فن مصر .. كنز لا يفنى l نعنـاع الجنينـة .. رائعة فن النـَّميم

فن النـَّميم
فن النـَّميم

فيصل الموصلي

منذ صباي الباكر، وأنا استمع لفن “النـَّميم”، ذلك الفن الضارب في جذور التاريخ، والذي أبتدعته القبائل العربية في جنوب مصر، تلك القبائل التي جاءت من شبه الجزيرة العربية مع فتوحات عمرو بن العاص لمصر عام 620 ميلادية، ومنها قبائل “الجعافـرة، العقيلات، العبـابدة، البشارية والأنصـار”.

هذا الفن له رواده المعروفين أمثال: “شحات أبو عثمان العقيلي، عبده أبو حديدة، مكي أبو غندور، الزاواتي، محمد أبو حسن العقباوي، أحمد أبو الأمين.. وغيرهم.
يختلف الباحثون حول المعايير التي تميز الأغنية الشعبية وعلاقتها بأنواع الأغنيات الأخرى، فقد أشترط بعض الباحثين أن تكون مجهولة المؤلف وأن يكون تناقلها شفاهياً كمعيارين يميزان هذه الأغنية.
ويمكن تعريف النميم بأنه نمط خاص من الشعر الشفاهي، يُغنَّي لدى القبائل العربية في جلسات السمر، ولهذا فإن الشاعر من خلاله يعبر عن خلجاته فى الحب والحزن والفرح والفخر، وهكذا نجد أنه سجل حياتهم وكتاب قانونهم وناقل تاريخهم.

حينما نتناول “نعناع الجنينة” كفن قولي شفاهي، فإنها تأتي كموروث ثقافي عند القبائل العربية والجنوب المصري، ويأتي إبداعها مقرونا بحياة الإنسان، وتتكئ على مفردات البيئة الموروثة.
وهي مأخوذة من فن “النميم”، وقد أصبحت “موتيفة” فلوكلورية ترددها الجماعة الشعبية وتحتفظ بها ألسنتهم وصدورهم، وأراد الفنانون أن تكون في قالب موسيقي بدلا من أن يغنى هذا الفن وهم جلوس دون مصاحبة أي آلة موسيقية، فكانت “نعناع الجنينة”

(نعناع الجنينة المسـقى في حيضـانـُه  / شـجر المـوز طـرَح ضـلل على عيـدانـُه)
لا شك أن من أتى بهذا المطلع “الخانة” هو واحد من أفراد هذه الجماعة الشعبية، لكن اسمه توارى بعد ذيوع الأغنية بشكل واسع، وقد تغنى بها في السابق الكثير من فناني الجنوب المصري مثل: “رشاد عبد العال، أبودرويش، بكري الأسواني، محمد أبو الشيخ، سيد ركابي.. وغيرهم.

وهنا أردت أن أسجل “الأدوار / المربعات” التي تغنى بها محمد منير في ألبومه الذي حمل عنوان “في عشق البنات”، وهذه الأدوار مأخوذة من فن “النـَّميم” وهي لشاعرنا أحمد أبو الأمين، ومازالت محتفظاً بهذه التسجيلات منذ سنوات مضت، حيث كنت أقوم ببحث ميداني حول هذا التراث العريق لأهلي وناسي.
في عـشـق البـنات أنـا فـُقـت نابـليــون
تـرومبيـلي وقـف عجـلاتـُه بنـدريــون
قـدَّمـت شـكـْوتـي لـحـاكـم الخـرطـــوم
أجـَّـل جـلـسـتـي لمـا القـيـامة تـقــــوم

يقول الشاعر: “أنا فُقت نابليون”.. أي تفوقت عليه في العشق، لأن “نابليون بونابارت” ـ القائد الفرنسي الشهير ـ كانت لديه معشوقة تدعى “جوزيفين بوهارنيه”، فكان بعد أن يخوض معركة ما يأتي ليقبل أقدام معشوقته، أما “عجلاته بندريون” فهو نوع من ماركات إطار السيارات، ولماذا قدم شكوته لحاكم الخرطوم ولم يقدمها لحاكم القاهرة؟، لأن هذه الجماعة التي نشأ فيها هذا الفن أقرب جغرافيا للسودان، “أجـَّل جلستي لما القيامة تقوم”، معناها أنه ليس هناك حل جذري للموضوع.

عندما غناها منير قالها هكذا:
يا أم عقدين دهـب تلاتـة وتـلاتين كـارة
ما عيـنـاً رأت ما وردت على بـكـّارة
يوم طلت عليــنا الكل وقعـوا سـكارى
سـقطت في الحليـب ما بينت لُه عكارة
لكن أثناء البحث الميدانى و بالرجوع إلى التسجيلات القديمة التي عثرت عليها في مكتبة عمي الزاكي أبو سكين ـ عليه رحمة الله ـ  تبين أن أصل الدور كالتالي:
يا أم عـُقداً دهب تـلاتـة وتـلاتيـن كـــارة
لا شالت مـَطـُرْ لا وَرَدَتْ على بكـّارة
قَـلـَّت عينـهـا فينـا الكـُل وقـَعْنـا سـَكـارى
وسـقـَطـَتْ في الحليـب ما بيـّنت له عكارة

يقول الشاعر أبو الأمين مخاطباً إحدى الحسناوات: “يا ذات العـُقـْد الذهبي، أما (الكـارة) فهي نوع من المكيال وتعني 4 حبات من الشيء نفسه، 4 بلحات، 4 بيضات.. إلخ، وأهل الدلتا ـ في شمال مصر ـ  يطلقون على مثل هذا الكيل (طورة)”.

أما الشطر الثاني فى هذا “الدور / المربع” كما جاء في أغنية “في عشق البنات”، فقد جاء هكذا “ما عينـاً رأت ما وردت على بكـّارة”، لكن إذا رجعنا للأصل في فن “النميم”، كما جاءت على لسان الشاعر أبو الأمين فسنجدها “لا شـالت مـَطـُرْ لا ورَدَتْ على بكـّارة”، و”المَـطـُرْ” هو “البـلاص” ـ هكذا يسمونه في الجنوب المصري ـ و”الـوُرود” تعني الذهاب إلى حيث وُجِدَ الماء.
ولم يكن هذا الفن قاصراً على الغزل فقط، بل أنه خاض في كل أغراض الشعر العربي من مدح، فخر، حماسة، حجاء ورثاء، كما أرَّخ لأحداث الوطن.

وبما أن الفن الشعبي ظاهرة اجتماعية تعبر بإستمرار عن حاجات جديدة، لذا كان من الطبيعي أن يكون هناك شعراء شباب تربوا على إبداعات الرواد الأوائل لهذا الفن، ونهلوا منهم، ومن هؤلاء الشباب يأتي الشعراء “عزت حسين موسى، زين العابدين العوني، محمد أحمد العبادي، بدوي أبو رهيط، أيمن أبو ظهرون، عبد الله الدنقلاوي، علاء أبو عائشة.. وغيرهم

هذا الفن كان معروفاً ومتداولاً في سنوات سابقة، والآن غطاه تراب الإهمال والنسيان، بل والعداء السافر للتراث، فالفن الجيد لا يكشف أسراره من الوهلة الأولى، فيحتاج من المتلقي لجهد أكبر، ومع أن مفرداته غامضة بعض الشيء، إلا أن المعنى واضح وجلي وقريب إلى النفس، وهذا الغموض حماه من الترهل وعدم الخوض فيه إلا من أهله وأبناء بيئته، وقد آثرت أن أقدم هذا الفن بتبسيط شديد للمعانى العميقة والثرية، وأناشد كل مثقف الغوص في بيئته التي يعيش فيها، وإستخراج كوامنها، وعليه أن يسعى لتوسيع دائرة التلقي.

أقرأ أيضأ : «الموسيقى والشعر» أمسية شعرية بقصر ثقافة الأقصر