الأصدقاء الثلاثة وسياسة المخدرات

إيهاب فتحى
إيهاب فتحى

.. قبل أيام أختتمت قمة دول أمريكا الشمالية، الولايات المتحدة، كندا،المكسيك، بحضورالرئيس الأمريكى جو بايدن ورئيس وزراء كندا جاستن ترودو ورئيس المكسيك أندريس مانويل لوبيز وأطلق على القمة قمة الأصدقاء الثلاثة.

عندما يحضر رئيس الولايات المتحدة إحدى القمم ومعه رئيس وزراء كندا ورئيس المكسيك يتجه التصور إلى الأجندة الاقتصادية بواقع أن الاقتصاديات الأكبر فى العالم حاضرة القمة ممثلة فى الولايات المتحدة وكندا ولا تستثنى المكسيك البلد ذو الموارد الضخمة لكن كان على رأس أولويات القمة " الفنتانيل" الرعب الذى يهدد حياة الملايين فى أمريكا.

قبل سنوات كان تهريب وتجارة المخدرات من الحدود المكسيكية إلى الداخل الأمريكى همًا دائمًا يشغل عقل الأجهزة الأمنية الأمريكية ومازال هذا الهم يطارد هذه الأجهزة التى تلاحق الأطنان من مخدر الكوكايين والهروين التى تتولى العصابات أو الكارتلات المكسيكية جلبها وتهريبها إلى داخل الولايات المتحدة وتحقق من وراء هذه التجارة مليارات الدولارات لتصبح التجارة الأعلى ربحًا فى العالم، طوال هذه السنوات كانت الحرب دائرة بين الأجهزة الأمنية الأمريكية والعصابات المكسيكية وتدخل الجيش الأمريكى أيضًا فى هذه الحرب بكل قوة.

من حين إلى آخر تعلن المكسيك عن سقوط زعيم من زعماء العصابات فى أيدى أجهزتها الأمنية وكان آخرهم الـ تشابو امبراطور المخدرات الذى تحول القبض عليه وهروبه من السجون المكسيكية مرتين إلى ملحمة شعبية فى هذا البلد اللاتينى، وعقب الهروب الثانى لتشابو وإلقاء القبض عليه للمرة الثالثة لم تتحمل الولايات المتحدة وتدخلت بكل قوتها لكى ينتقل تشابو من سجون المكسيك إلى سجونها بعد أن وضع الكونجرس الأمريكى القوانين التى تسمح للقوة الأمريكية سواء الجيش أو الأجهزة الأمنية التدخل فى أى مكان بالعالم لمطاردة تجار المخدرات وإلقاء القبض عليهم وإحضارهم للسجون الأمريكية لتتم محاكمتهم.

هذه اللعبة الدموية والخطرة التى تحركها المكاسب المليارية جعلت الولايات المتحدة دائمة الاتهام للمكسيك وحكومتها بأن الفساد وضعف الإدارة هو مايسمح بتنامى وجود هذه العصابات وعلى الناحية الأخرى فالمكسيك كانت ترى أن سياسات الولايات المتحدة هى سبب هذه الكارثة فالبلدان الحدودية المكسيكية هى الأفقر فى البلاد وسكانها يعتمدون على العمل الموسمى داخل الولايات المتحدة لكن سياسات الهجرة الأمريكية المتشددة تمنع العمال المكسيكيين من دخول أمريكا مما يجعلهم صيدًا سهلا للعصابات فيعملون معها بالإضافة إلى أن ترسانات الأسلحة التى تمتلكها هذه العصابات وتتفوق فى شدتها على ما تمتلكه أجهزة الشرطة المكسيكية، كل هذه الأسلحة يتم تهريبها من الولايات المتحدة إلى المكسيك لسهولة شراء وبيع السلاح فى الولايات المتحدة وتجنى العصابات الأمريكية والمكسيكية من وراء تهريب الأسلحة ملايين الدولارات.

الاتهام الأخطر الذى توجهه كثير من الدوائر السياسية والإعلامية فى القارة الأمريكية اللاتينية وليس المكسيك فقط تجاه الولايات المتحدة أن هذه التجارة الشيطانية متورط فى إدارتها والسيطرة عليها جهاز المخابرات الأمريكى الـ cia  لأسباب سياسية واستخباراتية تهدف لاستخدام هذه العصابات والأرباح التى تتحقق فى تمويل عمليات قلب أنظمة الحكم التى لاترضى عنها أمريكا وأجهزة مخابراتها فى بلدان القارة اللاتينية المنكوبة بالجارة الأمريكية العظمى.

لم تأت هذه الاتهامات من فراغ فتاريخ المخابرات الأمريكية حافل بالفضائح حول تورط الـ cia  فى هذه العمليات القذرة من كونترا جيت إلى بابلو اسكوبارو امبراطور المخدرات بكولومبيا فى التسعينات غير مئات الحوادث الغامضة التى راح ضحيتها أشخاص وصحفيين أمريكيين حاولوا كشف أسرار هذه العلاقة الخطيرة بين المخابرات الأمريكية وكارتلات المخدرات فى أمريكا اللاتينية.

تعتبر تلك هى القواعد التى كانت تحكم هذه اللعبة الدموية الخطرة من تورط مخابراتى أمريكى غامض وسياسات أمريكية لا تحل المشكلة من جذورها من أتباع عمليات تنمية فى البلدان الحدودية الفقيرة وضعف إدارة وأجهزة أمنية من دول أمريكا اللاتينية حتى ظهر " الفنتانيل " على ساحة تجارة المخدرات ، والفنتانيل هو دواء فى الاساس لعلاج حالات الألم الرهيب التى يسببها مرض السرطان وهو مخدر مخلق يتم تصنيعه من مواد كيميائية  وتأتى خطورة الفنتانيل بأنه يمكن للإنسان تعاطيه بأكثر من طريقة عن طريق الاستنشاق أو الحقن أو أقراص أو لاصقات توضع على الجلد ولاتعتبر تركيبته الكيميائية معقدة فيسهل تصنيعه من قبل عصابات المخدرات وأيضا يسهل تهريبه بكميات ضخمة بكافة صور تصنيعه.

وجدت كارتلات المخدرات فى الفنتانيل فرصة ذهبية فى زيادة مكاسبها المليارية فهو لا يحتاج إلى عمل ضخم من أجل وصوله الى صورته النهائية ليحصل عليه المدمنون فى الولايات المتحدة عكس المخدرات الأخرى وعلى رأسها الكوكايين الذى يحتاج إلى مساحات كبيرة من أجل زراعة نبات الكوكا ثم إنشاء معامل ضخمة لاستخلاص المادة الفعالة ثم تصنيع مخدر الكوكايين وهو مايلزم توفير جيوش من رجال العصابات المدججين بالسلاح وملايين من الدولارات تنفق لحماية هذه الصناعة الإجرامية بالإضافة أن تهريب الكميات الكبيرة من الكوكايين يحتاج إلى طرق معقدة والأهم بالنسبة إلى عصابات المخدرات أن تأثير الفنتانيل أقوى على المدمن من الكوكايين ويمكن أن يحصل عليه المدمن بسهولة وبسعر غير كبير لأن عمليات تصنيعه وتهريبه غير مكلفة.

فى فترة وجيزة اجتاح الفنتانيل الشوارع الأمريكية وبكافة أشكاله وفوجئت وكالة مكافحة المخدرات الأمريكية وأجهزة الأمن فى الولايات المتحدة بهذا الوباء القاتل وتأثيره المدمر على من يتناوله والأخطر أن الأطفال والصبية يقبلون عليه بشدة لسهولة الحصول عليه ولتأثيره الفعال واستطاعت كارتلات المخدرات تحويله إلى لعبة فى أيدى الصغار عن طريق تصنيع أقراص ملونة منه كأنها حلوى وإذ كان للدول أجهزة دعاية فكارتلات المخدرات امتلكت هى الأخرى وسائل دعاية لترويج الفنتانيل بين الأطفال والصبية والشباب عن طريق وسائط السوشيال ميديا.

بدأت الإحصاءات الكارثية تتوالى لتدرك الدولة الأمريكية أنها لا تواجه مخدرًا عاديًا بل وباءً ففى عام 2021 توفى 100 ألف أمريكى بسبب هذا المخدر وأن معدلات الوفاة ارتفعت فى العام الماضى لتصل إلى أن فى الساعة الواحدة يموت المئات من وراء هذا المخدر وبدأت التقارير التى تأتى من المدارس الأمريكية بمراحلها الثلاث مرعبة ففى كل يوم يتعرض آلاف الطلبة إلى إصابات مميتة بسبب تناول جرعات زائدة من هذا السم وأن من سقطوا نتيجة لتناول الفنتانيل يتفوق عددهم على من راحوا ضحية وباء كورونا ومافقدته الولايات المتحدة خلال حروبها على مدار تاريخها.

الصدمة الكبرى التى هزت الولايات المتحدة هى وفاة الكثير من الأطفال الرضع نتيجة لتناول أمهاتهم الفنتانيل والكارثة الأكبر أن الأطفال الصغار عندما يتواجدون مع  آباء يتناولون هذا السم وبمجرد ملامستهم له يتوفون فى الحال بعد تعرضهم له وهو ما اضطر هيئة الدواء الأمريكية إلى السماح إلى أى شخص بالحصول على علاج مضاد لنوبات التسمم من الفنتانيل دون الحاجة إلى تذكرة طبية وهو لم يحدث من قبل فى الولايات المتحدة فلا يمكن صرف أى علاج دون موافقة طبية .

أمام هذه الكارثة أعتبرت الدولة الأمريكية بكل مؤسساتها من البيت الأبيض إلى الكونجرس والأجهزة الأمنية أنهم لا يواجهون مخدرًا بل خطرا وجوديًا يهدد المستقبل الأمريكى، وقبل قمة الأصدقاء وحتى تعقد القمة فيجب أن تقوم الأجهزة الأمنية فى المكسيك بالقبض على أفيديو جوزمان ابن تاجر المخدرات التشابو والذى يدير كارتل سينالو بعد سجن والده والمسئول عن جزء كبير من تجارة الفنتانيل إلى الولايات المتحدة وهو ما اضطر الجيش المكسيكى للقيام بعملية عسكرية من أجل إلقاء القبض عليه نتج عنها مقتل المئات وتدمير وإحراق العديد من المنشآت الحكومية فى العديد من البلدان المكسيكية والغريب أن المكسيك قبضت على تشابو الابن فى العام 2019 لكنها اضطرت إلى إطلاق سراحه عقب تهديد العصابات بتحويل المكسيك إلى جحيم من العنف وهناك شرط آخر وضعته الولايات المتحدة هو تسليم تشابو الابن إليها من أجل محاكمته وسجنه وهو ماسيؤدى إلى تفجير العنف فى المكسيك حيث يعتبره الكثيرون بطلا شعبيًا يقف فى مواجهة القوة الأمريكية وأيضا لما يقدمه من دعم إلى فقراء المكسيك.

بعد القبض على تشابو الابن لم تقتنع الولايات المتحدة وطالبت بالقبض على كافة العصابات المكسيكية التى تهرب وتتاجر فى الفنتانيل وهو ما لاتتحمله الدولة فى المكسيك بسبب ضعف إمكانياتها، لكن خلال القمة وما قبلها بدأت تظهر أبعاد أخطر طرحتها الولايات المتحدة حول من يقف وراء هذا المخدر الشيطانى ويخرج موضوع الفنتانيل من حدود العصابات والكارتلات إلى الصراع بين الولايات المتحدة والصين فواشنطن تتهم شبكات وشركات صينية غامضة أنها المورد الأساسى للمواد الكيميائية التى يصنع منها الفنتانيل وأن هذه المواد تصل إلى عصابات المخدرات بطرق معقدة وأن الأمر لا يرتبط بنشاط إجرامى بين عصابات فى الصين وكارتلات المخدرات فى المكسيك وأمريكا اللاتينية بكاملها بل هو ضمن المحاولات الصينية للسيطرة على أمريكا اللاتينية ومد نفوذها داخل هذه القارة لتصبح بكين تهديدًا دائمًا لواشنطن وعلى حدودها وأن بكين تستخدم كل الطرق فى هذا حتى لو عن طريق السيطرة على كارتلات المخدرات التى تجعل الولايات المتحدة تدفع ثمنًا فادحًا ولا يعوض بفقد أهم ما تملكه وهو شبابها نتيجة إدمانهم الفنتانيل.

سواء صدقت الاتهامات الأمريكية ضد الصين أو لم تصدق فيبدو أن التاريخ يتشكل بطرق مختلفة فالصين تعرضت إلى خطر وجودى فى القرن الـ19 نتيجة حرب الأفيون التى شنتها عليها بريطانيا والولايات المتحدة وفقدت الصين الملايين من شعبها نتيجة إدمانهم للأفيون فهل بعد قرنين من حرب الأفيون تشرب الولايات المتحدة من كأس الفنتانيل؟.