عاجل

ديسى أنور تكتب: العقل اللاوعى

ديسى أنور
ديسى أنور

إذا فكَّرنا فى كل الأنشطة التى نقوم بها يوميًّا، سنجد أغلبها أمورًا روتينية بسيطة، أشياء لا نُفكِّر كثيرًا عند القيام بها؛ مثل الاستيقاظ صباحًا، غسيل أسناننا بالفرشاة، الاستحمام، تحضير قهوة الصباح وتناول الإفطار. هذه الأمور نقوم بها بشكل آلى، مثل روبوت مبرمج للقيام بمهام محددة، ولا يتضمن الأمر أى تفكير.

وحتى عندما نقود السيارة إلى العمل، لا نقوم إلا بالقليل جدًّا من التفكير ورد الفعل فى حركاتنا. وكأن الجسد يعرف ما يجب فعله وكيف يفعله، أما أفكارنا فتكون حرة شاردة فى مكان آخر.


فى تلك الأيام، فإن تعاملنا مع التكنولوجيا يكاد يكون فطريًّا أو غريزيًّا. نتناول أى جهاز بالضبط كما نمسك بفرشاة الأسنان من على رف الحمَّام، إلا أنَّ تعاملنا مع التكنولوجيا يتكرر بشكل أكبر، نُحرِّك أصابعنا على الشاشة بدون تفكير، ننتقل من محادثة لأخرى، وبين مواقع التواصل الاجتماعي، نتصفح المحتوى الذى يقع أمامنا بدون أى اهتمام أو تركيز.


ويمكن أن نُستفَز، نتحرَّك أو نُبدى استجابة ما. لكننا نفعل ذلك كرد فعل، يدفعنا لذلك إحساس غريزي، بدون أى تحليل أو تفكير. ثم ننتقل بعد ذلك للمنشور التالى على الصفحة حيث نستأنف ردود الفعل الآلية، فى صورة وجه مبتسم نرسله للآخرين، أو علامة (أعجبنى) وهكذا.


وسنقوم خلال اليوم بأمور كثيرة مشابهة بشكل تلقائى؛ مثل الحوارات الصغيرة وتبادل النكت مع الزملاء فى حدود ما تسمح به العلاقة واللياقة الاجتماعية. قد يحدث ذلك ونحن نشرب الشاى معًا، ننتظر المصعد، عند مبرد المياه أو بينما نعبر على مكاتب الزملاء.


فى المنزل، نتناول الجريدة ونفتح التليفزيون بدون أى دافع إلا التَّعوُّد. الحوار مع شريك حياتنا، أطفالنا أو أصدقائنا، نستخدم العبارات نفسها ونتمسك بالآراء ذاتها كذلك. نتفاعل مع الآخرين بمجموعة من ردود الأفعال النمطية والمتوقعة.

وكذلك هم يفعلون، فهم يتجاوبون معنا بالطريقة نفسها، وبذات الآراء المتوقعة التى يتمسكون بها، أو بالسلبية نفسها وكذلك العناد الذى يتوافق مع شخصيتهم.


وإذا طلبنا المساعدة فى أعمال المنزل؛ فإننا سنتوقع تمامًا شكل استجابة الأولاد أو الزوج، لأنهم دائمًا ما يستجيبون فى كل مرة نطلب منهم المساعدة، ونحن بالطبع نطلب ذلك بالطريقة نفسها المعتادة والتلقائية.


وعندما نشاهد التليفزيون، فإننا نذهب إلى القنوات نفسها ونتفاعل مع البرامج بذات الطريقة المعتادة، يومًا بعد يوم، التفاعل نفسه للبرامج نفسها.


ولو حصرنا النشاطات التى نقوم بها عبر اليوم، سيبدو أننا نمضى وقتنا فى أعمال تلقائية، اعتيادية، ميكانيكية. أعمال هى فى أغلبها مجموعة من ردود أفعال لا تتطلب سوى قدر قليل جدًّا من التحليل، الحسابات والتفكير.


وينطبق هذا أيضًا على الأفكار والمشاعر التى نمر بها خلال اليوم، والتى يسهل توقعها لأنها تتكرر دائمًا، وكأن هناك لوحة من الأزرار فوق صدورنا مبرمجة بشكل مُسبق لتصدر الاستجابة نفسها كلما تم الضغط عليها. لو قابلت زميلًا غير متعاون أو شخصًا لم يرتق لمستوى التوقع.

 

وما سيحدث حينها هو أن زر نفاد الصبر وزر العصبية سوف يُبديان استجابة. عندما لا يفعل الأطفال ما طلبناه منهم أو أن الزوج/ الزوجة لا يصغى لنا بشكل جيد، سينطلق زر الغضب مصحوبًا بصوت يصمّ الأذان.


كل هذا يدفعنا للتساؤل: إذا كان من المفترض باعتبارنا بشرًا أن نكون مُفكرين، مُبدعين، واعين وأذكياء: أين هو ذلك الشخص العاقل إذا كنا - أغلب الوقت - نتصرف بطريقة آلية؟ إذا كانت العادة والاستجابات المبرمجة مسبقًا تتحكم فينا؟
يمكننا على الأغلب أن نُحصى الدقائق التى نمضيها ونحن نفكر بطريقة واعية للخروج بأفكار جديدة، عندما نُفكٍّر فى حل لمشكلة ما فى العمل، أو عندما نبحث عن أعذار مقبولة للخروج من مأزق ما، خاصةً عندما تنفد حصيلتنا من الحجج المعتادة.


سنجد أننا بحاجة للتفكير العميق وتقييم موقف ما خلال تلك اللحظات النادرة التى نتواجد خلالها فى بيئة غير مألوفة أو تائهين فى مدينة غريبة. ربما يحدث ذلك خلال أزمة نمر بها أو إحساسنا بشعور غير معتاد، مثل أن ننجذب أو نقع فى حب شخص ما. فى هذه الحالة، تتيقظ كل حواسنا وتعمل أذهاننا بكامل طاقتها.


وبرغم أننا كائنات واعية، فنحن واعون للقليل من الوقت. بينما فى أغلب الوقت يتحكم فينا ويُحركنا اللاوعى. ذلك الجزء من كياننا الذى يُشكِّل معظم إدراكنا. الجزء الذى يُمكِّننا من قيادة سيارتنا بينما نحلم وتشرد أدمغتنا بعيدًا. أن نغسل أسناننا ومع ذلك لا نستطيع تذكر ذلك. أن نستجيب لكل شىء بنفس الآراء، نفس المعتقدات. أن نفعل أشياء بلا أى سبب سوى التَّعوُّد، لأن ذلك مغروس بداخلنا.


نعم، اللاوعى هو تراكم سنوات من التعلُّم، التأقلم والتكرار عبر دروس ورسائل تلقيناها فى سنوات الطفولة عندما كان من السهل أن نتأثر بكل ما يحدث حولنا وكل ما نتعرض له. من كلمات وتعامل الأبوين، الأقارب، المدرسين، الزملاء والبيئة التى أثرت علينا بينما نكبر فى السن ونتطور ونصبح بشرًا ناضجين.


وحقًّا، يبدو أنَّ اللاوعى تكوَّن من انطباعات رسخت فى أذهاننا من الماضى، وأصبحت جزءًا من ذواتنا حتى أنها حاضرة فى أجسادنا. لدرجة أنَّ أجسادنا تعرف كيف تستجيب للمؤثرات الخارجية قبل أن تدرك عقولنا ما يحدث أصلًا.


مشاعر مثل الغضب، الضيق، الانزعاج ومشاعر أخرى يبدو أنها موجودة بشكل غريزى بحيث تتجاوز تعقيدات تفكيرنا. فى الحقيقة، عندما نستجيب بناءً على اللاوعي؛ فإنَّ ذلك يُخرج العقل من المعادلة ويجعله قاصرًا عن إدراك ما يحدث.


وهكذا، فعندما يقودنا اللاوعي، فإننا نخضع تمامًا للماضى. نعيشه بشكل حقيقى. وبينما يتقدم بنا العمر نلاحظ أننا نسلك سلوك أهلنا، سنقول الكلمات نفسها التى كانت تقولها لنا أمهاتنا فى صغرنا.


ليس هناك أى مشكلة فى أن يتحكم فينا اللاوعى إذا كانت حياتنا تسير على نحو نرضاه ونقبله، فبسبب هذا اللاوعى أصبحنا أشخاصًا أفضل وأكثر نضجًا.


ويتشكل اللاوعى الخاص بنا خلال السنوات التى كنا خلالها كيانات هشة، غير ناضجة، ضعيفة، غير مُدركة لكيفية عمل العالم والطريقة الأفضل للتعاطى معه. نتلقى رسائل مباشرة وغير مباشرة خلال سنوات النضج التى لا نكون فيها قادرين على تكوين أحكام صائبة أو آراء بخصوص أى شىء ، أو التفكير والسلوك الصحيح. عندما كنا لا نزال معتمدين على البالغين وتأثيرهم فى حياتنا واستجاباتنا لسلوكيات مثل العطاء، الأخذ، وحتى إخفاء مشاعر الحب والعاطفة.


وعندما نكبر، يُبقينا اللاوعى على هذه العادات المريحة، الآراء التى تجذرت داخلنا والاستجابات المألوفة التى تحافظ على شعورنا بالأمان، حتى إن تسببت فى النهاية فى معاناتنا. فى النهاية، فإنه من الأسهل أن نعيش فى المعاناة والألم، نعرفهما ونقبلهما كجزء من تكويننا، عن أن نغامر فى مناطق جديدة لم نجربها من المشاعر والخبرات الحياتية.


ولو عرفنا تأثير اللاوعى الضار على صحتنا النفسية والشخصية؛ مثل هدم القدرة على القيام بالتمرينات أو التخلِّى عن الأكل غير الصحى لأن عاداتنا المتجذرة تجعل الأكل حلًّا لمشاكل مثل الحزن أو الألم.

وتربط التمرينات الرياضية بالأولاد المزعجين المهووسين بعضلاتهم والذين لا تعجبك صحبتهم. لا يجب أن نستسلم لهذه العادات الشريرة وطرقها للسيطرة والتلاعب بنا، يمكننا أن نثور عليها ونرفضها.


كيف؟ 
بأن نقوم بتدريب اللاوعى على القيام بالأمور بشكل مختلف. سيكون الأمر صعبًا فى البداية، مؤلـمًا. أن تلبس حذاء الرياضة بنية الركض الصباحى قد تبدو مهمة هائلة ومرهقة، ويتحجج جسدك بكل أنواع الحجج لمقاومة هذا النشاط غير المألوف.

وستشعر بمقاومة داخلية، سيغريك دفئ السرير والاستلقاء أمام التليفزيون على الأريكة. الجو بارد أو حار. تبدو سخيفًا فى هذا الزى. أنت مرهق بالفعل قبل أن تركض خطوة واحدة. وأيضًا، لماذا تبذل هذا الجهد فى حين لا يوجد من تريد إثارة إعجابه.. وهكذا.


لكنك إذا تحليت بالإصرار وأجبرت نفسك على فعل شىء جديد، شىء مختلف وأفضل كثيرًا مما تعوَّدت عليه؛ فإنك فى مرحلة ما سوف تتخلص من هذه العادة القديمة التى استقرت داخلك لزمن طويل.

ذاتك الكسولة والعجوزة التى لا ترى أى قيمة فى الرياضة والحفاظ على الصحة، سوف تستبدلها بذات جديدة، شابة، عفية وربما أكثر سعادة لدرجة أنَّ الآخرين لن يتعرفوا عليك، حتى أنت لن تستوعب التغيير.


وبإمكانك فعل هذا فى جميع مناحى حياتك وذاتك التى ترى أنها ليست ذات فائدة لك، بما فى ذلك العادات، الميول، الآراء والاستجابات العاطفية التى تُبقيك مُحاصرًا فى خندق. يمكنك ذلك بأن تقوم بتغيير طريقة فعل والنظر إلى الأمور. بأن تتبنى سلوكًا مختلفًا ومنظورًا جديدًا. أن تحاول القيام بأمور غير مألوفة وتجارب جديدة، كما يمكنك تعلُّم مهارات جديدة واستقبال معلومات مختلفة.


وإذا فعلت هذا لوقتٍ كافٍ، فلن تستمر سيطرة اللاوعى وحدوده التى فرضها عليك. بل على العكس، سيصبح عقلك الواعى هو القائد، سيقوم بتشكيل عادات وذكريات واستجابات جديدة تصب بدورها فى خلق محتوى جديد وأفضل للعقل اللاواعى.


والمرة المقبلة التى تشعر فيها بالكسل أو الرغبة فى أكل غير صحي، سيُنبهك اللاوعى بهدوء أنَّ هذا ليس أفضل شىء تفعله. وسرعان ما يصبح ارتداء الحذاء الرياضى أول ما تفعل فى الصباح، ويتحول إلى عادة صباحية جديدة. 


اقرأ ايضًا | عائشة المراغى تكتب: جوائز ساويرس الثقافية بين الفوز والاستثناء والرفض تثير الجدل