أحمد عزيز الحسين يكتب: صورة دمشق فى روايات هانى الرَّاهب.. شرْخٌ فى تاريخ طويل نموذجاً

أحمد عزيز الحسين يكتب :  صورة دمشق فى  روايات هانى الرَّاهب: شرْخٌ فى  تاريخ طويل نموذجاً
أحمد عزيز الحسين يكتب : صورة دمشق فى روايات هانى الرَّاهب: شرْخٌ فى تاريخ طويل نموذجاً

أنجز هانى الرَّاهب (1939- 2000) خلال حياته المُثرِية تسعة أعمال روائيّة: المهزومون (1961)، وشرخ فى تاريخ طويل (1970)، وألف ليلة وليلتان (1977)، والوباء (1981)، والتّلال (1988)، وبلد واحد هو العالم (1985)، وخضراء كالغابات (1990)، وخضراء كالمستنقعات (1992)، و(رسمتُ خطًاً فى  الرِّمال (1999)، وخضراء كالبحار (2000)، وقد جعلتْه هذه الأعمال قارّة روائيّة كاملة، وأهّلته لأن يكون قامة سامقة فى الإبداع الرّوائيّ العربيّ، وذهب بعضهم إلى أنّ روايته (الوباء) تُعَدُّ واحداً من أفضل مئة نصٍّ روائيٍّ عربيٍّ صدر فى القرن العشرين.


فى روايته الأولى (المهزومون) كتب هانى  الرّاهب عن غربة جيل ما قبل الوحدة فى سورية، وعن حيرته وتمزُّقه وضياعه وإفلاسه، ورصد فى (ألف ليلة وليلتان) انعكاس هزيمة يونيو على حياة جيل ومصير أمّة، وتابع فى روايته المفصليّة (الوباء) صعودَ الشّريحة الرِّيفيّة وتسيُّدَها.

وكتب فى (بلد واحد هو العالم) عن انبثاق البنية الاجتماعيّة الذّيليّة وهيمنتها وانتهازيّتها وتبعيّتها للولايات المتّحدة الأمريكيّة، وصوَّر فى (التِّلال) ما آل إليه حال الدّولة الوطنيّة العربيّة بعد الاستقلال فى ظلّ الانقلابات العسكريّة المتتالية، والصِّراع المحتدم بين شرائح البرجوازيّة الوطنيّة والإقطاع والجيش للاستيلاء على السُّلطة.

وانعكاس ذلك على حياة الشَّعب المُبعَد عن صنع القرار؛ أمّا فى روايته الأخيرة (رسمتُ خطًا فى الرّمال -1999) فقد أقام مبناه الحكائيَّ المفتوح على حدث محوريّ هو حرب الخليج.

وجعل هذه الحرب تستأثر باهتمام الأصوات فى  نصِّه؛ إلا أنّه حرّر وقائع متنه الحكائيِّ من نظام التّتابُع الزّمنيّ، وأناط بلغته أن تكون بنية بديلة تحلّ مكان الحدث والحوار والشّخصيّات، وتنهض على تعدُّد الأنساق والنّماذج لا على الشّخصيّات التّقليديّة؛ ولذلك فارقت لغته التُّراث الواقعيّ، وجاءت روايةً تخييليّة بامتياز. 


 مدينة معادية أم أليفة 
امتلكت أعمال هانى الرّاهب، بشكل عامّ، نوعاً من الرّؤية الموحّدة، أو فى الحدّ الأدنى، رؤى متقاربة لمدينة دمشق، تلخّصتْ فى التزام نوع من الموقف العدائيّ العريض للمدينة وعوالمها المختلفة.

وحين يبدو فى  بعض الرّوايات أنّ الشّخصيّة الرّئيسة فى  الرِّواية تُظهِر شيئاً من التّعاطف مع المدينة، أو تُظهِر استمتاعها بالفضاء الاجتماعيّ الذى  تعيش فيه؛ فإنّ ذلك يأتى  غالباً فى  أحدِ إطارين: يتمثَّل الأوَّل فى  أنّ المتعة هى مجرّد متعة مؤقّتة وظاهريّة.

وسرعان ما تنقلب إلى نقيضها، بعد أن يكتشف الذى  كان غارقاً فى  متعته بطلان ما كان يفعل، وكذلك نجد شيئاً مماثلاً فى (ألف ليلة وليلتان) حين يظنّ المحافظ عباس أنّه ظفر بزوجة (طلعت بك)، وضحك منه، ولكنّ الحقيقة، كما تُظهِرها الرّواية فيما بع.

أنّ (طلعت بك) قدَّم زوجته طعماً وهديّة للمحافظ، وحصل لقاء ذلك على أرباح خياليّة، ويتمثّل الثّانى  فى عدِّ بعض المتع، التى  تعيشها بعض الشّخصيّات الرّئيسة أو الثّانوية، نوعاً من العبث المجانيّ، والانتحار البطيء، المتمثِّل فى  الإسراف المبالغ فيه.

وفى تناول الكحول والتّبغ، والإسراف أيضاً فى الإقبال على ممارسة الجنس خارح إطار العلاقة العاطفيّة أو الشّرعيّة مع الزّوجة؛ حيث تمتلئ (شرخ فى تاريخ طويل) بمثل هذه الإسرافات، ويكاد أبطال (الزمن الموحش) لحيدر حيدر لايفعلون شيئاً خارج التّسكع اليوميّ، ومعاشرة النّساء، والتّفجُّع على أنفسهم وعلى كلّ شيء.


 شرخ فى  تاريخ طويل (1970)
تنزع هذه الرِّواية إلى نوع من تغييب الوصف المشهديّ والحياتيّ للمدينة وأجوائها، وتجرى  معظم أحداثها فى  (قبو) تحت الأرض تقطنه مجموعةً من الأصدقاء القادمين إلى دمشق لمتابعة التّحصيل العلميّ، أو التّطوُّع فى  الجيش، أو أداء الخدمة الإلزاميّة. ويخرج هؤلاء السّاكنون إلى المدينة.

ويعودون إلى  القبو، وما نعرفه عن ملامح المدينة نستنتجه من خلال انطباعاتهم وأحاديثهم التى  يتبادلونها، وتعليقاتهم، والتّندُّر أحياناً بخيباتهم، أو بقصّ بعض خيباتهم وفشلهم فى  التّواصل مع ما تضجّ المدينة به من حياة وإغراءات على مختلف الصُّعد.

والسّبب يعود فى الرّواية إلى الفقر الشّديد الذى  حمله هؤلاء من أريافهم، وجاؤوا به إلى المدينة ليواجهوا عالماً قاسياً لا يفتح ذراعيه إلاّ لأولئك الذين يملكون المال. 


ويعيش «أسيان» (الكاتب الضّمنيّ فى الرّواية) أكثر من علاقة، ولا يبدو، فى  الرّواية، أنّ العلاقة الأساسيّة المستمرَّة أكثر من سواها، علاقة عاطفيّة لا تتجاوز فيها رغبة المحبّ حدود جسد التى يحبُّها.

وتجرى أحداث هذه العلاقة فى  القبو، أو فى  داخل الغرف المغلقة، وينسحب بالتّالى  عالم المدينة إلى ما تشعر به (لبنى) من خوف مستمرّ مردُّه إمكانيّة اكتشاف علاقتها مع عشيقها؛ فتخسر حياتها الرّغيدة، ولا تربح إلا الفضيحة والتّسفيه الاجتماعيّ.

والعلاقة الأولى التى  تنطلق الرّواية منها لم تمكنّا الرّواية من تبيان ملامحها بدقّة؛ فهناك شابّة انتحرت اسمها (مرام)، ومقبرة موحشة فى قلب المدينة، وكأنّ المدينة كانت مقبرة، واستمرّت كذلك من خلال استمرار بقيّة الأحداث فى  قبو تحت سطح الأرض.


وما يؤكِّد نزعة الرّواية إلى تصوير دمشق بوصفها مقبرةً أو امتداداً للمقبرة، التى  بدأت الرّواية من العودة منها، أنّ الذين يعيشون فى  الطّوابق العليا، وينتمون إلى الشّرائح الاجتماعية العليا، لم نجد أيّ ذكر لافت أو مفصَّل لهم فى  الرّواية، أمّا الشّوارع.

والتى  كثر حديث الرّواية عن تجوُّل شخصيّاته فيها، فبدت مقفرة؛ إمّا لأن السّير فيها كان يتمّ فى  ساعات متأخّرة من اللّيل، ويتخذ شكل التّسكُّع، والشّوارع فى  اللّيل المتأخِّر شوارع خاليةٌ بشكل عامّ أو طبيعيّ.

وإمّا لأنَّ شخصيّات الرّواية منشغلة عمّا حولها بما يجيش فى نفوسها من عوامل القهر والحرمان، والإحساس بالغربة والهامشيّة؛ فلا يستطيع أمثال هؤلاء أن يروا فى  الشّوارع المكتظَّة سوى أزماتهم وعنائهم الفظيع.

وعندما تمتدُّ تأمُّلات إحدى الشّخصيّات إلى ما تشاهده فى  أثناء التّجوال فى الشّوارع الليليّة الخالية؛ فإنّ ذلك يقتصر على تأمُّل سيّدة جميلة غادرت منزلها وهى فى ثياب النّوم لوضع القمامة فى  الشّارع؛ فيغرق (أسيان) فى الأسف على أن تضطَّرَّ هذه السّيّدة النبيلة إلى رمى  القمامة فى الشّارع.

وبينما الأجدر بها أن تنأى بنفسها إلى إحدى غرف قصرها مترفِّعةً عن التّلوُّث بما تقتضيه الحياة اليوميّة من مشاغل وأعمال، وكأنَّ الرّواية تحصر وظيفة الجمال المدينيّ فى تلبية رغبات الظّامئين إليه.

وفى  مجرَّد الاستجابة لرغباتهم الشّبقيّة المتأجِّجة؛ فى  هذا المشهد يمتزج الاشتهاءُ بالمرارة والسُّخرية اشتهاء كلّ ما حُرِم منه المعدَمون من أبناء الأرياف، على مختلف الصُّعُد، وليس على صعيد المرأة والجنس وحسب، ومرارة العزلة التى  تفرضها الحياة المدينيّة.

وعلى أولئك الذين لا يملكون الأهليّة الماليّة للتّمتُّع بخيرات المدينة وامتيازاتها، والنّهل ممّا تزخر به من جمال وإغواء؛ والسُّخرية من جملة المفارقات التى  تزخر بها الحياة فى  المدن المكتظّة بالمتناقضات؛ والسُّخرية من الحياة التى  جعلت النّاس نصفين: نصفًا هوى إلى القاع.

ونصفاً اعتلى السّدّة الاجتماعيّة، مع ضرورة ملاحظة الكيفيّة التى  تستطيع الشّرائح الميسورة من خلالها فرضَ الفقر على الآخرين، وجعلَهم يقومون بجميع الأعمال الوضيعة التى  يأنفون من ممارستها؛ بحيث يبدو أنّ ما أقدمت عليه السّيّدة الدمشقيّة من رمى  القمامة فى  الشّارع، غلطةً أو نوعاً من الخرْق للنَّسق المهيمِن فى  شوارع الأحياء الرّاقية النّبيلة.


 الشّخصيّات وفضاء المدينة السّريّ
وتطغى معالم الرّتابة والسُّكون والهدوء على المدينة المُتخيَّلة فى  هذه الرّواية، ويعشِّش العنكبوت فى  فضائها، وتحاول الشّخصيّات اختراق فضاء المدينة والدُّخول فى  نسيجها فتخفق؛ إذ تقف المدينة جداراً أمام الشَّخصيّات.

وتمنعها من الولوج إلى حيّزها السِّريّ، أو تتيح لها أن تقيم علاقة مع بعضها بعضاً فى  أمكنة عامة كالشّوارع والمقاهي، أو فى  أمكنة انتقاليّة هامشيّة خاصّة كالقبو؛ ولهذا نجد أنّ الشّخصيّات تعلن تذمُّرَها من هيمنة الأماكن المغلقة على حياتها.

وعلى فضاء المدينة: «يا جماعة، ما هذه المدينة؛ أليس فيها محلٌّ للجلوس؟ كلُّه داخل جدران؟ فى البيت، فى الجامعة، فى الباص والسّينما». وحتّى حين تغادر هذه الشّخصيّات الأمكنة المغلقة إلى الشّارع ؛ فإنّها لا تفرّج عن نفسها.

.ولا تخفِّف من كرْبها، إذ لا يتاح لها أن تلتقى فى الشّارع بمن تتحدّث إليه، أو تقيم معه علاقة إنسانيّة حميمة؛ ذلك أنّ الشّوارع توظَّف، فى الرّواية، للتّسكّع والعبور السّريع من مكان إلى آخر.

وليس بوصفها وسيلة اتّصال، وحين تنعدم الحركة فى الشّوارع ليلاً، وتشعر الشّخصيّة بحاجة ماسّة إلى الاتّصال بالبشر والحوار معهم؛ فإنّها تلوذ بالخيال بدلاً عن الواقع.  


 بنية الدّائرة 
تصف الرّواية شوارع دمشق بأنّها مقفِرة، جرداء، مُضيِّعة، مغلَّفة بالصّمت والوحشة، خالية من الحياة دوماً، وقد تصفها أحياناً بأنّها «مُغلقة»؛ لكى تزيد من وتيرة غربة الشّخصيّة وعزلتها الرّوحيّة.

ولا يجدى هذه الشّخصيّات نفعاً حين تلجأ إلى الأزقّة الشّعبيّة المعروفة باكتظاظها البشريّ، ذلك أنّ أزقّة الرّواية تبدو حزينة، مقفِرة، ولا حركة فيها، كما يبدو «مقهى الهافانا» فى الرّواية حيّزاً للغربة والعزلة الرُّوحيّة، لا مجال فيه للحوار أو تزجية الوقت؛ ولهذا لا تجد الشّخصيّة متنفَّساً لها فى  حيِّزه.

أو حتّى إمكانيّة لإقامة علاقة اجتماعيّة عابرة؛ فتضطّرَ للعودة إلى قبوها مكرَهة، وحين تقصد إحدى الشّخصيّات المقصف الجامعيّ بغية الحوار المستنير المثمر؛ تكتشف أنّه هو الآخر حيِّزٌ للثّرثرة والاغتراب؛ فتعزف عنه، وتعود من حيث أتت.

أمّا الجامعة، التى وُصِفتْ فى بداية الرّواية، بأنّها المكان، الذى يبدأ منه العالم؛ فتغدو، فى  السّياق الرّوائيّ، حيِّزاً يخيِّم عليه الجهل والنّظرة الدُّونيّة إلى المرأة، والتّزمُّت الفكريّ، والتّعصُّب الدّينيُّ؛ ولهذا لا تجد الشّخصيّات نفسها فى حيّزه؛ فتقفل منه عائدةً إلى القبو من جديد بحركة دائرية مستمرّة.

 القبو مكاناً خاصّاً وحميماً
والواقع أنّ القبو هو المكان الوحيد الذى  احتضن شخصيّات الرّواية بألفته وحميميّته و«اتّساعه الأبويّ»، وهو المكان الوحيد الذى أتاح لها أن تلتقى  وتتحاور بحريّة، وتعيش على هواها.

أمّا الأمكنة الأخرى فكانت معادية للشّخصيّات؛ ولهذا تبدو إقامتها فى القبو نوعاً من الإقصاء والتّهميش تمارسه المدينة ضدّها؛ كما أنّ الشّخصيّات لم تحسن التّعامُل مع القبو بوصفه بيتَها الأليف وكونها الخاصّ إلا لفترة قصيرة.   


ولقد كان القبو بالنّسبة إلى (أسيان) أفضل مكان فى العالم؛ إذ عثر فيه على شيء من ذاته، ووجد فيه «فسحة صغيرة مطمورة فى الأرض، يتحدّث داخلها إلى البشر ويحلم بهم».

وغسل فيه «الانفعالات العابرة»، التى  كانت تتأجّج فى  صدره، كما كان المكانَ الحميم الذى  مارس فيه الجنس مع مرام  ولبنى، الغريبتين عن دمشق،  و«ميدانَ النّفس الفسيح» الذى  يتألّق فيه كزهرة مغسولة بالضّوء.    


كان «أسيان» مدركاً الفارق بين عيشه فى القبو وعيش الآخرين فى  الطّوابق العليا، وكان يحسّ بأنّ المدينة تمارس ضدّه نوعاً من التّهميش حين تُقصِيه إلى «قعرها»، وترغمه على القبول بالأمر الواقع:»جميع هذه الأبنية والبيوت والأبنية فى مدى العين.

ونحن هنا فى قعر دمشق، قعر البشريّة، فى سريرها وسرّها». أمّا زميله «مسعود» فلم يطق صبراً على البقاء فى القبو بعد أن دنّس «أسيان» قدسيّته : «هذه الغرفة معبد، وأنت تفتح شبّاكها لأصوات أحذية النّساء العابرات وللرّيح»، وطلب نقله إلى مدينة السُّويداء، بعد أن أخفق فى  الحصول على غرفة فوق سطح الأرض، فى  حين ظلّ «أسيان» يلوب فى  شوارع دمشق وأحيائها.

بحثاً عن ملاذ يقيه مرارة الغربة والعزلة، حالماً بإقامة علاقة حقيقيّة مع امرأة دمشقيّة تُنسِيه آلام الغربة والتّسكُّع، وتساعده على اختراق فضاء دمشق والدُّخول فى  نسيجها الاجتماعيّ؛ لكنّه اكتشف أنّ المدينة جدارٌ يسدُّ عليه الطّريق أنّى ذهب.

ويمنعه من الولوج إلى عالمها السري: «كلُّ شيء أمامك، ويقف كالجدار، كالتّرس: الشّوارع، الشّجر، المحلات العامّة، كلّ المدينة جدار يقف ضدّك»، وحين تعزّ العلاقة العاطفيّة مع امرأة دمشقيّة مُحبّة يلجأ «أسيان» إلى جارته «فوزيّة» يشترى منها الحبّ، وهو مدرك تماماً لنوعيّة العلاقة معها :»فوزيّة أيضاً تحت العين واليد، وفى  المرآة، العاهرة من ضمير المدينة».

وبعد أن يطفئ شهوته، ويسكت جوعه الجنسيّ؛ يلوب مرةً أخرى حالماً بامرأة فى  بيت، وبيت مليء بالأشياء الصّغيرة، وبزمن مطمئنّ؛ ولكنّه يخفق بعد أن يكتشف أنّ دمشق ليست سوى «صندوق»، و«مدينة سريّة عجيبة، الجنس بابها»، ويحسُّ بالخذلان والضّعف، وينظر إلى القبو فلا يرى فيه إلّا «مقبرة»، بعد أن غادره زميله الآخر «أبو خالد»، وآثر مسعود قبل سفره إلى السُّويداء أن يجعله مكاناً للنوم فقط.

وهكذا صار «شبه مهجور بغير ضوضاء ولا حركة»، وخيَّم عليه الهدوء؛ فلم يعد «أسيان» يطيق البقاء فيه، وصار يخرج منه «هارباً إلى الأرصفة، مفكِّراً ب(مجد) كملاذ أخير»؛ بعد أن آثرت لبنى تركه، والعودة إلى زوجها وولديها، منسجمةً مع ما أعلنته لأسيان ذات يوم من أنّها تحبُّ الحضارة ومنجزاتها، وتعدُّ البساطة غباءً واختزالاً للحياة.

واجدةً فى  نمط الحياة التى  يؤمّنها زوجُها راحتَها وطمأنينتها. وبإخفاق الشّخصيّات فى  تحويل القبو إلى مكان أليف دائم، يقيها مرارة الغربة، ويوفِّر لها الأمان والاطمئنان؛ تعلن الرِّواية أنّه لم يبق لهذه الشّخصيّات الوافدة «مكانٌ» فى  دمشق، حتّى لو كان «قبواً» لا يصلح للسّكن.

وتؤكّد أنَّ من حظى  بمصاهرة دمشق والسُّكنى فى طابق ثالث ك «مجد» زوج الدّمشقيّة «شجن»؛ لن يُقيَّض له الاستمرار؛ لأنّه ليس مؤهَّلاً لذلك. وبالفعل يعلن «مجد» أنّه سيهاجر إلى أفريقيا؛ مؤكِّداً للجميع أنَّ «الشكل الأمثل للحياة هو نوع من البدائيّة الصّافية»؛ لأنّنا ابتعدنا عن الفطرة وتلطّخنا بالمدينة، ولا سبيل لنا للخلاص إلا بالعودة إلى «الفطريّة الإنسانيّة الأولى.

وبعد أن رعانا الجهل وإرث الحضارة المعلَّب»؛ وهكذا لم تستطع الشّخصيّات الرِّوائية أن تجد موطىء قدم لها فى  المدينة، وانتهى بعضها إلى السِّجن، أو الانتحار، أو السّفر، أو الهرب، أو الضَّياع. 


لقد أخفقت الشّخصيّات فى إقامة علاقة اجتماعيّة متكاملة ومتوازية فى فضاء المدينة، وطغى الانغلاق على أمكنة هذا الفضاء، بحيث لم تفسح شوارعها وأزقتها المفتوحة المجال لهذه الشّخصيّات كى  تلتقى  وتتحاور.

كما لم تكن هذه الشّوارع والأحياء فضاء اجتماعيّاً يلتقى  فيه النّاس، وينسجون علاقات اجتماعيّة حميمَة، أمّا الجامعة فقد أخفقت هى  الأخرى فى إنتاج نماذج متوازنة وفاعلة، وقُدِّمتْ بوصفها فضاءً يرتع فيه الجهل والتّزمُّت والغيبة والثرثرة.


 من البنية النّصيّة إلى البنية الاجتماعيّة
لقد بدت المدينة بمجملها فضاء انفصلت فيه الشّخصيّات عن سياقها المكانيّ والزمانيّ، ولم تلتق، مثلما انفصلت سورية عن مصر فى  نهاية الرّواية، ولم تفعل الشّخصيّات شيئاً إزاء ذلك سوى أنّها أوصدت باب إحدى الغرف عليها.

وشرعت فى البكاء والتّفجُّع؛ وهكذا اختارت المكان المغلق مرّة أخرى لتستطيع التّعبير عن مشاعرها؛ ما وشى بعودتها إلى العزلة والانكفاء والتّقوقع من جديد.


والواقع أنّ انفصال الشّخصيّات عن المدينة تزامَنَ مع انفصال سورية عن مصر؛ معلناً فقدان الشّيء الوحيد الذى  كانت شخصيّات هانى  الرّاهب تطمئنُّ إليه، ألا وهو انتماؤها السّياسيّ، ومن هنا كان اسم «أسيان» تكثيفاً لرؤية الرّواية ككلّ؛ مثلما كان «بشر» فى «المهزومون» تكثيفاً لرؤية «المهزومون»، كما يرى محمد كامل الخطيب.


 مرتكزات أخيوليّة 
تميّزت الرّواية على الصّعيد الفنيّ بشاعريّة، وكثافة متفرِّدة، ولغة جيّدة، واتّسمت بواقعيّة قاسية ارتقت إلى مستوى جيّد من الصّدق والأصالة. وقد نزع الكاتب فيها إلى تحديث تقنيّاته السّرديّة؛ فاستخدم التّقطيع، والصّورة الفيلميّة، وتداخل الأزمنة، والاسترجاع أو الخطف خلفاً، متبنِّياً الرُّؤية البانوراميّة فى  العرض، مستخدماً الوصف الدّقيق للحياة اليوميّة المبتذلة التى  تعيشها الشّخصيّات.

والتى  لا تسجِّل من خلالها أيّ حركة داخل الزّمن.  كما أقبل بشغف على لعبة الضّمائر والملصقات، دالاًّ عبر ذلك على رؤية تركيبيّة للواقع، هى التى دفعت عبر تاريخ التّطوُّر الفنيّ إلى محو الحدود بين الأجناس الأدبيّة.

ولئن بدت الملامح التّجريديّة السّابقة إنكليزيّة النّسب؛ فإنّ للرّواية الفرنسيّة الجديدة حضورها فى تقنيّات هانى  الرّاهب السّرديّة، من خلال التّدقيق فى  التّصوير.

وإمّحاء الحكاية أمام هيمنة الوصف، وتفتيت الحدث، وقد أتى هذا منسجماً مع أعلنه هانى الرّاهب منذ عام 1965، من أنّ المسؤوليّة الفنيّة الكبرى للرّواية هى: تقديم اللغة ككائن حيّ نحو الأشياء، وتفتيت الحادثة إلى شعور ومواقف، وشخصيّاتٍ ومعانٍ، وتقليص الحوار إلى درجة إعدامه، كما يقول نبيل سليمان بحقّ.

اقرأ ايضاً | شحاتة يتابع ملف تعويضات حرب الخليج ويوجه بسرعة صرف المستحقات

نقلا عن مجلة الادب : 

202302012