الأديبة «جويس كارول أوتس»: كتابتى مرآة تعكس الواقع

جويس كارول أوتس
جويس كارول أوتس

جويس كارول أوتس واحدة من أبرز أدباء أمريكا المعاصرين، وأغزرهم إنتاجًا.كما اشتهرت مؤخرًا بنشر أفكار غير مفلترة وعشوائية ومحيرة أحيانًا عبر تويتر، المنصة التى  حققت من خلالها شهرة مفاجئة فى وقت متأخر من مسيرتها المهنية. فى أغسطس 2022، نشرت أوتس أحدث رواياتها، «جليس أطفال»، لتنضم إلى تلٍ شاهق من كتب الشعر والمقالات والنقد والقصص القصيرة. استندت أحداث «جليس أطفال» جزئيًا إلى العناوين الرئيسية لأخبار ديترويت فى سبعينيات القرن الماضي، وتتبع الأحداث زوجة تنخرط فى علاقة غرامية مع رجل تعرفه فقط باسم ى. ك. فى الأثناء، ينطلق قاتل متسلسل يقتل الأطفال بشكل مروّع.

تتناول الرواية بعض الموضوعات النفسية السائدة فى أدب أوتس وتعيد تشكيلها؛ الإرباك الذى تسببه الرغبة، والخزى الملازم للمتعة، بالإضافة إلى موضوعات العنف ضد النساء، والعرق والطبقة الاجتماعية.

فى نهاية سبتمبر الماضي، أُطلِق فيلم شقراء عبر منصة نتفليكس، وهو فيلم مقتبس عن رواية أوتس الصادرة عام 2000، وتتناول أحداثًا من حياة مارلين مونرو، وتستكشف عالم هوليوود كنموذج مصغر للخدعة الأمريكية والاستغلال. يعتبرها الكثيرون من أبرز أعمال أوتس وفيلم “شقراء” بطولة آنا دى أرماس وإخراج أندرو دومينيك.

كنت أفكر فى مارلين مونرو، وفى هانا، الشقراء الأنيقة الثرية بطلة «جليس أطفال»، أحدث رواياتك . واسترجعتُ أشهر شخصياتك، كُونى فى «إلى أين تذهب، وأين كنت؟»، وأيريس فى «لأنها مريرة، ولأنه قلبي»، كامرأة شقراء نقية مُهددة بالفساد. هل تتفقين معى على كونها تيمة متكررة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تغريك دومًا، أو تلفت انتباهك بشكل خاص؟

ذكرتِ ثلاثة أو أربعة أسماء لنساء شقراوات. لكنى كتبتُ حوالى 1500 نص أدبى، بين روايات وقصص قصيرة. كل مشروع أعمل عليه مستقل عن غيره. ككاتبة أو فنانة، فإن كل مشروع تعملين عليه له خصوصيته، ويفرض تحدياته الخاصة وثِقله. ربما أنجذب للكتابة عن المستضعفين أو من تم تهميشهم أو إفقارهم أو سلب حقوقهم.

وليسوا فتيات أو نساء شقراوات بالضرورة. قد يكونون رجالًا. كتبتُ عن الملاكمة، وهى برأيى حالة مماثلة للدراما الكاملة أو الأيقونية لمارلين مونرو والشابات الأخريات من نجمات تلك الأيام، أواخر أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، من حيث استغلال الملاكمين من الطبقة العاملة ممن لم يكن لديهم نقابات تحميهم.

وكانت نورما جين بيكر واحدة من مئات آلاف النجمات اللواتى تعرضن للاستغلال داخل الاستوديوهات، من قِبل المنتجين والمخرجين الذكور، ومن قِبل نظام هوليوود. لم تكن مثل إليزابيث تايلور التى جاءت من طبقة مختلفة فى المجتمع.

ولم تنعم بحماية الأسرة. كانت والدتها محتجَزَة فى كثير من الأحيان. عاشت كفتاة فى قصة خيالية، عليها شق طريقها الخاص. عملت فى مصنع للطائرات وهى فى السادسة عشرة، حيث تنفست الأدخنة أثناء أداء عملها. لو كانت بقيت فى ذلك المصنع لفترة أطول.

وربما أصيبت بمرضٍ مميت. لو لم تصبح نورما جين بيكر نجمة، ثم مارلين مونرو، لاستنزفتها  الرأسمالية، وقضت عليها. هذا ما يجذبنى أكثر من كونها امرأة شقراء. كتبتُ أيضًا عن مايك تايسون وملاكمين آخرين مروا بتجارب مماثلة. ربما تكون هذه الصلة أقرب قليلاً لما يغريني.

ولقد أخبرت كاتب سيرتك الذاتية أن ما ألهمك  لكتابة «شقراء» صورة لنورما جين فى السابعة عشرة. «هذه الفتاة الشابة، التى نأمل أن تكون مبتسمة، أمريكية جدًا، ذكّرتنى بفتيات عرفتهن فى طفولتي، نشأ بعضهن فى أسرٍ محطمة». هل يمكنك إخبارنا بالمزيد عن هؤلاء الفتيات، ظروف معرفتك بهن؟

ونشأتُ فى شمال غرب نيويورك، شمال بوفالو. لم يكن مجتمعًا مزدهرًا؛ كان من بين جيراننا أسر محطمة، وشهدتُ قدرًا كبيرًا من الوحشية. بينما نشأت فى عائلة غير عادية. عشنا - والدايَ وأخى وأنا - مع جِدَيَّ لأمي. كنا كمزرعة متعددة الأجيال وحظينا بمزيد من الاستقرار، لكنى التحقت بالمدرسة مع هؤلاء الفتيات اللواتى كن ضحايا للعنف فى الغالب. كان آباؤهم مدمنين، أو مرضى، أو هجروا الأسرة. نورما جين بيكر واحدة من تلك الفتيات.

وآمل ألا أبدو مُدققة، لكنى لاحظت تكرار ما يشبه النموذج الأولى للعائلة فى العديد من كتبك: آباء متخلون عن أسرهم؛ أمهات متورطات ومتناقضات؛ أشقاء متشاحنون بالضرورة. هل تتماس هذه الديناميكيات مع تجربتك الخاصة؟

ويحمل الكاتب مرآة للحياة. أنا أكتب عن الحياة فى أمريكا. لا أعتقد أن منتَج الكُتاب يستند بالضرورة على تاريخهم العائلى فحسب. من يكتب عن الحرب أو الهولوكوست فإن ما يكتبه لا علاقة له بأسرته. هو موضوع موجود فى العالم بالأساس. نحن نجسِده فحسب، ونعرضه للآخرين ليتأملوه. لقد ألفتُ الكثير من القصص، وبالتأكيد استنفدتُ حياتى منذ فترة طويلة.

وكتبتِ أنك ورثت «المِزاج» الموسيقى عن والدك، إن لم تكونى مواهبه الموسيقية أيضًا. جعلنى هذا التصريح أفكر فى حضور الموسيقى فى كتابتك.

الموسيقى مهمة جدا بالنسبة لي. أحب الاستماع إلى الموسيقى، وبخاصةٍ البيانو. لدى ارتباط شعورى ورومانسى ما بالبيانو. شم رائحة مفاتيح البيانو، أو مجرد لمسها، والضغط على الوتر، تحمل لى  صدى عاطفىاً كبيراً. ولكن، فى كتابتي، يوجد ما يشبه الصوت الوسيط.

وأحاول عزف موسيقى بأصوات البشر المختلفة، تتغير هذه الأصوات من شخص لآخر. أستمع كثيرًا لموسيقى تدور فى رأسى أو أغنى لنفسي، كما يفعل الناس أحيانًا.

وأشعر أحيانًا أن الموسيقى فى عملك هى صوت الثقافة الشعبية. تنسجين كلمات من أغانى البوب فى سردك، كما ظهر فى «إلى أين تذهب» و»شقراء».

وعندما كتبتُ «إلى أين تذهب، أين كنت؟» خلال ستينيات القرن الماضي، كان المراهقون مهووسين بموسيقى الروك أند رول. شاهدتُ ليلة أمس فيلم «إلفيس» الحديث نسبيًا. إنها دراما تأخذنا سمعيًا إلى عصرٍ ما  من ثقافتنا، خمسينيات القرن الماضي، حين ظهرت موسيقى جديدة، متأثرة بالسود آتية من الجنوب وبدأت تشق طريقها بقوة على الصعيد الوطني.

كانت تُرى على  أنها خبيثة وغير أمريكية. استاء دعاة الفصل العنصرى وذوو الامتيازات من البِيض مما وصفوه بهذه الموسيقى السوداء الصاعدة. وكان إلفيس بريسلى هو القناة، حلقة الوصل. كان يغنى ويؤلف الموسيقى، بل ويؤدى حركات استعراضية فى عروضه الحية، شاهد الموسيقيين من السود يؤدونها. معظم الجماهير البيض لم يشاهدوا هذه الحركات من قبل هذه هى التيمة الأساسية، أن إلفيس كان يمثل ما يشبه خروجًا وثنيًا عن الثقافة المسيحية الراسخة.

وكانت الطبقة الوسطى البيضاء محاصرة بموجة سوداء من موسيقى الإيقاع والبلوز. لا أراه  فيلمًا رائعًا. لكنى أذكر كيف اعتُبِرت موسيقى الروك أند رول والإيقاع والبلوز أدوات حربٍ على الآداب العامة. ألقى الوُعاظ والكهنة خُطبًا ضد هذه الموسيقى. كانت فجوة واضحة بين الأجيال.

رواياتك شديدة العنف والتطرف. نجد فيها وصفا دقيقا لاغتصاب وجرائم قتل واعتداءات على أطفال. هل تجدين نفسك منجذبة إلى هذه القضايا؟

وكما قلتُ، أنا أكتب عن أمريكا، وأحمل مرآة تعكس الواقع. هذه المرآة يحددها إطار، والرواية أيضًا يحددها إطار. إنها ليست بلا حدود، يتحكم الكاتب أو الفنان فى هذا الإطار. أنتِ تختارين وتقدمين رؤية معينة. على سبيل المثال، ينجذب شكسبير إلى التراجيديا. كتَبَ كوميديا رائعة.

ولكن المآسى التى ألفها عميقة وتتعلق دومًا بالعنف. لا توجد تراجيديا، كنوع أدبي، بدون عنف. من يكتبون روايات بوليسية أو مبنية على الغموض ينجذبون بالطبع إلى القتل لأن القتل هو الجريمة المطلقة.

وهل لديكِ تفضيلات أدبية معينة؟ فكرتُ فى تغريدتك من مارس 2021 التى تحدثت فيها عن الأدب الذاتي، الذى يطمس الخط الفاصل بين الرواية والمذكرات ويوميات المؤلف؟

نعم وكنت أفكر أنك ككاتبة فى العشرينيات أو الثلاثينيات، مثلًا، ودرستِ هذه الأعمال العظيمة فى الجامعةومن ثم وجدتِ نفسك تكتبين شيئًا قصيرًا نسبيًا وغير طموح. أرى أنه من الغريب الثناء على عملك هذا وأنتِ تعلمين بالطبع أنك لستِ تونى موريسون أو ويليام فوكنر.

ولكن كل تغريداتى عابرة. كتبتُ هذا بعدما حكَّمتُ لجوائز أنيسيفيلد - وولف، التى تعتبر بوليتزر السوداء. تُمنح للكتابة التى تتناول العرق، ولا سيما فى أمريكا. بيرسيفال إيفريت هو الفائز بالجائزة لعام 2022، وكان ترشيحي كتب رواية عن الإعدام خارج نطاق القانون فى أمريكا. كتابة عميقة فعلًا. بدا وجود كتابات حول موضوعات ذات أهمية كبيرة بجانب كل هذه الأعمال من الأدب الذاتى غريبًا. لا يهمنى ما يكتبه الناس. أشجع طلابى على الكتابة انطلاقا من قدرتهم.

إذا كانوا متمكنين حقًا فى الكتابة عن أنفسهم، ونشر مذكرات اعترافية، فهذا ما يجب عليهم فعله. لكن، من منظور واسع، أجدنى معجبة بعمل بيرسيفال إيفريت وجون إدجار وايدمان أكثر من الأعمال التى تتناول مواضيع أسهل.

لنوضح ماذا يعنى «الطموح»، هل هو عدسة اجتماعية وليست فردية؟

 يمكننا أن نقول، مثلًا، إن «ميدل مارش» رواية طموحة للغاية. لم تصدُر رواية مثلها قبلها. سبقتها روايات كثيرة بالطبع، روايات مسلية، أو روايات وعظية. لكن رواية جورج إليوت جمعت كل شيء معًا. روايات تونى موريسون طموحة.  ليست طويلة بالضرورة. كانت تونى تكتب بطريقة مقطرة، شِعرية، ولم تكن تكتب عن نفسها أو عن أحداث تخصها فحسب. امتلكت مجهرا، وحِسا مرتبطا بالتاريخ.

تتطرق «جليس أطفال» فى مواضع كثيرة لكراهية هانا لذاتها ومخاوفها وغرورها. ووجدتً بعض التداخل بين رسم صورتها النفسية والطريقة التى يقدم بها رواة الأدب الذاتى أنفسهم.

هانا لديها تجارب متعلقة بديترويت فى ذلك الوقت، بالتوترات العرقية ومفارقات العيش فى مدينة أمريكية كبيرة. عشتُ بنفسى فى ديترويت مع زوجي. كان لى أصدقاء عاشوا فى الضواحي. فر السكان البيض من المدينة حينها.

وكان جليس الأطفال، القاتل المتسلسل الحقيقي، رجلاً أبيض، لكن ذهب أغلب الظن إلى كونه رجلاً أسود يفترس الأطفال البيض. كان هذا اعتقاد البِيض. لم يدعم الواقع عداءهم العرقي. هانا مازوخية. لديها إحساس دائم بأنها تستحق العقاب. قد تكون ماتت بالفعل وتُسرَد الرواية كلها بعد وفاتها. لكن القصة أيضًا تدور حول شاب يدعى ميكي، وقد افتُديَ بمعنى أنه قام من غفلة وفعل كل ما لم يُرِد فعله أو يخطر بباله أن يُقدم عليه. ثم ينقذ حياة طفل صغير، وينتهى به الأمر بقتل جليس الأطفال. تظهر شخصيته بطولية بشكل هزلي.

قلتِ إنك غير متأكد من أن لديك ذاتًا أو شخصية. ماذا قصدتِ؟

أعتقد أن معظم الناس لا يملكون شخصيات قوية فى أنفسهم. الكثير مما نقدمه للعالم هو ردود أفعال لتصرفات الأشخاص من حولنا. قد يُسمى لعب الأدوار. فى الفن المرئي، تخفُت الذات الشخصية. لا تبدو الرسوم الرائعة التى قدمها مارك روثكو تقدم أى سمات شخصية، وهى براقة، وحِسية، أعمال تتشكل من الجمال الخالص والبديع.

كتاباتك مليئة بالتشكك والارتباك. ما يجعلها حية. لكن تعقيدها، بالنسبة لي، يقل على مستوى الشخصيات الفردية ويزيد حين تتعلق بما هو أعمق، ما تُسميه أحيانًا «غير شخصي». هل يمكنك إخبارنا عن ذلك؟

أنجذبُ إلى التجارب غير الشخصية أو العابرة للشخصية. الحياة والموت. يصف الناس هذه التجارب بطرق نموذجية فتبدو جميعها متشابهة. الولادة، التى لم أجربها من قبل، هذه تجربة أخرى عابرة للشخص، مر بها الكثير من النساء. أنا مهتمة بغموض الهوية الذاتية، كيف تنشأ  ثم كيف تتلاشى.

يستكشف عملك تجربة أنثوية خاصة أيضًا فى الزواج والترمل. المعنى الذى تعلقه النساء على الرجال، أزواجهن، بيوتهن، وما يحدث حين ينهار كل هذا.

وحين نفقد شخصًا قريبًا جدًا منا، أحد الوالدين أو الزوج أو الأخت أو الأخ، يصعب التحدث عن الخسارة البالغة العميقة. يعجز الناس عن الكلام. يفقد الناس كلابهم وقططهم فينهارون فجأة. يتخيلون الحيوان يتحرك من حولهم فى البيت طوال الوقت. الخسارة عميقة.

ولا تخضع للعقل. كلما اقتربتِ من شخص ما، زاد عمق صدمتك حين تفقدينه. تقع عليك الصدمة كضربة بمطرقة على  الرأس. لا يصير الحزن فكرة، بل يصبح أشبه بالمرض. إنها خسارة داخلية قد لا تتجاوزينها أبدًا. أعرف أشخاصًا فقدوا أحد والديهم فى طفولتهم ويشعرون بالنقصان طوال الوقت.

تكتبين غالبًا عن تجارب تمر بها النساء ولا تفهمها سوى نساء أخريات، وكذلك الأمر بالنسبة للرجال. لقد كتبتِ عن «أُخوة غامضة ومخيفة تربط الرجال بالعنف»، أخوية تستبعد النساء. فى «جليس أطفال»، تكتبين «لعنة الأنثى، أنها فى أمَّس الحاجة إلى الحب» و»جوع الرجل: أقل خصوصية منه عند المرأة.» ولحظات كثيرة كهذه. هل لديك آراء قوية حول الذكورة والأنوثة؟

لا أعرف إن كانت هذه هى آرائى الخاصة. إنها ذات صلة بالرواية. هانا شخصية من نمط معين. أنا اهتم بالأفكار والمواضيع. يمكننى معالجة فكرة لا أؤمن بها بطريقة درامية. قد لا يدرك البعض أنك ككاتبة، تجذبك الشخصيات، والشخصيات ذات السمات المختلفة.

 ولذلك فإنك ترين لكل شخصية جاذبيتها وقناعاتها الخاصة. قد تتعارض قناعات الشخصيات تمامًا، فتنشأ بينهم علاقة عدائية. لكنى اعتقد أن الروائى الذى يتعاطف مع شخصياته سيجعلها جميعًا  تبدو قابلة للتصديق. تتناول روايتى «كِتاب الشهداء الأمريكيين»، جانبين منقسمين فى أمريكا، المناهضين للإجهاض والليبراليين.

وأو مقدمى الخدمات المتعلقة بالإجهاض. أردتُ أن تكون متناظرة ومتوازنة. حين تقرئين عن الإنجيليين المناهضين للإجهاض، تقرئين عن أناس مُخلِصين لمعتقدهم، يؤمنون حقا به. يؤمنون بالله. يؤمنون بالمسيح. يؤمنون بقداسة الجنين. يعتقدون أن الجنين نَفْس.

وهم يؤمنون بالنفوس. على الجانب الآخر، تقرئين شخصيات لأناس ملحدين أو علمانيين. لا يؤمنون بوجود روح أو إله. كروائية، تريدين تقديم كل جوانب الموضوع لجعله أقرب إلى الحياة.

ولكن الاقتباس حول قدرة العنف على خلق أخوة غامضة ورهيبة بين الرجال مذكور ضمن نص غير روائي. أعتقد أنك كنت تكتبين بصوتك.

كنتُ أتكلم عن الملاكمة. لا اعتقد أن جميع الرجال مرتبطون بالعنف. الملاكمة تحتفى بعنف الذكور والتضحية بالنفس. الآن ظهرت النساء كملاكِمات. حين كتبتُ عن الملاكمة، لم تكن الملاكِمات بهذه الأهمية. لا أقول إن جميع الرجال عنيفون، لكن عندما تكتبين نصًا غير روائي، قد تبالغين فى تقدير الأشياء. كما قلت، أنا كاتبة فلسفية. استنطق الفرضيات والأفكار. ما كنت  استنطقه فى عام 1981، أو عام 2003، لا يمثل بالضرورة قناعاتى الحالية.

ولكن هذه افتراضات يؤمن بها شخص ما. أنا لا أكتب دعاية من وجهة نظر واحدة. بصفتى روائية، تشغلنى دراما الحياة، على ما أعتقد، وتأمل كيف تلعب الشخصيات المختلفة أدوارها: شكسبير هو الكاتب المسرحى الأكبر، لن نقول بالضرورة إن شكسبير هو هاملت، وإن شكسبير هو ماكبث أو غيره. إنه كل هؤلاء، ولا أحد منهم على الإطلاق. يمكنك القول بأن أياجو يحمل  شيئًا من شكسبير. لكننى أتبين الكثير من شخص مثل شكسبير فى كتابته أكثر مما أتبينه عن روائى جدلي. أنا مهتمة أكثر بإضفاء الطابع الدرامى على الصراع.

وصدرت روايتك «شقراء» قبل اثنين وعشرين عامًا. كيف ظهرت فكرة تحويلها لفيلم؟

أرسل لى أندرو دومينيك سيناريو منذ وقت طويل. انبهرتُ لتكثيفه الثمانمائة صفحة. عمِل على المشروع طويلًا، ولم تكن لى أى علاقة به، سوى اتصالات من أندرو بين الحين والآخر. أولاً ، أراد نعومى واتس لتلعب دور مارلين. لكنه لم يحصل على التمويل اللازم.

وكبُرَت الممثلة على الدور، وهو تعبير فظيع. ثم اقترح ممثلة شابة أخرى، وكبُرت، لأننا نتحدث عن عشرين عامًا. أخيرًا، اختار آنا دى أرماس ذات العمر المناسب تمامًا، وكان يعلم ماذا يفعل. لم أتدخل فى ذلك. شاهدتُ نسخة شبه نهائية، نسخة خاصة، وكان عليّ مشاهدتها فى غضون ثمان وأربعين ساعة.

وبعد مشاهدة نصفها، توقفتُ. الفيلم مرهق عاطفيا. هذا فيلم لا يبعث على السعادة. العديد من الأفلام عن مارلين مونرو مبهجة، تتخللها الموسيقى والغناء. أفلام جميلة ولطيفة. ربما يكون هذا الفيلم أقرب لما عاشته بالفعل. كانت الأيام القليلة الأخيرة من حياتها قاسية.

هل سُررتِ بالصورة التى ظهر عليها الفيلم؟

نعم بالتأكيد. إنه عمل فنى بديع. أندرو دومينيك مخرج ذو خصوصية عالية، لذلك رصد الموضوع وقدمه برؤيته الخاصة.

هل اختلفت رؤيته كثيرًا عن رؤيتك؟

أعتقد أن رؤية أندرو موازية لرؤيتي، أو مماثلة لها. لكنه صنع فيلمًا فريدًا وخاصًا به أيضًا. اختار الموسيقى والأزياء والإضاءة. تولى الإخراج واختيار الممثلين. كان اختيار آنا مثيرا للجدل لأنها كوبية. استلزم الأمر مواظبتها على دروس فى اللغة الإنجليزية كى لا تكون لهجتها ملحوظة.

وأن ترتدى الباروكات. أدت عملًا رائعًا وأصبحت مارلين مونرو.  أمر مدهش أن يتفاجأ الناس حين يُمثل الممثلون. الممثلون الحقيقيون متلونون كالحرباء، بينما يلعب الآخرون شخصياتهم الحقيقية دائمًا. الكوميديون على وجه الخصوص.

وإنهم جيدون ومضحكون ويحبهم الناس، لكنهم ليسوا ممثلين حقيقيين. بينما ممثلون مثل لورنس أوليفييه أو ريتشارد بيرتون أو داستن هوفمان بارعون للغاية، وآل باتشينو، خاصة عندما كان أصغر سنًا - ممثلًا جيدًا جدًا.

هل سجلتِ أى لحظات مفضلة فى الفيلم أو فى أداء آنا؟

الطفلة التى تلعب دور نورما جين صغيرة رائعة. شعرتُ كأنى أعرفها، ووالدتها مضطربة جدًا. إنها علاقة مثيرة للشفقة. هذه هى النقلة الأولى، قبل القفزة الزمنية التى تقودنا إلى الشابة، آنا دى أرماس. جميع الأجزاء رائعة، لكنه عمل مرهق، يتطلب صبرًا من المشاهد. ثلاث ساعات تقريبًا.

وكان على أن أتوقف، وابتعد لبضع ساعات، ثم أعود. الربع الأخير هلوسة خالصة. مارلين مونرو مدمنة على الباربيتورات وتميل إلى الانتحار. تفقد عقلها. تنزلق لعالمٍ سوريالي، عالم حيوى بشكل مذهل، يشعرك بأنك ستفقدين عقلك. أتذكر شعورًا بالغَمْر: إنه ليس فيلمًا تشاهدينه بقدر ما يغمرك. لا يناسب ضعاف القلوب.

عندما ذكرتِ صعوبة مشاهدته، لم يكن الأمر متعلقًا بالمحتوى الجنسى بقدر ما يتعلق بالأذى العاطفي؟

وحين يستغلها أشخاص تبجلهم وتحبهم، أو تعتقد أنها تحبهم، وهى فى حالة هلوسة فهذا أمر مفجع. كانت فى حالة دمار تام فى آخر يوم من حياتها. علقَت مارلين الكثير من الأمل على جون كينيدي، وكانت فكرة خرافية. تفكك زواجها من آرثر ميلر. لطالما أحببتُ آرثر ميلر، لكن عندما قرأت تلك المسرحية «بعد السقوط»، شعرت أنها خيانة للعلاقة الحميمة. للزوج والزوجة علاقة حميمة معينة.

وكيف يمكنه كتابة هذه المسرحية؟ الناس خذلوها. بسبب حركة MeToo ، أتيح مجال أكبر للاستماع إلى النساء اللواتى تعرضن للإيذاء واحترام تجربتهن. قبل قضية هارفى وينشتاين، لم يتعاطف الكثيرون مع القضايا ، بل ظهرت اتهامات بالمبالغة واختلاق الأمور. لكن الآن، أصبح الناس أكثر احترامًا لقضايا استغلال النساء.

السؤال الأخير. على ما تعملين الآن؟

أُنهى رواية، تدور أحداثها فى القرن التاسع عشر، حول شخصية مركبة تستند إلى ثلاث شخصيات تاريخية حقيقية. أتعرفين جى ماريون سيمز؟

 نعم. يبدو الاسم مألوفا.

إنه بمثابة الأب لطب أمراض النساء الأمريكي. وهناك رجل يدعى سيلاس وير ميتشل، الطبيب المشار إليه فى قصة «ورق الحائط الأصفر»  لشارلوت بيركنز جيلمان. كان مشهورا جدًا فى عصره. وهنرى كوتون، مدير مأوى المجانين بنيوجيرسي، هكذا كان يسمى مستشفى الأمراض العقلية.

يؤذى بطل روايتى النساء بإجراء عمليات استئصال الرحم والتعقيم، فتتحدن معًا ويقاومنه. إنها رواية سوريالية مبنية على أناس حقيقيين وأحداث حقيقية. الرواية تسمى «الجزار».

اقرأ ايضاً | عبدالجواد العوفير يكتب: يدى تُبصِرُ

نقلا عن مجلة الادب : 

2023-3-4