عبد الله عبد الفتاح يكتب: بوابة المتاريس

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

فى مطلع القرن السابع عشر فى واحة الخارجة وسط أجواء البلدة التى لا تخلو من الهدوء والسكينة بين أبنائها حيث كان الناس فى ذلك العهد أقرب إلى الاستقامة وأدنى إلى العفة والطهارة وأرعى عهدا للتقاليد وكان الحب بينهم بعيداً عن الابتذال وكانت العواطف تزدهر فى القلب فتتبت الأمانى والآمال فى حياتهم.


وفى سكون الليل بالقرب من إحدى بوابات البلدة الأربعة التى تدعى بوابة المتاريس حيث جلس شاب من أهل البلدة وحيداً بعدما جاء دوره فى نوبة الحراسة والتى كانت تجرى بالتتاوب كل ليلة بين شباب البلدة لحماية بقية الأهالى من هجمات اللصوص وقطاع الطرق.


لكن وحدة ذلك الشاب طوال الليل قد أضاقت صدره وجعلته يغتم حتى بدأ وكأنه قد أصيب بمس من جنون الحيرة والقلق وسط ظلال الليل الطويل مما جعلته يترك البوابة ويتوجه صوب بيته.

وما إن دلف إلى داخل منزله فى صمت رهيب ورأسه يشتعل غضباً حتى أخذ يهم بجمع ملابسه حتى استيقظت زوجته من نومها فزعه مما يفعله ومن تجهم وجهه وقالت له متعجبة:
ماذا تفعل؟!


فرد عليها حانقاً غير مكترث سوى بجمع أغراضه:
سوف أرحل من تلك البلدة للأبد.
ماذا؟ هل عدت لذلك التفكير من جديد؟! ونظرت إليه متعجبة فلم تجد على وجهه سوى الصمت والغضب فمضت تقول مسرعة والغضب قد تملكها هى الأخرى:
انت مهووس بأخيك بعدما كان يتحمل شئونك عندما كنت صغيراً أما الآن فقد صرت رجلاً وبعد هجرة أخيك أصبح واجبك أن ترعى أباك وأمك وأنا معهم فلا تتركنى وحيدة:
فحدجها الشاب بنظرة غضب سيطرت عليه وقال:


و«لماذا أحمل همك ليس بيننا أطفال أخاف عليهم وأنت من اختيار أمى فى الأساس كعادة أهل البلدة سيدة البيت هى التى تقوم باختيار الفتاة الصالحة لزواج ابنها فإن أعجبتها فتعرض الأمر على الأب فإن أعجبته عائلة الفتاة فيقرر إتمام الأمر أليس هذا ما حدث بيننا».


أرجوك دعك من فعلة أخيك فلو قلده كل شاب فى البلدة سوف نندثر وتخرب البلدة ويضيع تراث أجدادنا..فقاطعها غاضباً بنبرة حادة وقال لها:


لماذا أحمل أنا وزر أخى لأصبح أعمل صباحاً ومساءً حتى أوفر لنا الطعام وكذلك لأمى وأبى فربما لو ذهبت للمحروسة لتغيرت حياتى ولربما أكف عن حياة الشقاء التى أعيشها.


إذن خذنى معك إن شئت.

فقاطعها بابتسامة سخرية وهمس: آخذك.
ثم ضحك باستهانة وأكمل حديثه بنبرة صوت تتم عن عدم إكتراث.
بمجرد طلاقنا ستقطع أى صلة تربطنى بك.. وأمى وأبى أنا واثق من أهل بلدتنا لن يدعوهم يشقون فى حياتهم وسوف يتكفلون بهم كعادتهم.


وهنا أعترت زوجته صدمة شديدة من حديثه أتبعتها بعلو صوتها بالصياح لتقطع سكون الليل فى البلدة ليستيقظ بعض الرجال من أهلهم الذين يسكنون بجوارهم فى فزع وتوجهوا صوب مصدر الصوت بينما انتظرت النساء بجوار أبواب بيوتهم لتستمع.

ولما يدور فى فضول كبير يتملكهم ولا يطلعن إلى الخارج حيث كانت المرأة فى الواحة مصونة ولا تخرج من بيتها إلا للضرورة القصوى ومحاطة بسياج منيع ليحرص أهلها على المحافظة عليها.


ودوى طرق على باب بيت الشاب وزوجته ليغادر الشاب مسرعاً بينما بقيت زوجته توارى نفسها فى مخدعها بينما هو قام بفتح الباب للطارقين الذين جاءوا وفى مقدمتهم أمه والتى اندفعت لداخل البيت وصاحت به فزعة: ماذا حدث ولما صوت زوجتك يعلو فى البلدة.


وما أن سمعت زوجة الشاب صوت أمه حتى خرجت من مخدعها فى ثياب الوقار والحشمة التى تغطى جسدها بالكامل وقالت مندفعة:- يريد أن يهجرنا ويلحق بأخيه ليذهب ويستريح من عبئى وعبئك وعبء أبيه.


فنظرت له الأم مندهشة وقالت مسرعة:- هل هذا صحيح؟ فرد الشاب ونظره ثابت فى الأرض.
أريد أن أعيش بحريتى ياأمى وأرى الحياة كما رآها أخى..وساد صمت ودهشة اعترت الجميع واستمر ذلك الحال للحظات حتى دخل عليهم شيخ كبير فى السن بدون استئذان فهرع جميع الحضور ليقبلوا يده فى وقار واحترام لشخصه فهو يعتبر كبير العائلة.

والذى أتى لهم بصبحه والد ذلك الشاب وقد صمت الجميع احتراماً له وهو يتفحصهم بعينيه ثم نظر إلى الشاب وقال له: «يابنى أن تتعدى بالكلمات على أمك وأبيك وتلومهما على ما وصلت له /الآن بعد أن جعلا منك فتى شاباً لتتحمل المسئولية ويستقوون بك فى الحياة».


ياشيخ
أعرف ما تريد قوله وكلنا هنا نعرف بعضنا البعض نعرف حزننا قبل فرحنا وتفكيرنا متقارب وهذا ما يبعث فى النفوس الطمأنينة فى بلدنا هنا لا يختلط الحابل بالنابل وكل منا يعرف أصله ونسبه فلم لم تكن تفتخر بنا وبحياتك وسطنا إذن وأسافاه على تعبهم فى تربيتك فلتذهب ولتضيع تراث أجدادك فلترحل عنا ولنا رب كريم.


فصمت الشاب ولم يعرف بماذا يجيبه فقاطعه أحد الرجال الحاضرين بوضع يده على كتفه ليشد من أزره وقال له: «الأصل الطيب ذهب لا يصدأ وأنت رجل عاقل وتعرف قيمة الأصل والعائلة والدفء وسط الأهل».

ثم قال الشيخ: «أخوك لا تعلم ما قابله منذ غادر وهل بلغ السعادة أم التعاسة بفعلته ولعله بخير هناك ولكن هنا سعادة أخرى لن تحسها هناك وأنت تعلمها جيداً متى كنت ناقماً على فعله أخيك».


واستطاع الرجل بكلامه ووقاره أن يدير الكلام ويصرفه إلى إحساسه بمميزات بلدته والجو العائلى السائد بينهم وبعد مرور فترة من الوقت والتفكير والأحاديث عن بلدتهم والدفئ الذى يشعرونه بقربهم من بعضهم البعض دنا الشاب من أبيه.

وهو يغالب عبرة ترقرقت فى عينيه وطبع على جبينه قبلة كأنه يستغفره مما هجس بخاطره فتبسم الجميع وهمس الشيخ قائلاً: «الأصل الطيب غلاب».


وتعجب الجميع من تبدل حاله وتأثره وأخذ الناس يتحدثون ما شاء لهم من الحديث وهم يضحكون ويشدون من أزر الشاب ويلاطفونه هو وأبيه حتى كان الفجر قد أوشك أن يؤذن وتصايحت الديكة إيذائا ببدء طلوع النور وتعلى صراخ رجل من الخارج لتنبيه أهل البلدة:
النهاية وصلوا بالقرب من بوابة المتاريس.
فنهض الشاب مذعوراً وصاح:
- بوابتى!! وردد الناس جميعا مفزوعين.. النهاية!
فنظر والد الشاب له معاتبا إياه وقال له:
أرايت ماذا فعلت بنا؟! فرد الشاب مسرعاً وأخذ يتأسف له ولكن الشيخ قاطعه وقال ممازحا له ليحد من الفزع والتوتر الذى انتاب الجميع.


لا تأسف يابنى، فقدر ذلك اليوم أن توقظنا جميعاً أسرع من إيقاظك لنا لو كنت فى نوبة حراستك خاصة بعدما لاحظنا جميعاً مقدار تعبك وإرهاقك الجسدى هذا اليوم.


وعلى الفور أطلق أهل البلدة جميعاً ما كان فيهم من الدعة وغادروا منزل الشاب، وخرج هو فى مقدمتهم يطرق الأبواب ويوقظ رجال البلدة بعلو صوته وخرجت الرجال فى شوارع البلدة ينادون بعضهم البعض.

وكل منهم يجتهد فى حمل ما قدر له من سلاح سواء أدوات الزراعة أو العصى ليعاونوا بعضهم البعض ليصدوا الغزاة، وتوجهوا جميعاً صوب البوابة الغربية للبلدة بوابة المتاريس.

اقرأ أيضًا | إسلام سلامة يكتب: أنا حزين أيها العالم