د.عماد الضمور يكتب: المشهد الإبداعى فى الأردن

لوحة للفنانة: دلندا الحسن
لوحة للفنانة: دلندا الحسن

جاءت قصيدة النثر فى أواخر الثمانينيات من القرن الماضى؛ لتؤكد رسوخ فكرة الحداثة فى الشعر الأردنى، ومحاولة الشعراء الأردنيين مواكبة من تشهده الساحة الشعريّة فى الوطن العربى من تغيّرات.

وتبدو المقاربة النقديّة للمشهد الإبداعى فى الأردن ذات تجليّات فكريّة وفنية واضحة؛ فهو مشهد تجاذبته تيارات أيدلوجيّة مختلفة، وخضع لأثر الأحداث السياسية، وانعكاساتها الاجتماعيّة والثقافيّة.                                                                                                                 
وأجد نفسى فى هذا التكثيف البانورامى لما استقرّ عليه الإبداع الأدبى فى أكثر الأجناس الأدبيّة انتشارًا: الشعر، والقصة القصيرة، والرواية، وما خطه النقد الأدبى من قدرة على استشراف مظاهر التطور والتجديد فى الإبداع الأدبى.      

                                                                                    
وفى مجال الإبداع الشعرى،  يمكن القول:  إنّ خطاب مئوية تأسيس الدولة الأردنية تجسّد بشكل واضح فى القصائد الشعريّة التى نظمها الشعراء الأردنيون خلال هذه الفترة الممتدة من الزمن التى بدأت بتأسيس إمارة شرق الأردن (1921م)، حيث مجالس الأمير عبدالله بن الحسين التى جمعت الشعراء من أحرار العرب؛ لتكتسب هذه المجالس طابع التنوّع.

والثراء الفكرى الذى عكس رغبة فى التحرر من قيود المستعمر، وتأسيس المملكة العربية الهاشمية، حيث مجالس الأمير عبدالله بن الحسين التى شكلّت نواة مهمة انبثقت منها الحركة الشعريّة فى الأردن، بعدما توافرت أسماء شعريّة مهمة وفدت من الشام والعراق والمغرب العربى إلى الإمارة الناشئة؛ لتحقيق الحلم العربى بدولة عربية موحدة تقاوم القوى الاستعمارية المتسلطة، حيث برز فى هذه المرحلة صوت الشاعر مصطفى وهبى التل(عرار) شاعر الأردن.


أظهر الشعر الأردنى فى مئوية الدولة الأولى تنوّعًا فى الشكل الشعرى، مع غلبة شعر التفعيلة على النموذج الشعرى دون المساس بخصوصية القصيدة العمودية، ورسوخ التراث فيها، وهذا يُبرز طواعية الفكرة الشعريّة للتشكّل فى قوالب معاصرة، والخروج من دائرة التقليدية التى لازمته فى فترة الإمارة، فضلاً عن أثر المعاناة وانعكاساتها النفسيّة فى إثراء النص الشعرى، وإكسابه أبعادًا فكرية خصبة.


وجاءت قصيدة النثر فى أواخر الثمانينيات من القرن الماضى؛ لتؤكد رسوخ فكرة الحداثة فى الشعر الأردنى، ومحاولة الشعراء الأردنيين مواكبة من تشهده الساحة الشعريّة فى الوطن العربى من تغيّرات، وبخاصة أن قصيدة النثر أصبحت شكلًا فنيًّا واسع الانتشار فى الفترة الأخيرة. فبرزت أسماء شعريّة متميزة، مثل: أمجد ناصر، ونادر هدى، وعز الدين المناصرة. 


أمّا فيما يتعلق بفن القصة القصيرة، فارتبطت بداياتها بعوامل ثقافية ومختلفة كانتشار التعليم وظهور الصحف والمجلات، وانتشار المطابع، وهى عوامل شكلت ملامح نهضة ثقافيّة شاملة،  جعلت منابع هذا الجنس الأدبى تتوزع ما بين التراث، والأثر الأجنبى الذى نتج عن التعريب، ومنبع أخر مهم تجلّى فى التفاعل مع فن القصة القصيرة العربية.                                                                
ولعلّ جيل الروّاد فى هذا الجنس الأدبى يمثله خير تمثيل محمد صبحى أبو غنيمة، ومحمود سيف الدين الإيرانى، وعيسى الناعورى، وأمين فارس ملحس. ثم ظهر جيل المجددين الذى جاء أكثر قدرة على تمثّل تقنيات القصة القصيرة فى إبداعاتهم، كما نجد فى قصص خليل السواحرى، ومحمود شقير، وفخرى قعوار.

وقد امتد أثر هذا الجيل فى مرحلة السبعينيات من القرن الماضى فى قصص رشاد أبو شاور، وصالح أبو أصبع، وأحمد عودة، وعلى حسين خلف، وجمال أبو حمدان، ومحمود الريماوى، حيث ظهر أثر الجانب المقاوم فى أدبهم والتزامهم فى قضايا الأمة.  

                                       
 لعلّ التجريب فى الكتابة القصصيّة والتحوّل من المرحلة الواقعية بدأ فى الثمانينات من القرن الماضى،  وما تبعها، إذ استمرت فى امتدادها الإبداعى، حيث تجليّات الحداثة، ووضوح الجانب الفنى بأساليبه الجماليّة فى المجموعات القصصية، كما فى قصص إلياس فركوح، وهاشم غرايبة، ويوسف ضمرة، وخليل قنديل، ورسمى أبو على، وسعود قبيلات، وعدى مدانات، ومحمد طملية، وأمين يوسف عودة. وفى المجال نفسه ظهرت تجارب قصصية نسوية على يد هند أبو الشعر، وسهير التل، وسامية عطعوط.


وجيل التسعينيات كان أكثر تنوعًا فى أساليبه الفنية، وقربًا من الأجيال السابقة حيث المزج بين الواقعية والتجريب، والسرد الغرائبى أحيانًا، وبروز الكتابة النسويّة بشكل لافت للنظر، كما فى قصص مفلح العدوان ويحيى القيسى، وعمار الجنيدى، وجعفر العقيلى، وعماد مدانات، ونبيل عبدالكريم، ومحمد سناجلة، ومريم جبر، وبسمة النسور، ورفقة دودين، ومنيرة صالح.                                          
ولقد جاءت الألفيّة الجديدة لتعكس حداثة جديدة فى الكتابة القصصية ذات تعالقات أجناسيّة، وامتدادات نحو الفضاء الافتراضى، والكثافة التعبيريّة، كما فى قصص عمار الشقيرى، ومخلد بركات، وماجدة العتوم، وأمانى سليمان، وهشام مقدادى، وسمر الزعبي.  

                                                     
وأمّا فى مجال كتابة الرواية، فنرصد بدايات متواضعة للرواية فى الأردن طور التأسيس كما فى « أين حماة الفضيلة»  لتيسير ظبيان (1940) و«ذكريات» لشكرى شعشاعة. 


إنّ ارتكاز الرواية الأردنية منذ نكسة حزيران 1967 إلى الواقعية التسجيلية بشكل يصل إلى حدّ الذوبان أنتج فيها خطاباً مأسوياً، أعاد معها الروائى تشكيل رؤيته لعاداته وتقاليده ومسلمات كانت بالنسبة له حقيقة مطلقة وبخاصة فيما يتعلق بالوحدة العربية، فضلاً عمّا أحدثته المتغيرات العالمية والتطورات العلمية من هزة فكرية ومعطيات جديدة أكثر تعقيداَ أحدثت ثورة من الجدل والشك بما كان يعد سابقاً أنه فكر راسخ، فكانت محاولة الرواية فى الأردن لإدراك أسباب الهزيمة من الداخل والخارج على السواء.

إذ إنّ تصدّع الذات العربية وانهيار المشروع القومى بات  واضحاً: كما فى رواية«الكابوس» لأمين شنار، و«المتميّز» لمحمد عيد، ومجمل أعمال غالب هلسا الروائية.وبخاصة «البكاء على الأطلال». و أوراق عاقر «لسالم النحاس»  و«أنت منذ اليوم» لتيسير سبول.        

            
 وقد حققت الرواية فى الأردن بعد عام 1990م تحولاً مهمًا فى تصوير البيئة الأردنية والمكان الأردنى بكّل صدق، فأصبحت الرواية أكثر تعبيرًا عن واقعها وهموم الأردنيين وأمانيهم.                  
فيما يتعلق بالمنعطفات الفنية، والتقنية الحديثة للرواية فى الأردن، فإنّ ما حققته الرواية على مستوى الشكل من ثورة على الشكل التقليدى للسرد والبحث عن أدوات تعبيرية مرافقة له، وظهور الوعى الحقيقى لمفهوم الحداثة، والتمرد على النموذج الثابت  فى الشكل والمضمون قد بدت جلية فى إبراهيم نصرالله «حارس المدينة الضائعة» ومؤنس الرزاز وهاشم غرايبة «المقامة الرملية» والياس فركوح  «أعمدة الغبار»  وجمال أبو حمدان «الموت الجميل» وسميحة خريس «القرميّة» وغيرهم.                                                                                                                 
ولقد انتقلت الرواية فى الأردن  فى الألفية الجديدة إلى مرحلة جديدة تنتقل من البحث عن الحرية التى صورتها روايات القرن المنصرم إلى مرحلة تجسيد الحرية الفكرية كما تجلت فى معظم النتاج الروائى المعاصر فى الأردن.

وبخاصة الروائى جلال برجس الذى جسّد مرحلة جديدة فى الرواية الأردنية انتقل بها بل أنقذها من الواقعية التسجيلية وكلاسيكية السرد وتقنياته إلى عوالم جديدة من السرد حيث توّج ذلك بفوزه فى روايته «أفاعى النار» بجائزة كتارا للرواية العربية غير المنشورة لعام 2015م، يُقيم صلات وثيقة مع التراث السردى العربى القديم. ثم جاء فوزه بالجائزة العالمية للرواية العربية(البوكر) لعام 2021 متوجًا لهذا التحوّل المهم فى الرواية الأردنية.    

                            
وفيما يختص بالنقد الأدبى، فإنّ الحديث عن الحركة النقديّة الأدبيّة فى الأردن لا ينفصل عمّا تشهده الساحة النقديّة العربية من تطور واضح من ناحية، وعن مجمل الإبداع الأدبى من أجناس أدبيّة أفرزها المشهد الإبداعى فى الأردن من ناحية أخرى؛ فهى حركة دائمة التواصل بين المبدعين تحقيقًا لثقافة عربية واحدة، لا تنفصل عن تراثها الخصب، ولا تنقطع عن حركة الحداثة المستمرة فى الامتداد والتأثير.  

                                                                                                               
وتظهر إرهاصات الحركة النقدية فى الأردن بما كتبه أديب عباسى فى نقده لمقالات العقاد النقدية، فضلًا عن كتابات الشيخ نديم الملاح فى مجلة الحكمة ومحاوراته لكتاب الشعر الجاهلى لعميد الأدب العربى طه حسين، كذلك نعثر فى صحيفة الجزيرة على نقد كتبه رفعت الصليبى لأشعار حسنى فريز مرة باسم مستعار ومرة أخرى باسمه الصريح.                                                                       
وأمّا القضية الأخرى ذات الأهمية البالغة فى المشهد النقدى فى الأردن فتتمثل بتحديات الأدب الرّقمى، وما يفرضه على حركة النقد الأدبى من متطلبات مهمة بعيدًا عن اجترار كلّ ما يُقال عن الثورة الرّقمية، إذ لا بدّ من دراسات نقدية قادرة على فتح آفاق جديدة تستوحى أفكارها من طبيعة التفاعلات النقدية بالأدب التفاعلى أو الأدب الّرقمى.  

        
ولا بدّ من الإشارة فى هذا المجال إلى أهمية ضبط المحتوى الأدبى المنشور وغربلته، ثم تصنيفه وفق الأجناس الأدبية؛ ليتسنى الحكم عليه فنيًّا وموضوعيًّا، وهذا يُحتم على الناقد الأدبى وضع ضوابط وأحكام نقديّة واضحة، وصارمة حول المحتوى الأدبى الالكترونى تستند إلى ذائقة فنية وجماليّة.                                                                                                      
 

اقرأ ايضاً | شهاب طارق يكتب: «حروب صغيرة» تفوز بجائزة «كتارا».. هاشم: لم أتوقع الفوز بالجائزة