عاجل

هناء عبيد تكتب: البحث عن الجذور

هناء عبيد
هناء عبيد

لعل أجمل ما يمكن أن يقدمه القلم خارج حدود الوطن؛ وجبات دسمة عن ثقافة الشعوب الأخرى، وخاصة أنها ستكون معلومات مستقاة عن قرب، إذ لا يمكن تقديم الحقيقة إلا بقلم من عاشها.

ليس هناك وقع أصعب على النفس كذاك الذى يسببه الابتعاد عن الوطن، فالجذور التى نتركها خلفنا كفيلة بأن تصنع ندوبًا فى الروح لا يمكن التئامها بسهولة، وتخلف جروحًا عميقة لا يمكن شفاؤها، ولعل المداواة بالكلمات هى أنجع سبل النجاة.
وقد قدر للعربى أن يهاجر من أوطانه لظروف خارجة عن إرادته، بل هناك من هاجر لأنه لا يستطيع العودة إلى أرض الجذور كما هو الحال فى الفلسطيني، لهذا قد تأخذ الكتابة للشخص الفلسطينى المهاجر منحى آخر، فالشعور باستحالة العودة إلى الوطن الأم يعمل على خلق وجع وألم وحزن لا يمكن احتمالها. وهذا بدوره يصنع فضاءً واسعًا متميزًا للكتابة عما يختلج فى النفس من أوجاع.

ولا شك بأن هناك عناصر كثيرة مشتركة بين الأقلام التى عانت الغربة والبعد عن الوطن، لكن كما أسلفت ربما يكون وقع الألم أكبر حينما تكون الهجرة قسرية، مما يخلق عناصر إضافية يمكن أن تساهم فى إبداع نصوص ذات أبعاد مختلفة كما هو الحال مع القلم الفلسطينى المهاجر. 


وكلنا يعلم أن المكان من أهم الأعمدة التى يرتكز عليها النص بمتانة، حيث الأبعاد العاطفية، والمشاعر والأحاسيس الخاصة به، فكيف إذًا ستكون الكتابة عن المكان خارج حدود الوطن الذى انغرست فيه جذورنا وتعلقت به أرواحنا؟! 


ولا شك أن البعد عن الوطن يصنع أرضا خصبة يمكن زراعتها بنصوص مميزة، فأن تعيش خارج حدود وطنك يعنى أن تعيش فى بيئة مختلفة تُوَلّد فى روحك الانفجار الذى يخلق النصوص المميزة، ويبقى الإنسان إنسانًا بمشاعره وأحاسيسه سواء كان داخل وطنه أو خارجه، لكن الروح حينما تفارق الجذور تكتب بمشاعر ملتهبة بالحنين، ومشبعة بالشوق.


ولا شك أن ثيمة المواضيع التى يمكن اعتمادها فى خلق أى نص تتأثر باختلاف طبيعة الأشخاص وباختلاف ظروفهم التى عاشوها. ومن أهم المواضيع التى يمكن الحديث عنها فى داخل هذا الإطار المشاعر خارج الوطن: الابتعاد عن الجذور وأرض الآباء والأجداد ومسقط الرأس يؤجج فى النفس الحنين.

ويثير الشوق ويفجر الذكريات. فيكتب القلم طواعية عن مدى الألم المرافق للنفس بسبب بعدها عن منبتها، وتبدأ الذكريات بالتدفق، حيث الطفولة الجميلة، والشقاوة على أرض الجذور، والأوقات السعيدة التى قضيناها مع الأهل وخاصة الأجداد، ثم الشوق إلى الأحبة، والتراث الذى افتقدناه فى الغربة، وما أوجعه من شوق.


وفي كل شبر فى الأرض يؤجج الحنين والشوق، فما بالكم حين يكون الوطن مغتصبًا، ومحتلًا، بل ومن الصعب الوصول إليه، هذا بحد ذاته يُحَمّل النفس ألما مضاعفًا، وهذا ما حدثتنا عنه نسرين فى روايتى «هناك فى شيكاغو»، الفتاة التى عاشت على أرض ليست أرضها وهاجرت إلى بلد يقع  فى النصف الآخر من الكرة الأرضية، حيث تحدثنا عن ذكرياتها مع أبيها وأمها وأختها، وحنينها إلى جدتها وجدها فى القدس، وذكريات الطفولة التى انحفرت فى روحها. 


الكتابة عن الوطن من خارج الوطن
وهنا قد يتميز موضوع النص الفلسطينى عن غيره من النصوص، خاصة أن معظم من عاش خارج الوطن لم يختر الهجرة بإرادته، فكثير من الكتاب الفلسطينيين كتبوا عن فلسطين والمعاناة التى يعيشها أهلها رغم أن قدمهم لم تطأها يومًا.

ولعل رواية «مدينة الله» للأديب الفلسطينى حسن حميد أفضل ما يمثل هذه النصوص، حيث كتب عن العديد من المدن فى فلسطين، ووصفها بدقة، وذكر معاناة أهلها رغم أنه لم يزرها فى يوم ما، فأى وجع هذا الذى يكتنفك حينما تكتب عن مدينة آبائك وأجدادك من مجرد حديثهم عنها؟ 
وقد أكون أكثر حظًا من غيري، فقد شاءت الأقدار أن أزور فلسطين، وأن يكون لها بصمتها على ذكرياتى الطفولية التى حاولت أن أعتصرها لأكتب عنها بدقة أكبر، لنقرأها من خلال ذكريات نسرين فى روايتى «هناك فى شيكاغو» التى تُحَدّثنا فيها عن طفولتها فى بيت جدها، وذكريات أمها فى القدس.


وكما كان لى العديد من القصص القصيرة والقصيرة جدًا وبعض المقالات التى تحدثت من خلالها عن معاناة الشعب الفلسطينى داخل الوطن، منها قصة «أبو أحمد بائع الكعك» الذى تحدثت فيه عن مذبحة دير ياسين، وقصة «مقدسيةً»، «وفى الشيخ جراح» و«طفل من غزة» و«حنين» وغيرها.


ولعل الجانب السلبى فى الكتابة عن الوطن عن بعد، أن البعض قد يقع فى بعض الأخطاء، فأن تكتب عن وطن لم تدسه قدمك، قد يعرضك إلى الإدلاء بمعلومات مغلوطة وهذا ما حدث فى بعض الروايات التى ذُكِرت فيها بعض أسماء المدن خطأ، بل وتحدثت عن أماكن ومواقع بمعلومات غير دقيقة، وهذا أمر بديهى فالكتابة عن بعد ليست كما هو الحال عن قرب.


التعايش مع الآخر
أن تعيش فى وطن آخر معناه أن تتعامل مع أناس يختلفون عنك فكريًا وثقافيًا واجتماعيًا، هذا يعنى أن تكتب عن أحوال هؤلاء الناس وكيف يمكن أن تتعامل معهم، خاصة أن العوامل السياسية لها دورها فى التأثير على كيفية معاملة الناس للآخرين.


ونحن نتعامل مع خلفيات متعددة من الثقافات وخاصة فى شيكاغو التى يوجد فيها حوالى ١٨٠ جالية مختلفة، فنحن نتعايش مع هؤلاء الأشخاص فى الجامعات والعمل والمناسبات الاجتماعية، فكيف يمكن أن ينظر البعض إلى الآخر.


وفى روايتى «هناك فى شيكاغو»، التى أعتبرها أنموذجًا للرواية التى كتبت من خارج الوطن، كان للبطلة نسرين صديقات من عدة أقطار مختلفة، من إيطاليا مثلا هناك صديقتها التى تتعامل معها بكل تفاهم حين وقعت أحداث سبتمبر، بحيث أنها لبست الحجاب تضامنًا مع المسلمين.


 وكما تلاحظون يمكن أن توظف العلاقات على عكس ما تريده السياسة القبيحة، تتحدث الرواية أيضا عن نظرة الآخرين لنا، فمثلًا حين أحداث سبتمبر تعددت المواقف، هناك من أيد المسلمين ووقف بجانبهم، وهناك من وقف ضدهم، لدرجة أنه تم قتل عائلة هندوسية بأكملها فقط لأن أحد الرجال فيها كان له لحية، فهم باعتقادهم أن كل ملتحٍ مسلم. 


وكما يمكن أيضًا التعرف على وجهات النظر المسبقة عن الآخرين ورأيهم فيها بسبب الإعلام المضلل، وقد توضح هذا الأمر أيضًا من خلال رواية «هناك فى شيكاغو» حيث صديقات البطلة نسرين، ونظرتهم المسبقة غير الدقيقة عن المسلمين حيث تحدثت عن صديقتيها؛ فمثلا صديقتها الهندية لديها قناعة بأن الاحتلال لفلسطين أمر مشروع، أما صديقتها الكورية فترى بأن العرب هم أهل الإرهاب.


اختلاف الشعوب والثقافات
لعل أجمل ما يمكن أن يقدمه القلم خارج حدود الوطن؛ وجبات دسمة عن ثقافة الشعوب الأخرى، وخاصة أنها ستكون معلومات مستقاة عن قرب، إذ لا يمكن تقديم الحقيقة إلا بقلم من عاشها، لكم أن تتخيلوا مدينة كمدينة شيكاغو مثلًا والكم الهائل من المعلومات التى يمكن تقديمها عن الجاليات المختلفة التى تعيش فيها.

حيث الجاليات الهندية والصينية والعربية والفرنسية وغيرها، وقد أشرت فى روايتى «هناك فى شيكاغو» إلى بعض هذه الثقافات وتحدثت عن الأسواق المتعددة الموجودة فى شيكاغو. 


أدب الرحلات
ويخلق البعد عن الوطن مساحات شاسعة خصبة للإبداع فى أدب الرحلات، حيث يستطيع القلم الكتابة عن أهم المدن ومميزاتها وطبيعة العمران وطبيعة البلاد، وأهم المعالم السياحية فيها، وهذا ما كان أيضًا فى روايتى «هناك فى شيكاغو» حيث قمت بالكتابة عن العديد من الأماكن السياحية فى شيكاغو مثل «نافورة باكنغهام».

كذلك تحدثت عن مدينة ديربورن العربية وعن الجاليات العربية فيها، كما أشرت إلى تاريخ مدينة شيكاغو والحريق الذى تعرضت له وتاريخ الهجرات لها بعد الحريق، كذلك تحدثت عن مكان إقامة «فرانك لويد رايت» المهندس المعمارى الشهير.


حرية القلم والسياسة
وقد ينطلق القلم برحابة أكبر فى بلاد بعيدة عن أوطاننا، فيكتب حينها عن عيوب الأوطان بحرية أكبر، حيث إن بعض الأنظمة تقمع الأقلام المنتقدة لعيوبها، فيجد الكاتب نفسه خارج حدود الوطن أمام فضاء أوسع للتعبير عن قضاياه الشائكة التى أدت به إلى الهجرة، ويختلف الأمر من وطن إلى آخر حيث الظروف المختلفة.


الشئون السياسية وتداعياتها
ويمكن أيضا رصد المشاكل السياسية ومدى تأثيرها عالميًا فى بلد الاغتراب، فمثلا مرت الولايات المتحدة بظروف سياسية كثيرة كان لها تداعياتها على وطننا العربي، منها أحداث سبتمبر التى ألقت الضوء عليها روايتى بالتفصيل.

كذلك بعض الأمور السياسية التى رافقت جائحة كورونا فى عهد ترامب وتأثيرها الكبير على العالم العربى أيضا، وقد تناولت ذلك فى روايتى قيد النشر.

اقرأ ايضاً | الأزهر: مذبحة دير ياسين بداية إرهابٍ لا يزال مستعرًا على أرضٍ طاهرة

نقلا عن مجلة الأدب: 
2023-2-18