تساؤلات

الدفتر المنسى

أحمد عباس
أحمد عباس

صديقى مجنون، مولع بكل قديم لا يهم ما هو لكن إذا كان قديمًا فيا محلاه، معروف هو فى كل الأسواق الكبرى التى تبيع وتشترى كل ماهو «خرج بيت» أجهزة، أثاث، تحف، نجف، مزهريات، أوانى، حتى العلب الخشبية الصغيرة مفتون بها. لا أفهم من أين يأتى بفوق الصبر صبران ليروح ويجئ ويفتش ويقلب فى هذه البضائع،

وكيف يفرق بين صالحها وطالحها، أفهم أن الزهريات مثلًا لا يجب أن تكون مقطوشة من الأطراف أو مثقوبة من زاوية والنجف النحاسى مهما قدم يزداد جمالًا وعلاج عيوبه ساهل، أما القطع الخشبية فللحق صديقى فراز، يكفى أن ينظر للقطعة ليكشف نوعية خشبها من فوق مائة طلاء ويعرف اذا كان أصابه سوس الزمن أم احتفظ بصلابته، يفرق بين الخشب الماهوجنى الأحمر والأرو الصافى والزان المحمر والتيك الصلد والبلوط وغيرهم، لا يلزمه سوى أن يمسح بنعومة على القطعة براحة يده كأنها بطن امرأة حبلى فيعرف ان كانت سليمة أو لا، المهم.. يبتاع صديقى ما يلزمه وينصرف فرحًا كأنه للتو تزوج للمرة الرابعة، يطبطب على بضاعته ويبدأ سلسلة مكالمات طويلة لدولاب طويل عريض مع المرممين من الصنايعية المهرة أبناء منطقة السيدة عائشة وأصبحوا أصحاب بيت، يعملون كأنهم مرممو آثار بالفرش الصغيرة وأدوات معدنية دقيقة تطال عين العفريت.. هكذا يقول ثم ينخرط فى ضحكة طويلة تنسحب فيها أنفاسه من القهقهة بينما يضوى صفان لولى هما أسنانه، ذلك أن لونه ليس خمريا ولا أسمر ولا غامق بل لون بشرته غطيس، جمعتنا مرات جولات عمل كانوا يصمتون أمامه كأنه خبير أجنبى الى أن يتكلم فيفتضح أمرنا وتنقلب الجولة الى مسرحية تحبس روحك من الضحك وتحشرج الأنفاس وتصاب خلالها بلهاث طويل ذلك أن صديقى حباه الله بدم مصرى جميل وضحكة صافية جدًا وشخصية تذوب حبًا فى الحياة وعارضها، زرت معه النوبة تجوز الكتابة عنها مرة أخرى ليتسع لها الحديث.


صديقى الذى يكبرنى بسنوات عشر يرانى كاتبا وأهل للأسرار التى تظل سرًا الى أن أكتبها فتصير حكاية عامة لكن بطلها يظل خفيًا وهكذا أحتفظ أنا بالأسرار، فكل الأسرار تصير حواديت لابد أن تروى مع الاحتفاظ بسرية صاحبها لكن كيف للحدوتة أن تدوم اذا لم ترويها الألسنة وتحفظها القلوب، فى كل مرة أفضح سره يرمقنى بنظرة ساخطة مخيفة ثم يسقط من الضحك لما يسمعه حكاية متداولة ويقول: كده يا صاحبي!، فأقول له ان حكاياته غنية ومثيرة للحكى وأنا لا أحب أن أمنع عن الناس ابتسامة.


فى زيارته الأخيرة تسوق قطعة خشبية أنيقة مصنوعة من خشب الأرو الفاخر، لايبدو عمرها أقل من تسعين عامًا اسمها سكرتيرة، شكلها كأنه مكتب صغير ملئ بالأدراج الصغيرة جدًا وأبواب جرارة لا يتجاوز أكبرها كف اليد، ربما كانت لحفظ أشياء صغيرة جدًا لا أعرف كماذا، فى درج مختبئ داخل درج داخل درج خلف ضلفة خشبية عثر صديقى على دفتر قديم جدًا يقل حجمه عن مساحة كف يد آنسة فى سن البلوغ أوراقه أنهت اصفرارها ولامست أولى درجات البنى، أظنها من عمر القطعة الخشبية ذاتها، مكتوبة بخط يد أنيق ومرتب لا يخلو من تصليحات طفيفة، أما اللغة عربية سليمة فصيحة أغدق عليها كاتبها من مواطن الجمال قدر ما أوتى من فصاحة، فرجنى صديقى القطعة الخشبية وهو يتغزل فى صانعها ثم فتح الدرج وقال لى هذا لك، سحبت الدفتر المنسى بروية لئلا تسقط إحدى وريقاته وفتحت أولى صفحاته لأقرأ عنوانه:
«خالد أيها العزيز».
وهذه حدوتة أخرى سأحكيها متى كانت المساحة تسمح.