بقلم د. علاء الجرايحي: مرآة الواقع.. الصورة أجمل

د. علاء الجرايحي
د. علاء الجرايحي

قبل تغلغل التكنولوجيا وانتشارها، كانت المرآة قديمًا تعكس الصور الحقيقية لمَنْ ينظر إليها، أو بالأحرى كانت تُظهر جزءًا من هيئته حسب جودة الزجاج المصنوعة منه، إلى أن تفنَّن المُبتكرون والصُنَّاع المهرة وجعلوها تُظهر الصور عالية الجودة، ولكى تُظهر تلك الصور بوضوحٍ، كانت تحتاج إلى تسليط الضوء على الناظر إليها جيدًا، وعلى حسب درجة بُعده وقُربه تَظهر المعالم أكثر، ومع اختراع الكاميرات التليفونية ذات التقنية عالية الإمكانات والإمكانيات، أصبحت الصور المرئية للأشخاص تُظهر معالم غير موجودة فى الواقع، بل أخرجتها أكثر نقاءً وبريقًا، لدرجة أننا أحببنا الصورة عن الأصل، فانصبَّت رؤيتنا على المظهر الخارجي المُعدَّل تقنيًا، وبعدنا عن الجوهر الإنساني الحقيقي، وبدلًا من تقييمنا للأشخاص من خلال أفعالهم وأعمالهم وأقوالهم، أصبح التقييم مبنيًا على الشكل الجميل، والمظهر الحَسن، ولابسي القلادات المزيَّنة والحُلى المُزخرفة، التي تخطف الأنظار، لهذا اتجه كثيرٌ من البشر لشراء أجهزة تليفونية عالية الجودة والدِقَّة لتحسين المنظر، ودفعوا نظير ذلك دم قلوبهم من رواتبهم الضعيفة لامتلاك تلك القطعة الإلكترونية غالية الثمن التى تُجمِّل مناظرهم دون جواهرهم؛ وذلك لمشاركتها عبر صفحات السوشيال ميديا بجميع أشكالها المُتعددة.

من كلمات الإمام الغزالي قوله "تكلَّم حتى أراك"، وفى المأثورات قديمًا "مصرع الرجل بين فكيه"، وكانت وصمة عار الرجال أن يُكثروا الحديث بالقِيل والقَال، ونهش الموتى وهم رقادٌ في قبورهم، إلى أن جاء هذا الزمان ورأينا كُتَّابًا ذات قيمة ومكانة بالمجتمع تنبش القبور، وتُؤرق مضاجع سُكانها، لا لتحسين صورهم أو التحدُّث عن ملكاتهم ومحاسنهم فى دنيا الأدب والفكر والعلم، ولكن لنهش لحومهم وتقطيعها إربًا، حتى تُسلِّط عليهم الأضواء، لتغيير الصورة المحفورة عنهم؛ فظهرت صورهم الحقيقية بجلاءٍ وبدون تنقية لها كما رآها البعض.

مرض نفسى خطير ساور الكثير من المشاهير لحظة ابتعاد الأضواء عنهم لفترة زمنية، هذا المرض كان لابد له من علاج فعَّال وسريع عن طريق معرفة عِلل هذا المعلول، وكشف مرضه، ثم إخباره بأنه مريضٌ بمرض الشهرة وتسليط الأضواء، وتعريفه بأن الشهرة تأتى من العمل الجاد، والكلمة المسئولة، والفكر البنَّاء، والعطاء الإيجابي الدائم لمُشاهديه وسامعيه أو مُنتقديه، ولن تكون تلك الشهرة قطعًا بالأمور المُستفزة للمشاعر، المُثيرة للفتن، والمُنفِّرة للمجتمع، التي تُثير السخط العام، لكى يُعاد تسليط الأضواء مرةً أخرى عليه، فالكلمة مسئولية، وهى عنوان الرجل، وبكلمة تدخل جنة أو تشقى في نار جهنم، والكلمة تُظهر قدر صاحبها، فإما أن تضعه عاليًا، او تُلقى به أسفل الأرض، ولطالما هى كلمة، فبالطبع دائمًا موجودة فيمن يحترمها شُهرةً ومكانةً وقيمةً.

قطعًا سيجد مجانين الشهرة منصات كثيرة تستضيفهم، حتى يتسنى لهم الظهور بشكلٍ مُستمر، فأضحينا الآن نُشاهدهم بالبرامج لساعات بلا فائدة، كأنها جلسات سمر نسائية كتلك التى كنا نُشاهدها قديمًا على المصاطب أمام المنازل، فأُبيح لهم الكلام عن كل شىءٍ وفى أي شىءٍ وبأى وقت، فظهرت وجوههم الحقيقية، وصورهم الطبيعية دون تنقية، وحِرفية لقطات الكاميرات المتطورة التي تُجمِّل الشكل ولا تُحسِّن الجوهر أو القول، فيا علماء وأدباء وقادة بلدنا، إن كلمتكم أمانة تصنع رجالًا وتبنى حضارات، ويُمكنها أن تُنهى "تاريخ"، ويا أيها الفنان إن لم تُدرك قيمة تلك الكلمة التي تنطقها على الملأ، فأنت تحتاج إلى مراجعة نفسك ثانية، حتى لا يُبيد التغيير تاريخك، ولا تجعل مرض الشهرة يُسابقك إلى النهاية، فنحن نعيش في وطن يحتاج إلينا جميعًا؛ لكى نبنى فيه، ونُعلِّم الآخرين كيف تكون الكلمة وكيف تكون المسئولية، لا تعليمهم كيفية صناعة الفوضى والعشوائية والقول غير المسئول؟!

تخيلت أن الإعلام البنَّاء سينتشر بشكلٍ مدروس، يُنمِّى الوطنية والانتماء وحُب الوطن، واحترام الآباء والمدرسة والمعلم والعِلم، وسيستفيد من مواقع التواصل بشكل كبير عبر مُخطط مدروسٍ وُضع بعناية، لبناء شكلٍ محترم له يُقاوم من خلاله كل أشكال وأدوات التطرف والخلل الاجتماعي، لا أن ينجرف إلى المُستنقع ويتشبَّه بالقنوات المشبوهة التي كانت تُحاول تلويث أفكار الشباب وجميع أفراد الأسرة المصرية.. ورسالتي في هذا المقال للإعلاميين والصحفيين والآباء والمُخلصين لهذا البلد، بأن العالم يتغيَّر بشكل سريع جدًا ومستمر حولنا، وأبناؤنا هم ورثة هذا الوطن من بعدنا، يحتاجون إلى إرثٍ قيِّم ملئ بالعلم والثقافة والتكنولوجيا والتاريخ والاقتصاد والإعلام، إنهم يرغبون منا أن نترك لهم إرثًا محترمًا منها، وكلمة شريفة نزيهة تُساعد على البناء لا الهدم، نحن بحاجة للدين الوسط الذى يُرسِّخ مبادئ السلام والحُب والخير للجميع.. حفظ الله مصر من كل سوء.