أولجا توكارتشوك عن «أسفار جايكوب»: الحقيقي هو ما يحدث تأثيرًا

أولجا توكارتشوك
أولجا توكارتشوك

تتعامل أولجا توكارتشوك مع الأدب بطريقة فريدة لتفكيك واقع أواخر القرن العشرين وأوائل الحادى والعشرين، طريقة تؤدى لانهيار الحدود بين الفترات الزمنية والبلدان. ولدت توكارتشوك عام 1962 فى سوليشوف ببولندا، وهى تكتب ما تسميه «الروايات التركيبية»، حيث تمزج المذكرات والأدب الخيالى والاسكتشات الغنائية فى قصة واحدة. فى روايتها «بريميفال وأزمنة أخرى» (2010)، عانت قرية بولندية تراقبها الملائكة من ويلات حروب القرن العشرين، وفى «رحالة» (2017)، والتى ترجمتها للانجليزية جينيفر كروفت وفازت مع توكارتشوك بجائزة بوكر الدولية لعام 2018، تنتقل الأحداث بين مطار حديث وعربة تجرها الجياد، تحمل قلب الملحن فريديريك شوبان بلا جسد. عندما اختارت الأكاديمية السويدية توكارتشوك لجائزة نوبل فى الأدب لعام 2018، كتبت مترجمتها جينيفر كروفت: «هذه الجائزة وُجِدَت من أجلها».
«أسفار جايكوب»، رواية توكارتشوك المترجمة للانجليزية مؤخرًا والمرشحة لجائزة بوكر الدولية 2022، كتاب ضخم استغرق تأليفه حوالى عشر سنوات، وترجمته كروفت خلال خمس سنوات تقريبًا. تستند الرواية إلى شخصية تاريخية حقيقية، جايكوب فرانك، وهو يهودى بولندى عاش خلال القرن الثامن عشر وأعلن نفسه مسيحًا وواصل جهوده لتأسيس طائفة هرطوقيين جمعت بين صوفية القبلانية والثالوث الكاثوليكي، ويقدم الكتاب صورة لشخصية معقدة ودراسة لعلاقة بلدان أوروبا الوسطى المضطربة بالحداثة. (الصفحات مُرقمة عكسيًا - من 965 إلى 1 - إشارة إلى ترتيب الأسفار العبرية، التى تُقرأ من اليمين إلى اليسار). رُغم انتهاء زمن أحداث الرواية فى عصر التنوير، إلا أن تصوير توكارتشوك لكل من معاداة السامية المسيحية والقوة الداخلية للفرنكيين تثير أسئلة عميقة حول التاريخ البولندي، والنسوية، وطبيعة الإيمان الديني، وهى موضوعات وثيقة الصلة بحاضرنا.

أسفار جايكوب، رواية تاريخية تتبع مسيرة حياة جايكوب فرانك، مؤسس طائفة الفرانكيين الهرطوقية التى ظهرت فى بولندا خلال القرن الثامن عشر. أثناء بحثك، هل اكتشفتِ شيئًا فاجأك أو غيّر فهمك لماضى بولندا بشكل جذرى؟
قبل كتابة «أسفار جايكوب»، لم يكن لدى اهتمام خاص بتاريخ هذه الفترة. وهكذا كانت عملية البحث التى أجريتها بأكملها مغامرة مثيرة فكريًا وشعوريًا. لم تشغلنى مثلًا حقيقة أن جمهورية بولندا (المعروفة الآن باسم الجمهورية الأولى) تقاسمت حدودًا مشتركة مع الإمبراطورية العثمانية.

كما لم أدرك مدى تعدد الثقافات والأعراق فى ذلك البلد، ومدى تشابك التأثيرات المختلفة. لقد اندهشتُ لسهولة حركة أبطالي، التجار اليهود. كانوا دائمى التنقُل، ويعيشون فى مناطق تقاطع عندها اللغات والثقافات، وكانوا كُليى الحضور بطريقة ما.

وحتى أفراد الطبقة الأرستقراطية البولندية عاشوا فى حركة مستمرة، لتفقد ممتلكاتهم، ومتابعة صلاتهم والحفاظ على نفوذهم. صرتُ أراه عالمًا متأججًا، ملونًا، ممتعًا، ومثيرًا. التاريخ الذى درسته فى المدرسة صور لى الماضى على أنه واقع ثابت، أو حتى متحجر.

يُقاطع ثباته حدثًا مأساويًا من حينٍ لآخر: حروب، انتفاضات، أوبئة. اتضح أن هذا غير صحيح. فوجئتُ بمواقف الناس فى القرن الثامن عشر تجاه الجنس والجسد، فى حقبة ما قبل العصر الفيكتوري.

ودون أدنى شك كانوا أقل تحفظًا بكثير من عصرنا هذا. أدركتُ أيضًا أن حقيقة كونى بعيدة عن هؤلاء الأشخاص بعشرة أجيال لا تعنى الكثير. ما نعامله على أنه الماضى البعيد هو فى الواقع أقرب إلينا مما نعتقد. اكتشفتُ شبهًا كبيرًا بين أبطال روايتى وبيننا.


تظهر فكرة الحدود بشكل متكرر فى عملك. تجتاز شخصيات روايتك «رحالة» الحدود الدولية بسفَراتهم المتكررة؛ تشهد قرية بريميفال الخيالية فى «بريميفال وأزمنة أخرى» تجربة الاحتلال أثناء الحرب؛ وكثيرا ما تتزحزح الحدود بين اللغات فى «أسفار جايكوب»، وبالذات فيما يتعلق ببطل الرواية، «يمكنك دائمًا اكتشاف لهجة أجنبية» فى حديثه، بغض النظر عن اللغة التى يستخدمها. ما هو تأثير الحدود على كتاباتك؟


الحدود إحدى أعجب الأفكار التى ابتكرتها البشرية على الإطلاق: أن تعزل نفسك، وترسم منطقة نفوذك، وتقسم البشر إلى «نحن» و«هم». خاصة فى أوروبا الوسطى، موطني، حيث أعيش، وحيث تغيرت الحدود باستمرار بحسب التغيرات السياسية.

رسم الناس الحدود بشكل تعسفي، فى الغالب، متجاهلين الخصائص الطبيعية والانتماءات العرقية أو التجارة بين الجيران.قضيتُ أكثر من نصف حياتى فى مكان غير بعيد عن الحدود بين بولندا والتشيك. عشت فيه وهو تحت الحراسة.

وشهدتُ ما يتطلبه من الطاقة والمال. ثم جربت دخول بولندا إلى منطقة شنجن، حينها تحولت حدودى إلى حدود داخلية. فى ذلك اليوم، توقفت الدوريات ببساطة، واختفى الجنود ومعهم الحدود أيضًا. فجأة صار يمكنك السير فى الغابة والعبور ذهابًا وإيابًا عدة مرات كما تشاء، دون مساءلة، بينما فى وقت من الأوقات، كنا نخشى حتى الاقتراب من هذه الحدود.

ربما زاد هذا من حساسيتى تجاه حقيقة استعداد الناس لخلق انقسامات سلطوية من المفترض أن تساعد فى تنظيم العالم وجعله أكثر أمانًا، نظريًا، وهذا تصور مفرط فى التبسيط، ولكن على الأقل يمكن فهمه. سافرتُ فترة إلى الحدود بين كوريا الشمالية والجنوبية.

واستصلحت الطبيعة هذا الشريط من الأرض المحرمة المحكومة بمراقبة لا تعرف الكلل. صُوبت البنادق وأقيمت الأسلاك الشائكة وأبراج الحراسة على كلا الجانبين، وفيما بينهما، العشب الخصب، والنباتات المزهرة، والفراشات والطيور المحلقة، والحيوانات التى تعيش فى نعيم حقيقى وآمِن.

إنها واحدة من أروع الصور التى احتفظت بها فى ذاكرتى. ككاتبة، يشغلنى أكثر ما يكمن فى الحدود، فى الفروق الواضحة المُجردة الأسود والأبيض، المحلى والأجنبي، الليل والنهار. تُرهِق هذه التباينات البسيطة عقلى دومًا.


 بولندا التى تصورينها فى «أسفار جايكوب» هى مجتمع صاخب وعالمى ومتعدد الأعراق على حافة التنوير، يختلف اختلافًا صارخًا عن بولندا التى يصورها المحافظون اليوم. لقد تلقيتِ تهديدات بالقتل من قوميين بولنديين بعد مقابلة متلفزة لك عام 2014 بخصوص هذه الرواية، انتقدتِ خلالها رفض الدولة مناقشة المناطق الأكثر ظُلمة فى ماضيها. كيف أثر صعود اليمين البولندى المتشدد مؤخرًا على كتاباتك؟


إنه شعور سوريالى رهيب، حين تقول الحقيقة، وتصف كيف كانت الأمور على حقيقتها، مع قدرتك على إثبات ذلك، تفاجأ بإيقاظ الغضب والكراهية الخارجة عن السيطرة لدى البعض. لقد تعرضتُ لبعض المحرمات التى لا يُقدرها من يفكرون بطريقة تتعارض تمامًا مع طريقة تفكيرى ممن لديهم رؤية مختلفة تمامًا للعالم فحسب.

وبل وأشخاص مثلى أيضًا، يشاركونى آرائى ولكنهم قرروا أنه يجب التطرق إلى الموضوعات السياسية بحساسية أكثر ومباشَرَة أقل، مع مزيد من الاهتمام بالسياق. كانت الهجمات مؤلمة لأننى لم أتوقعها على الإطلاق. إلا أننى تلقيت دعمًا لا يصدق أيضًا.

وأطلقَت هذه الواقعة حوارات حول التاريخ البولندى. اليوم لا يعارض ذو عقل سليم ما قلته حينها. ومع ذلك، أعتقد أن جُرح التعرُض لهذا النوع من الإساءة اللفظية لا يزال قائمًا، ويؤثر على عدد أكبر من الناس. إننا نفقد هِبة أساسية وإعجازية: الشعور بالأمان والثقة فى العالم.


غالبًا ما تظهر شخصية عجوز غريبة أو غامضة أو عدوانية مثل يانتي، جدة جاكوب، أو جيتلا، إحدى أتباعه الأوائل، فى المركز من أحداث رواياتك. كيف تتعاملين مع كتابة شخصياتك النسائية؟
• أنا مهووسة بالقراءة طوال حياتى. أذكر تجربة اكتشاف شخصية نسائية فى الأدب، أتعرف عليها كفتاة صغيرة، أو مراهقة، أو امرأة.

وربما بدون وعيٍ كاملٍ فى البداية. لعبت النساء أدوارهن الاجتماعية فى المقام الأول، حيث ظهرن فى الكتب على أنهن بريئات، وحبيبات مثاليات، وأمهات، وعشيقات، وقتيلات، وضحايا للعنف، وبغايا، ومُقدمات لخدمات (خادمات، ونادلات، إلخ).

ذلك نادرًا جدًا ما تتمتع الشخصية الأنثوية بمكانة كائن كامل أو مستقل أو مفكر أو يتصرف كمسؤول أو أخلاقى أو فلسفى. اليوم، أرى أن كل كلاسيكيات الأدب العظيمة ربما كان لها تأثير مُعيق للتطور العاطفى والفكرى للنساء. اعتاد الناس الاعتقاد بأن النساء ذوات أنظمة نفسية بسيطة وغير معقدة على الإطلاق. غالبًا ما ينسب المجتمع إلى فئة «النساء» الابتذال والتكرار والتبادلية. وأن تطورهن يحدث «طبيعيًا» - بمعنى أن المرأة تنمو لتلعب الأدوار التى من المفترض أن تلعبها، ببساطة.

وأما الرجل فعليه مواجهة تحديات حقيقية فى تطوره النفسى. أعتقد أن هذا سوء فهم كبير. يجب على النساء بذل جهد مضاعف للتخلص من ثِقل هذا الإغفال الكبير وتولى مهام ظهورهن الشخصى والفردى فى عالم مُقسَّم إلى موضوعات ذات صبغة فردية رجولية لا تُعرِّف بوضوح النساء المنغمسات فى أدوارهن الاجتماعية،

فغالبًا ما تظهر النساء بصحبة أطفال. تبدأ كل فتاة طموحة حياتها من خلال التعرف على ساحات القتال والتوصل إلى إستراتيجيات للمطالبة بمعاملتها كإنسان كامل الأهلية. يجب على كل من ولدت امرأة أن تتقاتل لتتجنب الأدوار المحددة لها مُسبقًا.

يحصل الذكور على هذا من البداية، ولا يتعين عليهم بذل أى جهد خاص. يحصلون على لوح تزلج مناسب ورياح مواتية، بينما تبدأ الفتاة من تعلم كيفية السباحة فى مياه غريبة وغير مألوفة. وللأسف، لا يساعدها الأدب الذى يركز على الرجال، تجاربهم وحياتهم وعالمهم وذواتهم، وذكورتهم. بالنسبة لجول فيرن.

كاتبى المفضل فى الطفولة، الشخصيات الحقيقية فقط من الرجال. أثناء كتابة «أسفار جايكوب»، ألزمتُ نفسي، بوعى شديد، بمهمة إعادة النظر، أو استعادة النسب، وصياغة شكل ما من التناظر العادل، واستعادة التاريخ الممحى للنساء.

تعهدتُ بإعادة تكوين لشخصياتهن حتى آخر تفصيلة، كأنه عمل بوليسي، وتحريرهم من لعنة التسميات المجردة «الأم» «الحبيبة» «مدبرة المنزل»، إلخ. هذه هى الطريقة التى بنيتُ بها شخصية جيتلا، مثلًا.


فى خطابك عند تسلُم جائزة نوبل، ذكرتِ كيف غير الإنترنت تعاملنا مع الأدب بشكل جذري، وأشرتِ إلى أن «الأدب فقد ثقة القراء منذ صار الكذب سلاحًا للدمار الشامل، حتى لو أنه لا يزال أداة بدائية». كيف يمكن للرواية اليوم التعامل مع هذا التشكك ومواجهة مخاوف جديدة تضع الحقيقة مقابل الخيال؟
 • نعم، لاحظتُ نفورًا من الأدب، كأن الأدب تافه، كأنه حكايات خرافية تكتب لتُقَص على الأطفال. الرجال على وجه الخصوص يستخِفُّون بالأدب وغالبا ما يتفاخرون بقراءتهم للسيَر فقط. فى كثير من الأحيان عندما يطلب منى الرجال توقيع إهداء لكتبي، يذكرون أنه لزوجاتهم. فى بولندا، يفضل «الجادون» السير الذاتية أو التقارير الصحفية.

بالتأكيد، ويجهلون حقيقة أن الرواية تحكم سرًا هذه الأجناس أيضًا. غالبًا ما يحكم قراء غير متعمقين بتفوق الكتب غير الأدبية على الأدب بشكل عام. لم يدرك هؤلاء القوة الحقيقية للأدب، ويخلطون بسذاجة بينه وبين الكذب والتلفيق. لكن فى الحقيقة، تحتل الرواية الجيدة مَرتبة مختلفة تمامًا.

إنها تنتمى إلى ذلك الجزء من تجربتنا الأقرب لأسطورة ما أو قصة خالدة، ما أسميه السرديات التى لم يؤلفها كاتب، لكنها استُنسِخَت بشكل جماعى ضمن ثقافات ما، وتتكيف باستمرار مع الحقائق الجديدة، فتبقى خالدة. إن كتابة الروايات، الأدب، لا صلة لها بعمل العقل الواعي؛ لا يمكن التمييز بين الحقيقة والكذب هنا.

وهل آنا كارنينا حقيقية؟ ماذا عن فرتر جوته، مَن أقبل مئات الشباب على الانتحار بتحفيز منه؟ أؤمن بتعريف ما للحقيقة يقول بأن الحقيقى هو ما يُحدِث تأثيرًا. وفقًا لهذا المعنى، فإن مغامرات جاليفر فى أراضٍ غريبة حقيقية، لأنها تثير الأفكار طيلة ثلاثة قرون.

وتلهم الناس وتؤثر على حيواتهم، وتحولت إلى لوحات وأفلام. أحيانًا تخيفنى هذه الحقيقة عن الأدب هذه: نتذكر آنا كارنينا أو جاليفر أكثر مما نتذكر جان كوفالسكى وماريا نوفاك (أو فى العالم الناطق باللغة الإنجليزية جون وجين دو) اللذان لم يبقَ لهما أى ذِكر سوى فى بعض مُدخلات سجلات الأبريشية.

وعلى الأكثر. نحن لا نقرأ رواية طلبًا للحقيقة. فى سعينا وراء الحقيقة، من الأفضل أن نقصد بعض المواقع الصادقة، أو نشترى صحيفة جديرة بالثقة، أو نقرأ مقالًا علميًا، أو نحضر محاضرة جامعية. مهمة الرواية هى نقل التجربة الإنسانية على عدة مستويات: حسية، ومجازية، ونفسية، وتاريخية، ورمزية. الرواية أداة اتصال متطورة للغاية ومظهر تاريخى آخر لحاجة الإنسان إلى إعادة سرد العالم وفهمه.

لا أجزم بالتزام الرواية بنفس الشكل دائمًا. الرواية التى نعرفها - المطبوعة باسم المؤلف على الغلاف- هى نتاج عصرنا وتقنية جوتنبرج التى عهدناها. لكن القصص التى تُروى بعذوبة ستجد طريقة للبقاء.

اقرأ أيضاً | مارجريت أتوود تكتب: الأخبار السيئة