يوميات الاخبار

ناس «بالجرام».. وناس «بالطن»!

سمير الجمل
سمير الجمل

سمير الجمل

لو عبدت الله لأجل شىء، أوصلك للشىء
ولو عبدت الله لأجل الله ، أوصلك لكل شىء

نزلت الهانم من سيارتها الفخمة.. يحيط بها رجال حراستها الخاصة تنظر ذات اليمين وذات الشمال.. وإن كان تركيزها الأكبر على الشمال.. أحاط بها الناس وهى توزع الهبات والابتسامات.. أفسحوا لها الطريق وأزاحوا السيارات المركونة حتى تجد سيارة الست موضعا فى زحام وسط البلد إلا بهز الوسط.. وقد كان.. حتى إنهم رفعوا سيارة ١٢٨ لمدرس جامعى يحمل الدكتوراه وجاء بها بعد شوق وبهدلة فى المواصلات.. حتى لا يدخل المحاضرات بين طلابه وكل قطعة من ملابسه فى ناحية كأنه قد رجع لتوه من إحدى الغزوات وكانت علامة الجامعة التى ينتمى إليها موضوعة على الزجاج الأمامى للسيارة تكشف عن صاحبها وتفسح له الأبواب إذا ما بلغ الجامعة.. سيارة الست ركنت فى الممنوع.. ولولا الملامة لمسحوا على صاجها بالأكف ثم رفعوها إلى وجوههم يتباركون بها فهى من رائحة الغالية.. أما هذا الدكتور فما الذى جاء به إلى وسط البلد؟! ألا يعرف أن هناك من يمتلك الفراسة التى تجعله يفرق بين سيارة الاكابر.. وعشش الصفيح تلك التى يسمونها زورا وبهتانا بسيارة؟!.
فى هذا اللقاء العابر الذى جمع بين (العالم والعالمة) تستطيع أن تقرأ الكثير من أحوال العباد.
فى تلك اللحظة يأتى صوت قارئ القرآن الكريم فى محل مغلق يبيع صاحبه بأكثر من السعر المعتاد.. يقول القارئ فى الآية رقم ١٠٠ من سورة المائدة:
(قُل لاَّ يَسْتَوِى الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
إنهم يعرفون ولكن!
أراد أن يسبق السيارة الأخرى ويزاحمها ويمر قبلها.. فلم يرفع سائق التاكسى راياته البيضاء أو الحمراء.. وقرر أن يناطحه وليكن ما يكون.. وهمس إليه الراكب العجوز فى التاكسى:
(يابنى سيبه يعدى هى الدنيا هتخلص دلوقت)!!
رد (التاكسجى):
وهو ابن مين يعنى؟
قال العجوز: وأنا وانت أولاد مين يعنى؟
اشتعل غضب التاكسجى من رأى العجوز وقال له وهو يرفع فرملة اليد حتى يظل الوضع على ما هو عليه:
احنا فى غابة.. وأنا ليه ابقى «أرنب» وكل واحد عامل فيها «أسد»؟
اغلقوا الطريق على أنفسهم وعلى غيرهم ودخلوا فى جدال ماسخ لا جديد فيه.. واتسعت دائرة الغضب وكلمة من هنا على أخرى من هناك.. انتصب السيرك.
وتطورت المناوشات الكلامية إلى استخدام ما تيسر من أسلحة يدوية.. وحديدية..
وجاء رجل من أقصى الشارع يسعى كان يتابع ميلاد لحظة الغباوة من أولها.. وقد ضاع صوته فى الزحام والصخب:
يا ناس أليس بينكم من رجل رشيد يفسح لاخيه وهو فى حقيقة الأمر يفسح لنفسه.. سمحا إذا مشى وإذا وقف وإذا باع وإذا اشترى؟! الأمر ينتهى فى لحظة.. اتفضل يا أخى.. ويكون رد الآخر: فضلك الله.. يتسع ضيق الشارع.. وتبرد النفوس التى ارتفعت بها درجة الغليان فيما يستحق وما لا يستحق كأن عفاريت الدنيا كلها تركبها وتعصف بها. قال أحدهم كان يسحب أنفاس الشيشة على المقهى (عفوا اقصد الكافيه):
ما كله بيعمل كده.. انت نازل من المريخ يا عم الحاج ما تخليك واقعى!!
كان العجوز داخل التاكسى يراقب ويسأل الله العفو وأن يلهم هؤلاء الرشاد فى وقت ارتفعت فيه أسعار الضلال والأونطة إلى أرقام لم تتحملها البورصة فاهتزت اركانها ورقصت على واحدة ونص.. وقال قولته التى يمكن تصنيفها على انها حكمة بالغة.. والعقول ارزاق كما النفوس وسبحان من ألهمها فجورها وتقواها.. قال:
لا تناقش السفهاء فيستدرجونك إلى مستواهم وسيغلبونك بخبرتهم فى النقاش السفيه!!
نزل العجوز. وحمد الله على أن قدميه فيهما القليل من العافية و«الباور» ما يخرجه من دائرة اللهب هذه.
كانت سيارة الاسعاف تصرخ فى تلك اللحظة ولمبتها الحمراء تدور.. وهمَّ أحد الشباب من تلقاء نفسه يفسح لهذا ويطيب خاطر هذا.. حتى بدت فى الشارع انفراجة صغيرة سرعان ما اتسعت.. لكى تسمح بفض الاشتباك هذا.. واستجابت له الفرق المتشاحنة.. فقد انهكها الجدل واللوع وفنجرة الحنك والشاب يردد قول الله سبحانه وتعالى من سورة إبراهيم:
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا  كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا  أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِى مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وعاد صاحب الشيشة إلى أنفاسه وطلب تغيير الحجر.. ويشكو البطالة وسوء الحال وفساد النفوس.. واختفاء النخوة.. وتحسس فى جيبه أجر ما شرب وقد أخذه عنوة من امرأته.
(فاصل)
لو عبدت الله لأجل شىء
أوصلك للشىء
ولو عبدت الله لأجل الله
أوصلك لكل شىء
الحل فى الفيديو
فى لحظة الضيق والألم.. يلهمك المولى سبحانه وتعالى طريق الرشاد فى أبسط الأمور وأصغرها.. الموبايل فى يدها منذ سنوات.. ولها صفحة على الفيس.. ومع ذلك لم تفكر فى عمل فيديو.. لكنها فعلتها فى أروقة القصر العينى بعين دامعة وقلب مكسور على ابنها الشاب المهدد بالعجز.. حيث اصيب فى ساقه وهو يحتاج إلى مفصل صناعى.. بعد تحليلات وأشعة.. واستشارات.. اكتشفت أن المستشفى الحكومى ليس فيه مفاصل وإن وجُد فإن ثمنه قد يصل إلى مائة ألف جنيه وهى لا تملك من حطام الدنيا إلا معاشها تنفقه كله على ولدها وعياله منذ اقعدته الاصابة وقهرته نفسيا أمام احتياجات الأولاد فى مدارسهم وملبسهم ومأكلهم.
سجلت الفيديو وهى تمشى عندما لمعت الفكرة فى رأسها.. وبعد ساعات.. كانت أبواب الأمل الموصدة تتأهب للفتح ولو على سبيل المواربة.. التقط الفيديو احدهم وارسله إلى وزارة الصحة.. وبدأ التفاعل معه كل على قدر استطاعته منهم من بكى لحاله وسأل الله فى صلواته أن يدبر لها المدبر القادر الكريم الرزاق.. ما تسترد به ابنها من وعكته التى تهدد حياته الشابة.. اتصلت وزارة الصحة وحولتها إلى مستشفى آخر.. وكما ابتهجت انطفأت شمعة الأمل فى يدها وقلبها.. وهم يعتذرون لان المفاصل فى هذا التوقيت باتت من الاحلام.. وهمس لها طبيب ابن حلال: يا مدام انت تبحثين فى المكان الخطأ لان قوائم الانتظار فيها ما يكفيها.. والمفاصل تأتى بالاستيراد وقد عطلته ظروف الحرب وأزمات العملة الصعبة وقبلها جائحة كورونا التى شلت حركات الموانئ واصابتها فى الصميم.. وخرجت من المستشفى على عكس ما دخلت.. لكن المكالمة التى تلقتها من رجل مجهول ردت إليها شيئا من الضوء فى نفق شديد الظلمة والاحباط.. كلمها دون أن يفصح عن اسمه.. وفى اليوم التالى كان يرسل لها حوالة بـ ٤٠ ألف جنيه ثم اتصلت بها مندوبة احدى الجمعيات الخيرية وأعلنت عن رغبتهم فى مساعدتها واتصلت الجمعية بطبيب متخصص فى هذه العمليات وأكد لهم أن المبلغ بدون اتعابه مائة ألف مما تعدون قيمة المفصل ولوازمه.. وانطفأ الضوء أمام الأم مرة أخرى.. وكأنها مثل اسهم البورصة تعلو فى لحظة وتهبط إلى أسفل السافلين فى اخرى وسبحان من له الدوام تتقلب بين السخن والبارد.. وخلال ٤٨ ساعة كان المبلغ قد اكتمل وتحددت العملية.. والانسان يصبح عظيما بقدر ما يعمل لصالح غيره فى الانسانية.. ولله جنده يعيشون بيننا ولا يعلنون عن أنفسهم لكننا نجدهم عند الشدائد حتى قبل أن نستغيث!
(فاصل)
(وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ) (الانعام ١٧/١٨)
(بالجرام والطن)
لا تكن إمعة فى قطيع تمشى خلف ما يفعلون معصوب العينين لأن جميعهم يفعلون، واعلم أن الذهب على ندرته نشتريه (بالجرام).. والنفايات على كثرتها نتخلص منها (بالطن). فهل تستطيع أن تكون نفسك؟!