إعادة الحسابات

إيهاب فتحى
إيهاب فتحى

 فى صيف العام الماضى كانت أجهزة الأمن الهندية تراقب تحركات تنظيم يطلق على نفسه "الجبهة الشعبية "وهو أحد أذرع التنظيم الدولى للإخوان المسلمين وقد حظرت الحكومة الهندية هذا التنظيم، استطاعت أجهزة الأمن الوصول إلى أحد مقرات التنظيم السرية فى ولاية بيهار التى تقع شرق الهند ويوجد بها نسبة ليست قليلة من المسلمين.

عثرت الأجهزة الأمنية فى مقر التنظيم السرى على عدد من الوثائق ومن بين هذه الوثائق وثيقة تشرح كيفية عمل التنظيم الدولى الإخوانى من خلال أذرعه كتنظيم الجبهة الشعبية  بهدف السيطرة على مسلمى الهند وتحريكهم من أجل عمل انشقاق وتأثير فى الحياة السياسية الهندية واستخدامهم كورقة للتحالف مع الأحزاب السياسية المناوئة لحزب بهاراتيا جاناتا القومى الحاكم فى الهند.

لم تكن خطورة هذه الوثيقة فى كونها كشفت أغراض التنظيم الدولى الإخوانى فالمجتمع الاستخباراتى والسياسى الهندى يمتلك خلفيات واسعة عن تحركات ومخططات جماعة الإخوان وتنظيمها الدولى وأذرعه فى الداخل الهندى منذ تأسيس فرع للجماعة بالهند فى أربعينيات القرن الماضى على يد أبى الأعلى المودودى.

تكمن خطورة هذه الوثيقة وغيرها من الوثائق التى عثر عليها فى مقر التنظيم السرى أنها كشفت للمجتمع الاستخباراتى السياسى الهندى عن صلات وارتباط بين مخططات التنظيم الدولى الإخوانى وأذرعه فى الهند والولايات المتحدة، امتزجت الخطورة بالدهشة الشديدة عند القيادات والوكالات الأمنية الهندية لأن التنظيم الإخوانى يقدم صورة تصل إلى درجة المشروع إلى دوائر مؤثرة فى واشنطن حول تحالف إخوانى مع أحزاب سياسية أخرى فى الهند مع الضغط بورقة المسلمين الذى يوازى عددهم عدد مسلمى باكستان مع إيصال هذا الضغط إلى العنف لإحكام السيطرة على المفاصل السياسية والاجتماعية داخل الهند بكاملها أو بالمفهوم الإخوانى المعروف تقويض ثوابت الدولة الوطنية.

تحول فعل الدهشة سريعًا إلى مراجعة سياق طبيعة العلاقات مع واشنطن،  فى خلال ما يزيد عن عقد تطورت العلاقات بين واشنطن ونيودلهى إلى آفاق سياسية واستراتيجية متقدمة بل أن هناك من يحسب الهند الآن على المحور الأمريكى فى مواجهة الصين مع ابتعاد الهند بنسبة ملحوظةعن دوائرعلاقاتها المعتادة مع روسيا الآن أوالاتحاد السوفيتى سابقًا.

بالتأكيد عند هذه المراجعة كانت هناك إيجابيات ترجح عدم قبول واشنطن للمخطط الإخوانى فالهند الدولة التى خارج التحالفات الأمريكية الرئيسية  سمحت لها الولايات المتحدة بالاستفادة بالتكنولوجيا النووية الأمريكية المتقدمة وهناك تعاون فى مجال بحوث الفضاء رغم رفض الهند اطلاع الولايات المتحدة على كل ما حققته خاصة فى برنامج استكشاف المريخ لأن الهند الوحيدة التى استخدمت تكنولوجيا أنفقت عليها بضعة ملايين وحققت نفس الأهداف العلمية فى بحوث استكشاف المريخ التى أنفقت الولايات المتحدة عليها مليارات الدولارات ولايوجد وجه للمقارنة بين ميزانيتى وكالتى الفضاء فى كل من البلدين لكن علماء الهند يحققون نفس المكتسبات العلمية.

نعم حتى هذه اللحظة لا يعتبر السلاح الأمريكى عاملا هامًا فى الترسانة الهندية فالترسانة الهندية عمودها الفقرى السلاح الروسى ومشروعات تطوير السلاح التى تقوم بها الهند فى جزء كبير منها قاعدتها العلمية الخبرات التى اكتسبتها الهند من التشارك مع الاتحاد السوفيتى السابق وروسيا الآن،  لكن فى نفس الوقت مع اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية اتخذت الهند موقفًا غير منحاز بالمرة للرؤية الروسية فى الأزمة رغم إمدادات الطاقة التى تحصل عليها نيودلهى من موسكو بسعر تفضيلى عقب الأزمة.

بالنسبة للمحور الذى يرى البعض أن الهند أصبحت داخله فى مواجهة الصين بالفعل الهند تقدم موقفًا مساندًا للولايات المتحدة بل أدى هذا إلى حدوث توترات على الحدود الصينية الهندية وصلت للاشتباك بين جيشى البلدين لكن الهند لاتقدم موقفها دون حسابات فهى تسعى إلى أن تكون قوة مستقلة عظمى لها نفوذ سياسى واقتصادى وعسكرى فى مواجهة كل من التنين الصينى والعم سام خاصة فى تأمين خطوط الملاحة البحرية الدولية حتى تحمى نيودلهى تجاراتها وإمدادات الطاقة الواردة إليها.

رغم كل هذه الإيجابيات فى طبيعة العلاقات بين نيودلهى وواشنطن والتى ترجح أن تنظيم الإخوان الدولى بعيد فى خططه عن قرار واشنطن إلا أن هناك أسئلة أعادت صياغة الرؤية الهندية تجاه هذه العلاقة الملتبسة بين التنظيم والدوائر المؤثرة بالعاصمة الأمريكية بالإضافة للمعلومات التى بدأت تتجمع أمام صانع القرار فى نيودلهى ومن يريد فهم حقيقة الأحداث القادمة.

السؤال الأول كان عن ما هى تلك الدوائر فى واشنطن التى تتفاعل مع مخططات التنظيم الدولى للإخوان؟ كانت كل المؤشرات تتجه إلى تيار العولمة المسيطر الآن على الإدارة الأمريكية والذى يمتد منذ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما فهذا التيار معادى لمفهوم الدولة الوطنية ورافض لوجودها لأنه يراها تهديدًا ممتدًا على تصوراته فى الهيمنة على مفاصل المجتمع الدولى، فى نفس الوقت هذا التيار هو الراعى الرسمى للتنظيم الإخوانى ويراه أداة هامة فى تحقيق مخططاته و يحظى بمكانة مميزة بل عمل هذا التيار المعولم على إخفاء الصورة القبيحة للفاشية الإخوانية من أجل خدمة هذه الأغراض أو محاولة صنع نسخة مزيفة محتواها أنه يوجد إخوانى متفاعل مع العولمة ويتقبل الرؤية الغربية للعالم.

تتوالى الأسئلة حول هذه العلاقة الملتبسة ومنها كيف لا ترى هذه الدوائر فى واشنطن التطور الحادث فى العلاقات بين البلدين؟ الحقيقة أن تقييم دوائر العولمة لأى علاقات لايخضع للحسابات الطبيعية فى علاقات الدول لأنه يرى أن أى تقدم فى العلاقات مع أى دولة مهما تقدمت وهى فى الأساس دولة وطنية وذات حضارة مثل الهند سيكون لها حد عندما تتعارض مصالح هذه الدولة وسيادتها مع مخططات العولمة فى السيطرة على قرارها ولن تقبل الإملاءات خاصة فى ملفات دولية مثل الملف الصينى الأمريكى.

من ناحية أخرى فمهما بلغت حدود العلاقات بين واشنطن ونيودلهى فالهند كدولة تسعى إلى تكوين رؤيتها الخاصة وتحقيق مصالحها كقوة صاعدة مستقلة فى قرارها بعيدًا عن واشنطن والعولمة، كان هناك سؤال آخر مرتبط بحركة الإدارات الأمريكية المعولمة وعن كيفية تعاملها مع المجتمع الدولى وخاصة من يتمسك فيه بمفهوم الدولة الوطنية ؟ بالتأكيد كانت التجربة الروسية حاضرة فتداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية تأسست حتى اشتعلت برعاية ثلاث إدارات أمريكية، كلينتون ،أوباما ، بايدن وهى إدارات تتبنى مفاهيم العولمة بوضوح واستخدمت الفاشية الإخوانية واليسار المعولم  لمحاولة تحقيق أفكارها الغريبة فى الهيمنة.

حتى فى حالة اعتبار أن روسيا خصم دائم لواشنطن منذ الاتحاد السوفيتى فكيف كانت حركة الإدارات المعولمة مع الأصدقاء؟ هنا كانت تجربة مايسمى بالربيع العربى حاضرة أمام من يحلل فى نيودلهى طبيعة العلاقة بين الفاشية الإخوانية ودوائر المعولمين فى واشنطن فطوال ثمانى سنوات هى عمر إدارة أوباما ووزيرة خارجيته هيلارى كلينتون كانت الاتصالات والتحضيرات مستمرة حتى تسيطر الفاشية الإخوانية على المنطقة العربية والشرق الأوسط بأكمله، واستطاعت الفاشية الإخوانية بالدعم الأمريكى المعولم التسلل إلى السلطة لكن كل هذه المخططات بين المعولمين والفاشية الإخوانية انهارت على أبواب القاهرة فى الـ 30 من يونيو.

أمام هذه المعطيات كان على نيودلهى أن تعيد حساباتها فهى لن تنهى علاقاتها مع واشنطن لأن تحقيق المصالح فى السياسة الدولية هو المقياس لكن عليها التعامل بحذر شديد مع ما يدبر فى دوائر واشنطون والمعولمين وبنفس هذه الحسابات وضعت الهند أمامها التجربة والخبرات المصرية فى التعامل مع هذه الحالة الأمريكية فالقاهرة خاضت صدامًا شرسًا مع الإدارات الأمريكية المعولمة وأفشلت كافة مخططاتها وأطاحت بالفاشية الإخوانية ولكن فى نفس الوقت حافظت على علاقاتها مع الولايات المتحدة لأن دولة عظمى بحجم الولايات المتحدة ليست خاضعة بكاملها لأفكار المعلومين ومخططاتهم والدليل أن خلال أربع سنوات من حكم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب تلقت العولمة وأتباعها فى واشنطن ضربات مؤلمة بل أعلن ترامب بنفسه فى دافوس أن العولمة انتهت، ومن ناحية أخرى فالانتخابات الأمريكية القادمة ستشهد تغيرات عميقة فى القرار الأمريكى بعد الكوارث التى تسببت فيها سياسات إدارة بايدن هاريس والتى أدت إلى تحول العالم إلى كتلة من اللهب والأزمات وكان أول المتأثرين بها أمريكا نفسها.

بنفس هذه الحسابات المستجدة بدأت نيودلهى فى تقوية علاقاتها مع الأمم التى تتخذ مفهوم الدولة الوطنية ركيزة أساسية وذات جذر حضارى مثلها مثل الهند وترتبط معها بروابط تاريخية عميقة وعلى رأس هذه الأمم الأمة المصرية واتجهت إلى روسيا والصين رغم التنافس مع بكين بنفس الرؤية، بالتأكيد الهند أمة تمتلك من الخبرات الكثير وأدركت فى لحظة فارقة من تاريخ العالم وإعادة الحسابات أن العلاقات بين الأمم ذات الجذور الحضارية ثابتة وأن المصالح مهما بلغت أهميتها لا تعلو على الثوابت.