سالتيكوف شيدرين يكتب: الخزي

سالتيكوف شيدرين
سالتيكوف شيدرين

«أنا من نسل عائلة نبلاء قديمة. كنيتى الحقيقية هى جاديوك، أما كنية أوتشيشيونى فقد التصقت بنا بعد حادث معين سوف أحكيه لكم فى الوقت المناسب، فيما يتعلق بأصول أجدادى فثمة حكايتان: الأولى غير موثوقة تعود إلى مؤرخ جليل من موسكو، والثانية أقل موثوقية وقد تشكلت هنا فى بطرسبرج.


يُعيد المؤرخ الموسكوفى الجليل أصلنا إلى نوفجورود من عصور ما قبل التاريخ. كان هناك إنسان حسن النية من نوفجورود (وفى قصص أخرى يقولون إنه كان لصًّا) يُدعى دبروميسل جاديوك، وهو من فكر قبل الآخرين فى استدعاء الفارانجيين وأعلن عن فكرته لسكان نوفجورود فى الاجتماع الشعبى العام.

وقال لهم: «منذ زمن بعيد والفارانجيون يعلموننا كيف يجب أن نسلك؛ يحرقون المدن والقرى وينهبون الممتلكات ويقتلون الأزواج ويغتصبون الزوجات، ولكن كل ذلك لا يتسم بالعقل أو الذكاء! ما السبب فى رأيكم أيها الأصدقاء الأعزاء؟».

ولكن مواطنى نوفجورود بدلًا من الإجابة اكتفوا بحك رؤوسهم. واصل جاديوك حديثه قائلًا: « أنا أعرف السبب. السبب يا أصدقائى الأعزاء هو أنه بالرغم من أن الفارانجيين يعلموننا التفكير فإنهم لا يتبعون الأساليب الصحيحة. يسرقون ولكن ليس على التوالى.

ويقتلون ولكن فى وقت غير مناسب. يغتصبون ولكن ليس بحسب القانون. اتضح إذن أننا لا نفهم علمهم، وهم لا يريدون تعليمه لنا. أليس هذا صحيحًا يا إخوتى؟». ارتعدت قلوب أهل نوفجورود، لكنهم فهموا أن جاديوك يقول الحقيقة.

وصاحوا جميعًا بصوت واحد: «صحيح!». قال لهم: «أرى إذن أن نرسل فى طلب المشاة الفارانجيين ونقول لهم: أيها السادة الفارانجيون! بدلًا من الإغارة علينا يمكنكم أن تسرقوا الممتلكات وتحرقوا المدن وتغتصبوا الزوجات، ولكن فلتفعلوا ذلك فى المستقبل وفقًا للقانون! هل ما أقوله صحيح؟».

وارتجفت قلوب أهل نوفجورود مجددًا، ولكن نظرًا لأن حقيقة حديث جاديوك كانت واضحة للجميع صاحوا جميعًا بصوت واحد: «صحيح!». حينها تقدم الشيخ جوستوميسل وتساءل: «ولماذا تعتقد يا جاديوك ذا النية الطيبة أن السرقة وفقًا للقانون أفضل من السرقة المخالفة للقانون؟».

وأجاب جاديوك باختصار: «كيف ذلك؟ هل يمكننا أن نقارن بين فعل قانونى وفعل غير قانونى؟ من الواضح للجميع أن الفعل القانونى أفضل». تعجب أهل نوفجورود من حكمة جاديوك وقرروا أن يدعوا الفارانجيين ليحرقوا المدينة وينهبوا الممتلكات ويغتصبوا الزوجات وفقًا للقانون!


وما قيل حدث. وصل من البحر ثلاثة أمراء: روريك من نوفجورود وسينويس من لادوجا وتروفور من إزبورسك. وصلوا واستلقوا ليناموا بعد وعثاء الطريق. ما إن ناموا حتى حلموا ثلاثتهم بسلسلة واحدة من الصور تمثل مصير وطنهم المستقبلى.

أولًا: الفترة المحلية وفيها يحرق الأمراء. ثانيًا: الفترة التترية وفيها يحرق التتار. ثالثًا: الفترة الموسكوفية وفيها يحرقون ويُغرِقون فى النهر ويسجلون فى السينودك. بعدها فترة الدجالين حيث يحرقون وينتفون لحى بعضهم. بعدها فترة حملة ليب حيث يحرقون ويضربون بالسوط ويقطعون الألسنة ويوزعون الفلاحين ويشربون المشروبات الهنغارية.

بعدها يصدر الأمر إلى المحافظين بضرورة التدخل فى القوانين فى الوقت المناسب، ثم إنشاء حكومات المقاطعات «كيفية إيجاد مبرر لائق لجريمة التدخل فى القوانين»، وأخيرًا ظهور المدعين العامين «كيف يجرى اصطياد الناس من دون شبكة؟».

وأُصيب ثلاثتهم باضطراب عظيم ولم يعرفوا ما العمل. فكروا: ماذا لو تحقق هذا البرنامج كله بسببنا؟ شعروا بالحسرة؛ تحسر الأول سينويس من لادوجا وأغرق نفسه فى بحيرة، وتحسر الثانى تروفور من إزبورسك وشنق نفسه بالعنان.

أما روريك، ونظرًا لتمتعه بعقلية حرة، فلم يرغب فى مثل هذا الموت العبثى الفورى. عقد اجتماعًا وتوجه إلى أهل نوفجورود بهذه الخطبة: «حلمت أيها السادة النوفجوروديون حلمًا سيئًا. مرت بى فى الحلم فترات حكم حكومات المقاطعات، ثم حكم مجلس ممتلكات الدولة.

حل عليَّ الحلم ككارثة إلى درجة أنى لا أعرف ما الأنبل بالنسبة إليَّ: أن أُغرِق نفسى أم أشنقها؟». لكن عندما رأى النوفجوروديون أن أميرهم يتمتع بعقلية حرة لزموا الصمت، وفكروا فى أنفسهم: الاختياران ليسا سواء؛ قد تتمزق عقدة حبل المشنقة، وقد يجف فى الماء.

وبماذا ننصحه؟ تمتم جوتوميسل: إمم! وأسلم الروح! حينها تقدم جاديوك ذو النية الحسنة وأجاب باسم الجميع: «فى رأيى سعادتكم، إذا نُفِّذ البرنامج كله لاحقًا فلن يكون هناك داعٍ لتغرق نفسك أو تشنقها».

استغرق روريك فى التفكير، وأعجبته كلمات جاديوكين، ولكن من ناحية أخرى فكر: الفترة المحلية - الفترة الموسكوفية - الفترة التترية... أمر سيئ! كيف يمكنه أن يُدبِّر الأمر بحيث يلقى بالذنب كله على كاهل النوفجوروديين. قال: «أخى العزيز! سيُكتب فى جميع الكتب المدرسية أن هذه الأمور تمت بسبب روريك! سيحفظ جميع الدارسين فى المؤسسات التعليمية أن روريك وعد أن يسرق بحسب القانون وهذا ما حدث!».

أصر جاديوك ذو النية الحسنة: «لا تهتم بذلك! دعهم يحفظون ما يشاءون! أنت وحدك يا صاحب السعادة من سيمسك بزمام الأمور، وستكون واثقًا بأنك ستظل فى مكانك هذا لألف سنة». حينها سُر روريك.

وقال: «لقد حلمت بذلك فعلًا...»، وقاطعه جاديوك قائلًا: «حتى الفنان ميكيشينا حلم بذلك، ولكن من تواضعه صمت. ما رأيكم إذن أيها السادة النوفجوروديون؟ ألن تبصق يا سيدى على هذه المخاوف؟». كرر جاديوك: «فلتبصق عليها!».

مرة أخرى تعجب أهل نوفجورود من حكمة جاديوك وصاحوا بصوت واحد: «فليبصق!». أمسك روريك بزمام الأمور وقال: «كما ترون!» وبدأ يسلك بحسب القانون!».


اختتم أوتشيشيونى حديثه: «وكان هذا أول سلف لنا يتسم بالموثوقية»، ناظرًا إلينا نظرة انتصار، مقاطعًا أحداث القصة ليتأكد من الانطباع الذى تركته فينا سلالته وحذفت الهوامش لاعتبارات المساحة.

اقرأ ايضًا

ماهر شفيق فريد يكتب: محمد عناني رحلة عمر بين لغتين