى حفرة مستديرة كالبرميل، يمكن أن يقف فيها الرجل فلا يظهر منه شيء. نزل الفريق إلى أقرب حفرة. أرسل العدو قنابله بمنتهى العنف. 

انفجرت إحدى القنابل بالقرب منه. لم تصبه، لكنها تسببت فى تفريغ الهواء من حوله، ويقال إن الرئتين انفجرتا نتيجة لذلك. بعد أن سكتت النيران حملوه إلى المستشفى بسرعة. كان قائد الجيش مصاباً أيضاً. فى الطريق صعدت روح رياض إلى بارئها، أما قائد الجيش فكان عمره لم ينته. المهم أن استشهاد عبد المنعم رياض كان حدثاً غير عادى. وكانت دلالته بالغة الأهمية، فالقادة فى هذا العصر الجديد مكانهم فى المقدمة.

• عبد المنعم رياض

لا بد من الوقوف قليلاً عند هذا القائد العسكرى الفذ.

ولد عبد المنعم رياض فى قرية سبرباى القريبة من طنطا، فى 22 أكتوبر 1919. تلقى تعليمه المبكر بكُتاب القرية، ثم انتقل إلى المدارس بالقاهرة، حيث كان والده يعمل قائد بلوكات الطلبة بالكلية الحربية. التحق بكلية الطب، لكنه تركها بعد عامين، ليدخل الكلية الحربية عام 1936. وكان ضمن الدفعة الطالب جمال عبد الناصر. والملاحظ أن عبد الناصر أيضاً دخل كلية أخرى غير الحربية ثم غير اتجاهه ليدخل الكلية الحربية.

خلال الدراسة تخصص رياض فى المدفعية، وكانت المدفعية العادية، والمدفعية المضادة للطائرات فى ذاك الوقت ينتميان لسلاح واحد. المهم أنه نظراً للحاجة الماسة للضباط فقد تخرجت الدفعة مبكراً عام 1938. ولم تلبث أن اشتعلت الحرب العالمية 1939، وكانت الصحراء الغربية ساحة قتال رئيسية لهذه الحرب. ذهب عبد المنعم رياض ليشارك فى الحرب ضد الألمان والإيطاليين الذين يحاربون الإنجليز على أرض مصر، فكانت هذه هى تجربته الأولى فى القتال الميداني.

تجربته الثانية كانت فى حرب فلسطين سنة 1948. وقد منح فى هذه الحرب وسام «الجدارة الذهبية» لبلائه المتميز فى الحرب، وكان دوره خلال هذه الحرب هو ضابط عمليات، ويقوم بدور همزة الوصل لين العمليات وقيادات الميدان. وكأن الحرب كانت على عهد معه، فلم تلبث إنجلترا وفرنسا وإسرائيل أن شنوا العدوان الثلاثى على مصر سنة 1956، وللمرة الثالثة يخوض رياض المعارك.

لكن الملاحظ أن رياض كان شغوفاً بالعلم العسكرى، وربما لهذا السبب لم نجده يشارك فى العمل السياسى مثل بقية زملائه الذين انضموا للضباط الأحرار، ثم صاروا من كبار الساسة. ففى عام 1944 حصل على درجة الماجستير فى العلوم العسكرية. وبين عامى 44- 45 حصل على دورة «معلم مدفعية مضادة للطائرت» من انجلترا..

وبعد ذلك حصل على دورة خاصة بالصواريخ فى مدرسة المدفعية. بعدها حصل على زمالة كلية الحرب بأكاديمية ناصر عام 1966، وخلال هذا كله تعلم الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والروسية. كما انتسب لكلية العلوم، بل إنه التحق بكلية التجارة وهو برتبة فريق.

كما التحق عام 1958 ببعثة فى الاتحاد السوفييتى للحصول على دورة تكتيكية تعبوية، من الأكاديمية العسكرية العليا، حيث لقبوه بالجنرال الذهبي. بعد عودته من البعثة بقليل (1960) تولى منصب رئيس أركان حرب سلاح المدفعية.

لكن الحدث الأهم فى ذاك الوقت هو توليه منصب رئيس أركان حرب القيادة العربية الموحدة 1964. وفى يونيو 1966 ترقى إلى رتبة الفريق. وفى 11 يونيو 1967 أى بعد النكسة بستة أيام فقط،، إختاره الرئيس عبد الناصر رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة المصرية، وظل فى هذا المنصب حتى نال الشهادة فى مارس 1969.

• الانتقام لعبد المنعم رياض

دخل المقدم إبراهيم الرفاعى قاعة الاجتماعات على ضباط مجموعته. نهضوا جميعاً. أشار لهم بالجلوس. كان فى عينيه عزم وتحدٍ. كانوا يعرفونه جيداً. فيه عناد يكفى بلداً بأكمله. جلس أمامهم. صمت لحظة، ثم رفع رأسه وقال: تعلمون أن العدو قتل الفريق عبد المنعم رياض يوم 9 مارس. القيادة كلفتنا بالانتقام له. ما رأيكم؟

تعالت الأصوات: سننتقم له

- نحن لها يا افندم

- سنجعلهم يندمون على ما فعلوا

- دماء عبد المنعم رياض لا تكفينا فيها عشرة منهم

قال الرفاعي: على بركة الله. استعدوا إذن للسفر إلى الاسماعيلية غداً صباحاً. سنذهب لاستطلاع الموقع.

- أى موقع يا افندم؟

- موقع لسان التمساح، الموقع الذى أطلق النار على الشهيد البطل.

فى صبيحة اليوم التالى كانت السيارات تتحرك بالجميع نحو الإسماعيلية. توجهوا إلى مبنى الإرشاد، وهو أعلى مبنى على شاطئ القناة. أمسكوا بنظاراتهم المكبرة. راحوا يرصدون الموقع. قال لهم الرفاعي: دققوا فى كل التفاصيل. أنتم مكلفون بعمل كروكى للموقع، حتى يتم التدريب عليه.

- تمام يا افندم. تأكد أننا سنضع الكروكى بمنتهى الدقة.

• فى قلب الصحراء

تم إنشاء موقع مشابه تماماً لموقع لسان التمساح فى الصحراء. أخذ الضباط جنودهم للموقع. كان الموقع عبارة عن أربعة دشم حصينة، (الدشمة مكان يعيش فيه الجنود ومعهم أسلحتهم واحتياجاتهم المختلفة). بالإضافة لموقع إدارى، ويربط بين هذه المنشآت كلها خنادق ربط بحيث، لا يظهر أى جزء منهم. كان هذا الموقع هو المسؤول عن ضرب مدينة الاسماعيلية مدفعياً، ولذا وضع فيه الإسرائيليون مدفعاً ضخماً سماه الناس «أبو جاموس» لضخامته وعنف ضرباته ودوى صوته. اختص الرفاعى كل ضابط بموقع من المواقع. ودرب كل ضابط رجاله على اقتحام الموقع، والتعامل مع من فيه.

بعد هذا انتقل التدريب إلى المجارى المائية، للتدريب على العبور بالقوارب، وعلى الضرب من الحركة بالأسلحة المختلفة. وصارت المجموعة مستعدة تماما. وتحدد للعملية يوم أربعين الشهيد رياض، الموافق 19 أبريل 1969.

• المدفعية تدوى

فى السابعة مساء يوم 19 أبريل كانت المدفعية المصرية تقصف موقع لسان التمساح بضراوة. حين بدأ القصف جرى الجنود الإسرائيليون ليختبئوا فى دشمهم. تحت ستار المدفعية عبرت ست قوارب مطاطية من الشاطى الغربى للشاطى الشرقى للقناة. حين وصلوا طلب المقدم الرفاعى من المدفعية أن تتوقف. توقفت. فى لمح البصر كان رجال الصاعقة المصريون يهاجمون دشم العدو الحصينة. ألقوا بقنابل الدخان داخل الدشم ليجبروا الجنود المختبئين على الخروج. خرجوا جميعاً. واستقبل رجال الصاعقة الأبطال خصومهم بالنيران والسناكى والخناجر. كانت مجزرة. سقط فيها كل من فى الموقع، وعددهم أكثر من أربعين ضابطاً وجندياً.

بعد قليل جاءت قوات الدعم الإسرائيلية. كان الرجال على استعداد لاستقبالهم. وصلت بعض الدبابات، فاصطاد المقاتلون المصريون دبابتين، وتراجعت بقية الدبابات خشية أن يكون هناك كمين منصوب لهم. دخل الرجال الموقع. أخذو كل ما فيه لتعرف القيادة كل شيء عن أسلحة وأجهزة العدو. والمهم أنهم رفعوا علم مصر على الموقع بعد أن أنزلوا علم إسرائيل.

عند انسحابهم إكتشف النقيب محيى نوح أن هناك مبنى مموهاً يكاد لا يظهر. عرف أنه مخزن للذخيرة. أبى أن يعود دون تفجيره. ذهب إليه وفجره. قبل أن يبتعد بمسافة كافية طالته بعض الشظايا، فسقط مصاباً، لكن الرفاق لم يتركوه. أخذوه معهم، وحين عادوا قاموا بحصر الخسائر فى الأفراد فوجدوا أن الجميع عادوا بحمد الله، وليس بينهم سوى اثنين مصابين.

أخذوا المصابين إلى مستشفى القصاصين. بعد إجراء الإسعافات العاجلة جاءت طائرة هليوكبتر نقلتهم إلى مستشفى المعادى العسكرى. هناك كان اللواء محمد صادق (وزير الحربية فيما بعد) فى انتظارهم، ليطمئن عليهم.

وفى المساء زارهم الرئيس عبد الناصر نفسه. أما إسرائيل فلم تصدق ما فعله المصريون. حاولوا إخفاء ما حدث. حين أعلن المصريون عن العملية قالت إسرائيل إن الخسائر كانت جندياً واحداً. لم تجرؤ على الاعتراف بأنهم دفعوا أربعة وأربعين مقاتلاً إسرائيلياً مقابل الشهيد عبد المنعم رياض.