يوميات الأخبار

يعقوب وغنيم.. وعاشق القمر

حازم نصر
حازم نصر

فى مدرجات القصر العينى كان اللقاء الأول.. بعدها تعددت اللقاءات.. اشتركا فى تخفيف آلام ومعاناة المرضى الفقراء فعزفا سيمفونية الحب لأهل مصر د.مجدى يعقوب ود.محمد غنيم.

مارس 2003

استقل ملك القلوب دكتور مجدى يعقوب الطائرة من لندن فى زيارة خاطفة لمصر لمدة 36 ساعة.. اشترك مع نخبة من أبرز أطباء العالم فى تكريم زميل الزمن الجميل فى مدرسة القصر العينى دكتور محمد غنيم رائد زراعة الكلى بالشرق الأوسط.

المناسبة كانت اعتزام الدكتور غنيم ترك إدارة المركز بعد مرور 3 سنوات من بلوغه السن القانونية، حيث اختار أحد تلاميذه لإدارته وهو الدكتور أحمد بيومى شهاب الدين الذى أصبح رئيسا للجامعة فيما بعد.

غنيم غادر إدارة المركز دون أن يغادره.. فقد واصل ـ ولا زال ـ رسالته النبيلة بعد أن تخفف من أعباء الإدارة بتفاصيلها وتشعباتها.. يبذل جهودا كبيرة فى رعاية المركز وأطبائه والعاملين به وتطوير وتحديث مدرسته العلمية التى تخرج منها أجيال متعاقبة أصبحوا من أمهر الأطباء على يديه.. كل ذلك يقوم به بالتوازى مع الأبحاث العلمية المتقدمة والتى ساهمت فى تطور جراحات المسالك البولية والكلى لتصبح مدرسته العلمية هى الأولى على مستوى العالم فى هذا المجال.. وكان أن نجح فى نقل الطب المصرى بها من المحلية للعالمية.

لازال د.غنيم حتى هذه اللحظة بعد أن شارف على الأربعة والثمانين عاما يذهب لمكتبه بالمركز يوميا ويتابع أبحاثه العلمية بجانب أنشطته الفكرية والاجتماعية والرياضية التى يمارسها بروح الشباب وخبرة وفطنة الحكماء.

نعود لعلاقة غنيم بيعقوب.. ففى مدرجات طب قصر العينى كان اللقاء الأول.. وعلى شاطئ النيل بمدينة المنصورة الساحرة كان لقاؤهما الحميمى منذ عشرين عاما.. جمعهما حب العلم والانتماء لتراب هذا الوطن فظل الود بينهما دافئا طوال هذه السنوات رغم أن أحدهما كان يقيم فى عاصمة الضباب فصار أشهر جراحى القلب فى العالم والآخر أصبح أشهر جراحى المسالك البولية فى العالم رغم إقامته فى المنصورة.

جمع بينهما حفل التكريم آنذاك والذى حرص د.يعقوب على المشاركة فيه ليجدد مع صديق العمر عهد الحب والوفاء.. ثم تكررت اللقاءات ولم تنقطع حتى اليوم حيث جمعتهما بعد ذلك عضويتهما بالمجلس الاستشارى لرئيس الجمهورية واهتمامهما المشترك بالتعليم والبحث العلمى وصحة المصريين.

كانا طالبين فى مدرسة قصر العينى ولم يدر بخلد أى منهما أن يحقق أكثر من حلمه بكثير.. فأحدهما امتلك مشرطا حريريا أعاد به تنظيم دقات القلب العليل والآخر امتلك مشرطا ذهبيا لإعادة الحياة لمركز الماء فى الجسم البشرى.. ورغم بعد المسافة اشتركا معا فى تخفيف آلام ومعاناة المرضى الفقراء فعزفا معا سيمفونية الحب لأهل مصر.

هل جال بفكر مجدى يعقوب وهو عائد من بلاد الضباب وقتها أنه سوف يلتقى على نيل المنصورة بصديقه الأصغر محمد غنيم زميل دراسته فى قصر العينى فى الزمن الجميل الذى ولى وبقيت منه الأصالة والحكمة ساكنة فى قلوب غنيم ويعقوب؟.. مرت الأعوام سريعا وكل منهما يطارد المرض فى جسد الفقراء ويعزف سيمفونية البحث الطبى فى معمله كآلهة الطب المصرى القديم.. تركا مباهج الحياة ووجدا أن تخفيف المعاناة عن المرضى الفقراء أسمى ما فى الوجود.

قصة نجاح غنيم تحكيها القلوب قبل الألسنة لكل من ذاق نعمة الشفاء داخل مركز الكلى بالمنصورة الذى يفد إليه المرضى من كل دول العالم، إنها قصة كتبها غنيم بالجهد والعرق، زرع فحصد، ابتكر جراحات فى مجال علاج سرطان المثانة وتحويل مجرى البول مسجلة فى المراجع العالمية باسمه وأول من زرع الكلى فى الشرق الأوسط .. فعل كل ذلك فى مصر رغم قلة الموارد وضعف بنية البحث العلمى بصبر ودأب ومثابرة ووضع حدا للأمراض الناجمة عن الإصابة بالبلهارسيا للفقراء.

ونجح يعقوب بإصراره على النجاح ومطاردة الأمراض التى تصر على إيقاف القلوب النابضة، مرت عشرات الأعوام وهو غريب عن أرض وطنه لإيمانه بأن وطن العالم معمله واكتشافاته.. ورغم أنه أصبح أشهر جراح للقلوب فى العالم إلا أن قلبه كان ينبض بحب فقراء مصر فعاد لوطنه ليقيم مركزه الفريد فى أسوان وشرع فى إقامة أحدث وأكبر مركز للقلب فى الشرق الأوسط بمدينة 6 أكتوبر سيفتح قريبا آفاقا واسعة لعلاج مرضى القلب فى مصر دون انتظار.
أجريت وقتها عدة حوارات « للأخبار» ولا أنسى ما قاله د.مجدى يعقوب لى:

غنيم أدهشنى بإسهاماته العلمية والطبية وزراعة الأعضاء وشرف لى أن أشارك فى تكريمه مع علماء العالم.

أما الدكتور غنيم فوصف يعقوب لى:

بأنه كان طالب علم مدهشا وعلى درجة عالية من الذكاء ومعرفة رائعة بالتشريح.

وهكذا أصبح غنيم ويعقوب طائرين يحلقان فى سماء العلم ويعزفان أنشودة للنجاح حتى اليوم ليس فى أسوان والمنصورة فحسب.. فقد أصبح كل منهما علامة على نجاح الإنسان المصرى إذا وثق فى قدرته على النجاح مهما كانت الإمكانيات فى الداخل أو الخارج وقد اتفقا على أن مصر لن تجد مكانا فى المستقبل إلا بالتعليم والبحث العلمى حيث سيمنحانها القوة الناعمة والخشنة إذا لزم الأمر.
مايو 2017

كان الدكتور غنيم مشاركا فى مؤتمر عالمى للمسالك البولية بهايدلبرج بألمانيا فى مايو عام 2017.. قدمه رئيس المؤتمر للمشاركين على أنه حضر من القاهرة ليتحدث إليكم، فإذا برائد زراعة الكلى بالشرق الأوسط قبل أن يلقى محاضرته العلمية يفاجئ الحضور ـ وهم من معظم دول العالم ـ قائلاً:
«لم آتِ من القاهرة ولكن من المنصورة إحدى مدن الدلتا المصرية»

وقدم نبذة تاريخية عن المنصورة وتسميتها بهذا الاسم لانتصارها على الصليبيين وجيشهم المكون من ٣ دول هى: (فرنسا وانجلترا وألمانيا) أو ما يسمى الآن بـ «الناتو» وتم أسر قائد الحملة الملك لويس التاسع.

واستطرد:

«لم يضعه أهل المنصورة فى جوانتانامو أو سجن أبو غريب لأن المصريين ليسوا أقوياء فحسب وإنما متحضرون كذلك فأودعوه فى بيت قاضى المدينة ابن لقمان».

رسالة العالم الطبيب ـ الذى لديه إلمام كبير بتاريخ وطنه وبالعمق الحضارى والعطاء الإنسانى لبلده ـ لامست قلوب وعقول الحضور فوقفوا يصفقون له طويلا.. وهكذا يحمل غنيم مصر بين جنبيه فى كل المحافل الدولية فهو لا يفارقها ولا تفارقه.
عاشق مصر والقمر

هذا الرجل يعشق مصر لأنها الوطن.. ويعشق القمر والمريخ لأنهما مجال عمله وأبحاثه.. ويذوب عشقا فى المشى على تراب الأرض التى شهدت ميلاده وتربى عليها بمحافظة الدقهلية.

العالم الكبير الدكتور فاروق الباز.. منحت جامعة المنصورة على مدار تاريخها الممتد لنصف قرن من الزمان الدكتوراه الفخرية لـ 5 قامات مصرية كان من بينهم حيث تم منحها له فى 30 من نوفمبر عام 2003.. التقيته بمكتب رئيس الجامعة وقتها الدكتور أحمد جمال الدين موسى الذى أصبح فيما بعد وزيرا للتعليم والتعليم العالى.. وخلال لقاءات فى مناسبات مختلفة عرفت لماذا كان «عاشقا للقمر».

الباز هو ابن قرية طوخ مركز السنبلاوين والذى أنجب لمصر قامات فكرية وثقافية وفنية تفوق الحصر من أبرزهم: أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد ورائد الرواية المصرية الدكتور محمد حسين هيكل وكوكب الشرق أم كلثوم وسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة.

فى آخر زيارة لمسقط رأسه حرص على زيارة مدرسته الابتدائية «والتى سميت باسمه بعد إعادة بنائها» .. لاحظت حرصه على الحوار مع تلاميذها فى هذه السن المبكره اقتناعا منه من أن بذور نبوغه العلمى وعشقه للقمر كان على أيدى معلمين يدركون عظم مسئوليتهم عن الأطفال فى هذه السن وامتد به هذا العشق عندما تدرج فى المدارس والجامعة الحكومية وقتها حيث شجعوه جميعا على ترسيخ ثقافته العلمية..

وكأن الباز أراد أن يبعث برسالة موحية بأنه من مقاعد تلك المدارس بقرى ونجوع ومدن مصر تبدأ نهضتها العلمية وقفزتها التنموية المنشودة.

وأثق أن الصديق الدكتور رضا حجازى وزير التربية والتعليم يدرك ذلك جيدا ويسعى لأن تعود تلك المدارس بيئة حاضنة وجاذبة لأبنائنا وأحفادنا ـ لا طاردة لهم ـ لإعدادهم وتأهيلهم لمهام مضنية ومسئوليات جسام للمستقبل.

إنهم مقدمون على عالم لن يكون فيه مكان إلا لكل من يمتلك أدوات العلم والمعرفة التى تؤسس عليها نهضة الشعوب وقوتها الشاملة وبنيانها الاجتماعى المتماسك.