مخلد بركات يكتب : مكوّناتُ التراثِ الأردنى فسيفساءُ اللون والأصالة

لوحة  للفنان: فادى الداوود
لوحة للفنان: فادى الداوود

من مميزات الأردن الحضارية، أنَّه بلدٌ برغم صغر مساحته فهو يزخر بعشرات الآلاف من المواقع الأثريّة التى تدلل على حضارات متعاقبة منذ ما قبل التاريخ، وبرغم الروح العصريّة التى تلفعه إلا إنَّه ما يزال توشحه فسيفساء تراثية عريقة الجذور.

الأردن، بحجم بعض الورد، تأسس بلدًا عروبيًّا وطنيًّا العام 1921، بجهود الملك المؤسس عبدالله الأول ابن الحسين، سليل العائلة الملكية الهاشمية، واستطاع فى زخم متغيرات محلية وإقليمية ودولية أن يحقّق مكانته المرموقة، فى التطور الحضارى من مختلف الجوانب، ويدخل مئويته الثانية بلدًا يمتلك كلَّ المقومات، ويمضى قدمًا نحو آفاق المستقبل.


ولعلَّ من مميزات الأردن الحضارية، أنَّه بلدٌ برغم صغر مساحته فهو يزخر بعشرات الآلاف من المواقع الأثريّة التى تدلل على حضارات متعاقبة منذ ما قبل التاريخ، وبرغم الروح العصريّة التى تلفعه إلا إنَّه ما يزال توشحه فسيفساء تراثية عريقة الجذور.

وربما تناسجت بفعل أنَّه بلدٌ قبلى، وفيه كل أنماط الاختلاف البيئى، بين الصحارى الممتدة والأرياف والقرى، والمدن العصريّة المكتظة بالناس. فضلاً عن التنوّع البشرى فيه بفعل الهجرات المتعاقبة إليه من كثير من المكوّنات البشرية، من فلسطينين، شركس، شيشان، شوام، أرمن، أكراد،... لتعيش هذه المكوّنات وغيرها ضمن نسيجٍ وطنيٍّ واحد متماسك، حقّق التنوّع الذى أكسب الأردن غنىً وخصوبةً فى أشكال التراث، أنواعه وطقوسه.  


وحين ندقّق فى فسيفساء التراث الأردنى نجد من مكوّناته: العادات والتقاليد، أشكال التعبير الشفهى، الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات، والتصورات والمعارف المتعلقة بالطبيعة والكون والبيئة المحلية وتاريخها، والمهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية والصناعات اليدوية، وفنون وتقاليد أداء العروض، التى تشكل جميعها جزءًا من التراث الثقافيّ للمجتمع الأردنىّ. 


مكوّنات التراث الأردنى
 العادات والتقاليد: من أبرز ألوان التراث الأردنى، وهى أشكال من السلوكيات الفردية والجمعية المكتسبة بفعل تكرارها حتى أخذت قوة العرف والقانون، وتُعرف كذلك بأنَّها مجموعة من المُمارسات الاجتماعية القديمة التى ما زالت تكتسب حضورها، المحببة لدى الأردنيين وتحتل مكانة أساسية لدى الكثير من العائلات، إذ إنَّها ترتبط بجوانب الحياة الواسعة.

ولعل من أبرز الأمثلة عليها؛ إكرام الضيف؛ بممارسات تقديم الطعام والشراب له وأشهرها تقديم القهوة العربية، ومنها إغاثة الملهوف وبخاصة ببروز مفهوم «الدخيل» وهو الشخص الذى يطلب النجدة فيصبح تقديمها له واجبًا. 


وأشكال التعبير الشفهى، والمقصود هنا المنطوق اللفظى المتناقل من جيل إلى جيل، ومن ذلك الحكايات الشعبيّة التى عادة ترويها الجدّات، وكبار السن فى الأماسى، وهى حكايات فى أغلبها خرافية، أسطورية، فيها مبالغة وتفخيم فى سرد الحدث، وتعظيم الشخصيات التى هى غالبًا ما تكون خارقة للعادة.

ومن مثل حكايات الغول والسعلاة والساكونة. كما يبرز التعبير الشفهى على أشكال من الكلام الموزون المقفّى، وهو ما يُطلق عليه فى الأردن ودول الخليج العربي؛ “الشعر النبطي”، الذى يُنظم على بحور شعريّة مألوفة منها: المسحوب، الشروقى، الهجينى، والصخرى، ومن الأمثلة على الشعر النبطى أقتبسُ من قصيدة طويلة وجميلة للشاعر الأردنى المرحوم عقاب العجرمي: 
«حمام يللى تزعج الصوت بلحون
 نوحك طرب ما أنت مثلى معنى
 يا الورق نوحك زادنى هم وشجون
 أرجاك خفف لوعتى لا تغنى  
أنت مريحٍ بين غدران وغصون
وأنا عليلٍ وخاطرى ما تهنى».
الممارساتُ الاجتماعيّة والطقوس والاحتفالات
وهى ممارسات اجتماعية مرتبطة بالطقسية والقداسة، ومنها الإيمان بالأولياء والصالحين وقدراتهم الخارقة، والإيمان بقوة الشجر وقدسيته، فنجد فى الأردن العديد من الأشجار المباركة التى يمكن أن يستشفى المريض من أوراقها، أو حتى من لمسها، ومنها شجرة الخضر فى ماحص من أرض البلقاء، وشجرة مارلياس فى عجلون، وشجرة البقيعاوية فى الصفاوي/ الصحراء الأردنية الشرقية، والتى يُعتقد أنَّ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم استظل تحتها فى رحلته إلى بلاد الشام قبل الدعوة.


وفيما يتعلق بالاحتفالات نجد أعرافًا مهمّة لها علاقة بالزواج والعرس الأردنى الأصيل، من بداية عقد القران وصولًا إلى ليلة الدخلة، ضمن سلسلة ثابتة نسبيًّا من الخطوات، وفى الأعراس الأردنية يتم تقديم وجبة المنسف كغداء وبخاصة يوم الجمعة.

وهو من أشهر الأكلات الأردنيّة؛ يتكون من لحم الماعز أو الخاروف يطبخ طهيًا مع اللبن الذى يسميه الأردنيون “ الشراب”، أو الجميد؛ أى اللبن المجفّف على شكل كرات مملحة، ومن أشهره الجميد الكركى، (نسبة إلى مدينة الكرك/ جنوب الأردن)، مع خلطة من البهارات الأردنية الشعبية، لعل من أشهرها نبات الحندقوق وجوزة الطيب، ثم يسكب فوق الأرز الذى يغطى طبقة من خبز الشراك. وهو طبقٌ اختص به الأردنيون منذ ثلاثة آلاف عام، وهو المفضل فى أيام رمضان، وفى حفلات الطهور أو ختان الأطفال.


التصورات، والمعارف المتعلقة بالطبيعة والكون، والبيئة المحلية وتاريخها.
وهى تصوراتٌ وجدانيّةٌ فى أغلبها، يتم اكتسابها بالخبرة والتأمل، لها علاقة بالعالم الآخر، بالموت والحياة، والمرض وطرق علاجه شعبيًا من خلال الأعشاب التى تنمو فى البيئة الأردنية مثل؛ الجعدة، أزهار البابونج، الزعتر البرى، الميرمية، الحصلبان، الشيح والقيصوم.

وأيضًا التداوى بخبرة الرجال كبار السن مثل المجبرين للكسور، والتداوى بالخرز وأنواع من عظم الحيوانات كحنجرة الذئب، وهناك تصورات لها علاقة بالأنواء والزمن والفصول الأربعة وتساقط الأمطار والندى، فظهرت معتقدات ومفاهيم كمربعانية الشتاء والخمسينية، وسعد الذابح وإخوانه، وقران العجائز، والتصليب للتنبؤ بموعد هطول المطر.


توظيف عناصر من التراث فى الأدب الأردنى.
ووظّف العديد من الأدباء الأردنيين التراث فى كتاباتهم سواء الشعريّة أو السرديّة، انطلاقًا من حفظ هذا التراث وأرشفته إبداعيًّا كى لا يدخل دوائر النسيان، وبسبب أن من هؤلاء المبدعين من عاش تفاصيل هذا التراث كونهم من أبناء القرى الأردنية، فقاموا بترييف السرد بالعديد من المفاهيم التراثيّة، وطعّموا كتاباتهم باللهجة العامية الأردنية، وبالعديد من الطقوس والممارسات الشعبية، كما نلحظ طغيان البيئة الأردنية وبخاصة القرى فى هذه الأعمال الأدبية.

ولعلَّ من أبرز الأمثلة هنا نجد ذلك لدى الشاعرين، شاعر الأردن المرحوم مصطفى وهبى التل/ عرار فى ديوانه “ عشيات وادى اليابس” الذى تغزل بالقرى الأردنية فى مجمل قصائده، والشاعر المرحوم حبيب الزيودى وبخاصة فى دواوينه “ناى الراعي”، “منازل أهلي”، و«غيم على العالوك»، والروائى غالب هلسا فى روايتيه «سلطانة» و«بدو وزنوج وفلاحون»، وهاشم غرايبة فى روايته «الشهبندر»، والروائية سميحة خريس فى رواية »القرمية».

والكاتب مفلح العدوان فى مجموعته القصصيّة «الدوّاج»، ود. سليمان الأزرعى فى مجموعته القصصيّة «البابور»، ومخلد بركات فى روايتيه «الحرذون» و «بندورة الحية»، والروائى أحمد الطراونة فى روايته «خبز وشا». 


اقرأ ايضاً | «مفهوم التراث الديني في مصر القديمة».. محاضرة علمية بجامعة الأقصر