د.عبير خالد يحيى تكتب.. ماذا لو لم أكن هنا؟

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

جلوسى على منصّة من منصات مكتبة الإسكندرية إقرار واعتراف صريح بى كناقدة ذرائعية تحمل منهجًا نقديًّا تطبيقيًّا جديدًا محترَم بعلميّته وتطبيقاته

كانت لحظة مباركة تلك التى اخترتُ فيها جمهورية مصر العربية، حينما وضعنى زوجى بين خيارات ثلاث: لبنان – تركيا – مصر، أختار واحدًا منها لقضاء عطلة صيف لمدة شهر، تكون مكافأة على نجاحٍ متوقّع وتفوّقٍ مأمول لابنتى البكر فى شهادة الثانوية العامة، اخترتُ مصر بلا تردّد، ولم تكن الزيارة الأولى، فقد اعتدنا قضاء الكثير من الإجازات فى الإسكندرية تحديدًا بحكم أشغال زوجى فى شركته البحرية، واضطراره للإقامة الطويلة لحين الانتهاء من (عمرة مركب) فى موانئها، لكن كانت آخرها فى العام 2006.

 فى الشهر السابع من العام 2012 شددنا الرحال إلى الإسكندرية للإقامة لمدة شهر واحد فقط كما ذكرت، لكن سرعة تدهور الأوضاع فى سوريا حتّم علينا قرار البقاء والاستقرار لفترة قدّرناها بخمس سنوات على الأقل.

وهى فترة الدراسة الجامعية التى يمكن أن تستغرقها ابنتى فى كلية الصيدلة بجامعة الإسكندرية، لم يكن فى طرطوس كلية صيدلة فى وقتها، والالتحاق بالجامعات فى مدن دمشق أو حلب أو اللاذقية كان محفوفًا بأخطار كبيرة أقلّها الخطف، وكان زوجى قد افتتح فرعًا للشركة فى الإسكندرية قبل بضع سنوات.

وكان موضوع انتقال أولادى للدراسة أمرًا سهلًا أيضًا، فقد فتحت مصر مدارسها وجامعاتها بكرم جمّ أمام السوريين، وبقرار حكومى رسمى تمّ معاملة الطالب السورى كمعاملة الطالب المصرى بالرسوم والحقوق والواجبات، بقيت أنا، كان مطلوبًا منى أن أضحى بعملى الوظيفى والحكومى كطبيبة أسنان فى مركز من مراكز وزارة الصحة السورية، رغم أنى قدّمت على إجازة (استيداع) سنوية تُجدّد كل أربع سنوات.

وجائتنى الموافقة من رئاسة مجلس الوزراء، ولكن مدير الصحة فى فرع طرطوس وقتها احتفظ بالقرار فى درج مكتبه بنيّة عاطلة، تمهيدًا لتسريحى من العمل، فخسرتُ عملى الوظيفى وكل مستحقاتى المالية.

وإضافة إلى إغلاقى لعيادتى الخاصة، لكنى اعتبرتُ كل ذلك المنع فتحًا لمنح كثيرة كنت أتوق إليها، لم أستطع ممارسة العمل كطبيبة فى مصر، لأن الأوراق المطلوبة كانت كثيرة، وجلّها يتطلّب الحصول عليها من جامعة دمشق، وكانت دمشق فى ذلك الوقت تكتوى بنيران حرب غبية.

بقيت ثلاث سنوات أسيرة واجباتى تجاه أسرتى وفقط، إلى أن جاء العام 2015 حاملًا إلىَّ بصيص أمل بهواية قديمة كنت أمارسها سابقًا، وكانت حلمى المستقبلي، لكن الواقع أكلها، الكتابة، كنت أكتب بعض الخواطر على متصفحى على الفيسبوك.

وكانت تلقى استحسانًا لا بأس به، إلى أن شجعتنى إحدى الكاتبات الشابات من بلدى على الانضمام لمنتديات أدبية على الفيسبوك، ووجدتنى أتابع ما يُكتب فى جنس القصة القصيرة جدًّأ، الجنس الأدبى الجديد اللافت، فكتبت فيه.

واشتركت فى مسابقة كبيرة فى أحد منتدياتها لأفاجأ بأن نصّى أحرز المركز الأول مناصفة مع نص طبيبة أسنان سورية مثلي، وكان عدد النصوص المشاركة أكثر من 150 نصًّا، وهكذا... بدأت، ثمّ تدرّجت فى كتابة القصة القصيرة، وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، فى نهاية 2015 طبعت كتابى ( لملمات) مجموعة قصص قصيرة جدًّا بعد أن تم تداوله إلكترونيًّا على موقع أمازون، ثم كتابى (عطايا) مجموعة شعرية، وجدتُ فى فضاء الأزرق الكثير من المنتديات الراقية فى هاته المجالات والأجناس الأدبية.

ولكنى كنت أتوق إلى فضاء الأرض، الأخضر والبني، وجدتُنى مدعوة للثبات على أرض صلبة، شاءت الظروف أن تكون نصوصى الفائزة مدعاة لدعوتى إلى الكثير من دور الثقافة بداية من المنصورة والمنوفية والغردقة والأقصر، وكم فرحت حين تم إدراج قصة من قصصى (مركب الغرب) فى عرض مسرحى وتمت دعوتى لحضور العرض الأول فى قصر الثقافة فى المنصورة.

ثم، شاءت الأقدار أن أدخل عالم النقد، حيث تتلمذت على يد أستاذى من العراق عبد الرزاق عودة الغالبي، وبدأت بنقد النصوص الأدبية المختلفة، بداية بالنقد المفصلى تعريجًا على مناهج ما بعد الحداثة، وأخيرًا النقد الذرائعي.

وحينما فكّرت جدّيًّا فى عمل استثمارى أسّست دار نشر فى الإسكندرية بمشاركة مع شريكة مصرية، ورتّبت لتكون الدار مقرًّا للعديد من الندوات الأدبية والنقدية، وتمكّنت من إبرام عقد مع مكتبة الإسكندرية، المنبر الثقافى الكوزموبوليتانى الكبير، تم بموجبه اعتبار الدار مشاركة رسمية فى كل المعارض الداخلية والخارجية التى تشارك بها المكتبة.

لم يُكتب لتلك الشراكة أن تستمر، ولكنى استطعت تحقيق إنجازات كبيرة خلال مدة وجيزة، فى العام 2016 طبعت كتابى (رسائل من ماضٍ مهجور) مجموعة قصص قصيرة، تحرّرى من أعباء دار النشر جعلنى أكثر انطلاقًا باتجاه المنابر الثقافية التى نشطت بشكل لافت من العام 2015، كانت القاهرة هى المنطلق الحقيقي.

حين تمت دعوتى إلى مؤسسة الكرمة الثقافية لتقديم دراسات نقدية عن أعمال القامات التى ترتاد مجالس المؤسسة، منهم الشعراء الكبار حسن طلب وأحمد عبد المعطى حجازى ومحمد الشهاوى ومحمود حسن وعمارة إبراهيم.

وكان أن كرّمتنى المؤسسة بعضوية انتساب، واعتماد العام 2017 كعام للنقد على شرف صدور كتابنا الأول فى النقد الذرائعي، وحين تقدّمت بطلب انتساب إلى اتحاد الكتاب المصريين حصلت على العضوية بسهولة، رغم أن لجنة التنسيب ليست سهلة.

وبل شديدة الدقّة فى فحص ما يُقدّم إليها من كتب مطبوعة، والحمد لله نلت عضوية اتحاد الكتاب المصريين شعبة النقد، بينما ضنّ عليّ اتحاد الكتاب السورى بالعضوية فى العام2020.

رغم أن ما قدّمته له من كتب مطبوعة كان مضاعفًا، فى النقد والإبداع، وهنا أدركت أن وطنَ المبدعِ هو الوطن الذى يقدّره كمبدع، وهو يختلف عن وطن المواطنة الذى لا يعترف عليه إلّا من خلال المواطنة، التى لا خيار له فيها.

وبعدها فتحت لى مصر أبواب قصورها الثقافية المحلية والدولية على مصراعيها، فكنت ضيفة على قناة النيل الثقافية لمرّات عديدة، وكنت عضوا محاضرا ومشاركا فى محاضرات وندوات معرض القاهرة الدولى لسنتين على التوالى 2018- 2019.

أما قصّتى مع الإسكندرية، منارة العالم العربى ثقافيًّا بلا منازع كما أراها ويراها كلُّ ما قدم إليها، وأقام بين ظهرانى أهلها الطيبين، وارتشف الجمال من بحرها والسحر من معالمها العابقة بأنسام التاريخ وآثار الحضارة الكوزموبوليتانية فيها، كلُّ من شارك مبدعيها ندواتهم الأدبية السردية الراقية.

وصدقًا أقولها عن وعى وإدراك ودراية، لم أشهد ما يوازى رفعة الندوات السردية الإسكندرانية فى كل المدن العربية التى زرتها، ولا حتى فى القاهرة، لقد وجدتُ فى القاهرة منابرَ الشعر، لكنى رأيتُ الإسكندرية منصّة السرد بكل أجناسه وأنواعه.

وهنا، لا بدّ أن يتصدّر مختبر السرديات فى مكتبة الإسكندرية المشهد السردى الراقي، بإدارة الأديب والناقد منير عتيبة الذى حمل أحلامه الكبيرة إلى مختبر الواقع، وبدأ بتحويلها إلى حقيقة حلمًا تلو الآخر، وجعل من جلسات المختبر النقدية، والمؤتمرات التى يقيمها على هامش كل تظاهرة ثقافية.

ومثالًا يُحتذى واحتذى بها الكثير من الكيانات الثقافية التى تشكّلت لاحقًا، مفيدة منه إفادة كبيرة، حتى بالورش التعليمية والإبداعية، مشاركاتى النقدية فى ندوات المختبر كان لها أثر طيب فى نفسي، جلوسى على منصّة من منصات مكتبة الإسكندرية إقرار واعتراف صريح بى كناقدة ذرائعية تحمل منهجًا نقديًّا تطبيقيًّا جديدًا محترَم بعلميّته وتطبيقاته.

كنت من الأعضاء المؤسسين فى مبادرة أكوا للكتابة الإبداعية التى تسلّم ريادتها الدكتور شريف عابدين، والتى كان لها أيادٍ بيضاء على جمهور كبير من الأدباء الشباب، كما كنت من الأعضاء المؤسسين فى الصالون الثقافى الروسى برئاسة الأديبة والبرلمانية منى عمر، والحديث عن هذه الكيانات الثقافية الكثيرة والثرية بنشاطاتها الأدبية والثقافية المتنوعة لا ينتهي، إتيلييه الإسكندرية، مركز الإبداع، قصر ثقافة الأنفوشي، قصر ثقافة الشاطبي، قصر ثقافة مصطفى كامل....الخ

هذا المناخ أهّبنى لخوض غمار السرد والكتابة فيه بحرص شديد، متوخّية الكتابة بالاحترافية، فالمتلقى السكندرى هو مبدع بدرجات متفاوتة، ولكنه ليس متلقياً عادياً، كتبت مجموعتى القصصية  ليلة نام فيها الأرق) فى العام 20183.

والتى كانت مجموعة قصصية حداثية معاصرة اختلفت عن المجموعة السابقة (رسائل من ماضٍ مهجور) والتى كانت قصصاً قصيرة كلاسيكية طبعت فى العام 2016، ولم أطبع روايتى (بين حياتين) إلا فى عام كورونا 2020 على الرغم من أننى بدأتها فى العام 2016 وأنهيتها فى العام 2018 حيث أتاح لى الحظر إعادة النظر فيها وتدقيقها لتنال نصيبًا جيدًا من الاهتمام بالدراسات النقدية والمناقشات فى مؤتمرات مختبر السرديات، وفى ندوات أكوا فى مركز الإبداع.

العام 2020 كان فارقًا على جميع الأصعدة، فى الوقت الذى كان انطباع معظم الناس عنه سلبيًّا، رأيت أنه لم يكن كذلك على صعيد الحراك السردى السكندري، سيما فى مختبر السرديات حيث سارع الأستاذ منير عتيبة إلى اعتماد التواصل التكنولوجى عن بعد، عبر تطبيقاته المختلفة، فلم نشهد انقطاعًا فى برنامج الندوات،لا بأكوا ولا بالمختبر.

بل انتقلنا إلى مرحلة جديدة، تعرّفنا خلالها على منتديات ومختبرات وكيانات عربية وعالمية، إن عام كورونا أسّس لحراك ثقافى أكبر وأكثر انفتاحًا على العالم بكل أرجائه، وأنجز ما فاق إنجازات المؤتمرات الدولية الكبرى.

وسط هذا المناخ الثقافى الثرى والمتنوّع والحر، والاحتضان الدافئ الذى قضى على برد الغربة، كان لا بدّ للإبداع الأدبي، شعرًا كان أم سردًا، من أن ينمو نموًّا سريعًا بمعزل عن المعوّقات، نموًّا سليمًا خاليًا من الإعاقات، متلمّسًا طريقه باتجاه الحرفية العالية.

هذا ما شهدته، وهذا ما عشته، وما أحسست به وما أدركته، فى هذا البلد الحميمى كتبت عن أحوال وطنى الذى وقع فريسة حرب مجنونة تاه فيها القاتل والمقتول، أخبرت أهل الكنانة عن جمال وطنى بلد الياسمين، عن سحر وبهاء بحره وجباله وغاباته وصحاريه.

عن أرض الحضارات والثقافات وأقدم العواصم، وبلد القوميات على اختلافها لا خلافها، وكتبت عن شعبى الذين ناله من الظلم والطغيان ما جعل الموت مطلبًا رحيمًا لأهل الشقاء، ناسى الذين تجرّدوا من الخوف فاندفعوا صوب البحر يبتغون حياة فى أوطان بديلة يعرفون أنها لن تستر عرى قلوبهم، وهم موقنون بأن البحر قد يتحوّل إلى غول يأكل صغارهم قبل كبارهم.

 يراودنى سؤال يلحّ على عقلى كلّما أعاننى الله على إصدار كتاب أو إنجاز مشروع إبداعي، ماذا لو لم أكن هنا فى الإسكندرية؟ أو فى مصر بالعموم؟ ماذا لو بقيت فى بلدي؟ هل كنت لأكتب كما كتبت هنا؟! وهل كنت سأكتب أصلًا؟! سؤال مركّب أفضّل ألّا أجتهد فى الإجابة عنه.

وأكتفى بحمد الله وشكر فضله أننى استثمرت إبداعى فى بلد لم أشعر فيه بالغربة أو الاختلاف إلّا حين أجدّد معاملة الإقامة، بلد شعبه من أرقى الشعوب تعاملًا مع الآخر، يحبّ الضيف ويبجّل العلم ويحتفى بالأدب، بلد سأحمل لناسه ومعالمه الكثير من الحب والشوق والحنين حين يشاء القدر لى أن أغادره إلى بلدى أو إلى أى بلد غيره.

اقرأ ايضاً | السرد خارج الوطن.. جدلية الحياة والإبداع

نقلا عن مجلة الادب : 
2023-2-18