محمود الريماوى يكتب : ألعاب أولى.. أوراق الطفولة

محمود الريماوى يكتب : ألعاب أولى.. أوراق الطفولة
محمود الريماوى يكتب : ألعاب أولى.. أوراق الطفولة

اللعب أمام عنابر السجن 

إضافة إلى مخفر المدينة الذى يقع فى قلب السوق وأمامه شارع معبد عريض تعبره المركبات على قلة عددها، فقد كانت هناك المقاطعة وهى مركز أمنى كبير ببناء متين وقديم وتقع فى مدخل المدينة على الشارع الرئيسى الذى يؤدى إلى مخيم عقبة جبر، وإلى البحر الميت ومدينة القدس، كما يؤدى فى الاتجاه المعاكس إلى قلب مدينة أريحا.


 المبنى الفسيح المهيب المحاط بالأسوار، والذى لا تجاوره أية أبنية مما يجعله يتسيد المشهد، لطالما جذب أنظار الإعجاب إليه رغم أنه يستخدم لأغراض أمنية فحسب ويضم سجنا. إذ أن جمال المبنى وعراقته كان يثير بحد ذاته الإعجاب. وقد سبق للبريطانيين أن استخدموه فى أثناء انتدابهم على فلسطين والأردن ابتداء منذ العام 1917.


 ولم يكن أحد ليدخل المبنى سوى رجال الشرطة أو نزلاء السجن أو من يزورون النزلاء. على أنى تمكنت من زيارته فى سن السابعة أو الثامنة ولأكثر من مرة، فبما أنى على صداقة مع أحد تلاميذ الصف.

وبما أن عائلة هذا التلميذ الذى لم أعد أذكر اسمه تقيم فى مبنى المقاطعة الذى كان يتوفر على مساكن قليلة لمسؤولى الشرطة المولجين بالعمل فى المبنى.. فقد دعانى صديقى لزيارته هناك، وقد لبّيت الدعوة من غير تردد أو وجل، ثم تكررت زيارتى له لعدة مرات متقاربة زمنيا. 


ما الذى يسعنا فعله هناك؟ بالنسبة للطفل فإن الأكثر أهمية من أى شىء آخر، هو كون المبنى يضم مسكنا لعائلة الطفل الصديق. كنت أجد الصديق فى انتظارى عند البوابة الخارجية ما يجعل الشرطى الحارس يفسح لى المجال للدخول وبترحاب.

ومن المدخل الخارجى ننطلق إلى البوابة الداخلية ومنها ننعطف يمينا إلى حيث يسكن أهل التلميذ الزميل. كنت أمكث لأقل الوقت فى بيتهم، إذ نسارع (وفى كفّ كل منا شيئ نأكله مكرمة من أم التلميذ) للخروج للعب فى ممر طويل عريض ونظيف.

يعبره عدد ضئيل من الأشخاص، نتراكض ونتمشى، ونقوم بألعاب ثنائية مرتجلة نبتدعها فى لحظتها كما هو دأب الصغار فى لهوهم، ونمضى معا وقتا بهيجا. ثم أغادر قبيل ساعة الغروب راكضا إلى الشارع الرئيسى ومنه أنعطف إلى اليمين حيث تبدأ منطقة كتف الواد، وأمرّ ببعض البيوت أبرزها بيت أبو نصار السلطى قبل أن أواصل طريقى عائدا إلى بيتنا.

لكم تبدو ذكرى المقاطعة جميلة ببالى.
 المقاطعة التى تضم سجنا كبيرا وعلى الأغلب بعدد قليل من السجناء، وهو السجن الذى كنا: صاحبى وأنا نراه مكانا ممتازا ومثاليًا للعب، نلهو ونلعب أمام ممراته النظيفة ومداخله الواسعة وغرفه المحكمة الإغلاق، بدون أن يبرز لنا ولد مشاكس من ركنٍ ما كى يقاسمنا اللعب عنوة، أو رجل غاضب يطردنا من المكان، فيما نحن فى تلك الخلوة هانئا البال لا يكدر صفونا شىء.


 يا لبراءتنا. 
 يا لسذاجتنا وقلة حيلتنا.
 ويا لسعِد أريحا فى ذلك الحين، إذ كانت تضم مركزيين أمنيين هما المخفر والمقاطعة، لا مركزًا واحدا. 


وفى الزمن اللاحق لم تنعكس الآية، لكنى أدركت كم أن السجون كريهة رغم الحاجة الاجتماعية لها، وأنها إذ تضم عُتاة مجرمين ومتجاوزين خطرين للقانون يستحقون الاحتجاز، فإنه فى الوقت ذاته «يا ما فى الحبس مظاليم».

 

كرة القدم ليست لعبة

كنت ألعب الكرة بحميّة واندفاع فى موقع الهجوم ويعجبنى أن أقف باختيارى حارس مرمى. لم تكن اللعبة لتحتاج مهارات خاصة، اللهم سوى تحمل عناء الركض ذهابا وإيابا بيد أن أحدنا ما أن يدركه تعب حتى يقتعد أرض الساحة لنيل قسط من الراحة وهو يضحك على نفسه لقلّة تحمّله.

وإلى أن غيّرت فكرتى عن لعبة الكرة وكنت فى نحو العاشرة من عمرى. فقد تسنى لى أن أشهد مباراة كرة قدم بين فريق مدرسة هشام وفريق ضيف أتى من إحدى المدن، وتجرى المباراة على أرض نادى عقبة جبر التابع لوكالة الغوث، فمدرستنا تتوافر على ملعب لكرة السلة، وملعب آخر لكرة الطائرة، أما لمباريات كرة القدم فيتم اللجوء إلى ملعب نادى المخيم. 


ووقفت مع أتراب لى أتفرج على المباراة بمحاذاة خط اللعب فلا مدرّج ولا من يدرجون. وقد خرجتُ من الفرجة فى وقفتى تلك بملاحظة ثمينة جعلتنى أعيد النظر فى كرة القدم.
 وبما أن اللاعبين يلعبون على مبعدة متر واحد منا نحن المتفرجين الصغار.

فقد لاحظت أنهم يركضون بسرعة صاروخية، العرق يتصبب من جباههم ومن صدورهم ومن تحت آباطهم، وصوت لهاثهم يكاد يكون مسموعا، وحين يرتطم أحد اللاعبين بشدة بالآخر فإننا نلحظ بوضوح ألم الصدمة على تقلصات ملامح أحدهما أو كليهما.

ومن يرتكب أدنى خطأ فإن الحكم يكشفه، ووقتها أدركت أن كرة القدم ليست لعبة نلعبها على هوانا وعلى سجيتنا كما كنا نتوهم، بل هى تنافس عنيف شديد الجدّية يحتاج لمهارة عالية، وسرعة هائلة، وقدرة بدنية جبارة على تحمّل الإرهاق والألم، فاللاعب يلعب برأسه وبصدره وبأنفاسه وليس بقدمه فقط. وقد أخبرت أترابى بما عاينته.


 وكان من نتيجة ذلك أننا أصبحنا ونحن نلعب فى ساحة الحارة نتمنى أن لا يراقب أحد لعبنا العشوائى، فمقارنة بتلك المباراة فإن لعبنا هو حقا لعب أولاد، مع وعود ذاتية بأن نتدرب جيدا، ونتقن مهارة اللعب ما أن نكبر وهى وعود سرعان ما طواها النسيان فقد أحببنا «اللعب» لاحقًا فى ميادين ومجالات أخرى.


 لعبة المشى على الحافة 
ثمة جسر قديم ومتين وما هو بجسر يمتد فوق وادى القلط ويربط شمال المدينة على ضفتى الوادى. إنه قناة علوية قديمة على هيئة جسر بارتفاع نحو عشرة أمتار، تجرى عبرها المياه التى تروى البساتين بإشراف البلدية.

ولا يستخدمه أبناء المدينة للتنقل، غير أن الأطفال الأشقياء مثلنا لا يلتزمون بهذه القاعدة. عرض القناة الجسرية لا يتعدى متر ونصف المتر، القناة فى الوسط بعرض متر، وكل من الحافتين على جانبى القناة لا يتعدى عرض الواحدة منها ربع متر.

وحين تكون المياه جارية وهادرة فى الوادى خلال فصل الشتاء فإننا لا نعبر الجسر القناة مخافة السقوط والغرق فى مياه الوادى العكرة المتلاطمة. أما خلال فصول الثلاثة الأخرى فإننا نعبر الجسر بالمشى على الحافة، تملؤنا النشوة والغرور لعبورنا تلك الحافة العلوية الضيقة وعلى ذلك الارتفاع.

وكنا نحاذر فى المشى من السقوط فى مياه القناة التى تتخذ شكل حرف  u بالانجليزية، والتى لا يزيد عمقها على 50 أو 60 سنتيمترًا، ولم يحدث أن سقط أحدنا فى الماء، إذ كنا نعبر عادة بالتتابع القريب ضمن مجموعة من ثلاثة أو أربعة أصدقاء.

ولو أن أحدًا قد سقط فى الماء الذى يجرى هينًا، لكنا عرفنا بأمره وانتشلناه، أما مشينا على تلك الحافة العلوية ومخاطر سقوطنا من ذلك الارتفاع إلى الوادى بحجارته البيضاء بمختلف أحجامها فلم يكن يقلقنا، فالتركيز كله على تفادى البلل بالوقوع فى ماء القناة والذى يكشف شيطناتنا أمام أهالينا.


 ولم نفعلها مرة أو مرتين، بل لعشرات المرات وعلى مدى سنوات متلاحقة هى سنوات الطفولة والفتوة. وهى أشبه بمشية على حبل علوى فى سيرك، ولكن من دون حمل عصا بوضع أفقى لضمان التوازن، إذ كان التوازن قائما فى داخلنا، بالثقة التامة والمفرطة بالنفس.

مع الرغبة فى التنافس والمشاركة بين الأصدقاء إذ لم يكن أحد يتخلف عن عبور القناة العلوية بالمشى على حافتها، وكنا نرى فى عرض الحافة الذى يبلغ زهاء ربع متر، مساحة كافية كى يعبر واحدنا عليها واثق الخطو يمشى ملكا، قاطعا مسافة ثلاثين مترا تزيد أو تنقص قليلا.

وفى مشينا السعيد ذاك كنا نتبادل الحديث مع من يتقدمنا ومع من يتبعنا، فالخروج مع الأصدقاء لا يكتمل بغير إزجاء الوقت بالقفشات والمراهنات وتبادل معلومات وسوانح إلى أن نبلغ الضفة الأخرى.


ولم نكن نبلّغ أهالينا أين نذهب، فأريحا آمنة والناس تعرف بعضها بعضا، والمشى هو سلوك يومى ونمط حياة ورياضة الجميع صغارًا وكبارًا، ومن الطبيعى بل من المحيذ أن نمضى الوقت فى المشى هنا وهناك، وأن لا نؤوب إلى بيوتنا قبل أن تؤذن الشمس على الغروب فماذا عسانا نفعل فى البيت؟
 يقال إن فوبيا الأماكن المرتفعة، ترجع إلى صدمة سقوط أو إلى حادثة صعبة مثل الوقوع من علِ خلال سنوت الطفولة وأن آثار تلك الصدمة أو الحادثة تبقى غائرة فى النفس، تترسب وتتخمر وتؤدى إلى نشوء هذا الرهاب.

ومع ذلك فقد أصابني هذا الرهاب ربما فى العقد الرابع من العمر ومن دون تلك المقدمات، من دون صدمة سابقة، والدليل هو المشى الثابت على تلك الحافة العلوية لسنوات ومن دون السقوط عنها.

اقرأ ايضاً | ريم سيد حجاب تكتب: رسالة إلى بابا

نقلا عن مجلة الادب : 

202302012