المارد الأخضر الهيدروجين يغير معادلة الطاقة .. ومصر تتصدر إنتاجه

المنطقة الاقتصادية بقناة السويس تشهد البداية.. وأوروبا المستورد الأول

المارد الأخضر الهيدروجين يغير معادلة الطاقة
المارد الأخضر الهيدروجين يغير معادلة الطاقة

طاقته تعادل أضعاف الوقود التقليدى ولا يسبب أى أضرار بيئية

وسط أزمات بيئية ومناخية كبيرة يسببها الوقود الأحفورى من بترول وفحم وغيرهما، بدأ العالم فى التحرك سريعا من أجل التحول إلى الطاقة النظيفة المتجددة، ولم تكن مصر فى معزل عن كل ذلك فخلال السنوات الماضية أطلقت المشروعات العملاقة من أجل توفير مصادر طاقة متجددة، ووضعت خطة بأن يصل اعتمادها على الطاقة النظيفة إلى 20% بحلول 2022، لكنها استطاعت أن تصل إلى هذه النسبة قبل نهاية 2021.. ومع توجه العالم إلى نوع جديد من الطاقة يوفره «الهيدروجين الأخضر» برزت مصر كدولة لها الأفضلية لإنتاجه بعد توافر كافة المقومات بها، لتقتحم مصر مجالا جديدا يعد مستقبلا للوقود النظيف عالميا، فبدأت فى جذب الاستثمارات لإنتاج «الهيدروجين الأخضر» الذى سيجعلها إقليما منتجا ومصدرا له، وفى هذا التحقيق ترصد «الأخبار» ماهية وأهمية الهيدروجين الأخضر، وكيف سيمثل مستقبلا اقتصاديا وبيئيا واعدا لمصر؟.

«لما كل هذا الاهتمام بالهيدروجين الأخضر؟»... تساؤل لطالما تكرر على المسامع خلال الفترة الماضية، وللإجابة عليه لابد من معرفة أن اتجاه العالم للهيدروجين بشكل عام يأتى كخطوة مهمة من أجل استخدامه كمصدر طاقة بديل عن الوقود الأحفورى ( مثل البترول والفحم) الذى يسبب كوارث بيئية ومناخية ومهدد أيضا بالإنتهاء، فالهيدروجين بشكل أساسى ينتج طاقة «صفرية الكربون» عند احتراقه، مما يعنى عدم انبعاث غاز ثانى أكسيد الكربون نتيجة استخدامه، لذا فإن استبداله محل الوقود التقليدى يحمى الكوكب من الآثار البيئية والمناخية الكارثية التى نشهدها الآن بسبب الغازات الكربونية.

والأهم من ذلك أنه ينتج طاقة تصل لأضعاف طاقة الغاز الطبيعى والوقود الأحفورى التقليدى مما يجعله أكثر فاعلية وطلبا فى المستقبل، وهو أيضا أنسب الحلول الاستراتيجية لتخزين وتداول الطاقة فيمكن استخدامه فى أى وقت عقب الحصول عليه.
ومن أسباب اتجاه العالم لإنتاجه هو استخدامه فى القطاعات الأكثر استهلاكا للطاقة كقطاع الطيران والشحن البرى وكذلك الصناعات الثقيلة، بجانب التدفئة، ويمكن اعتباره مضاعفا للكهرباء فمع بعض الماء وقليل من الكهرباء يمكنك توليد المزيد من الكهرباء أو الحرارة، ولكل هذه الأسباب تلجأ دول العالم إلى البحث عن وسائل إنتاج أو استيراد الهيدروجين للاستفادة منه.
لماذا «الأخضر»؟
أما عن اتجاه العالم لاستخدام الهيدروجين «الأخضر» على وجه التحديد، فذلك لسببين أولهما أن عملية إنتاجه لا تسبب أى أضرار بيئية فلا ينتج من عملية استخراجه أى غازات كربونية، بل نحصل على الأكسجين والماء المقطر واللذين يمكن استخدامهما مرة أخرى فى مجالات شتى، والسبب الآخر أن متطلبات انتاجه صديقة للبيئة فكل ما نحتاج إليه هو مياه ومصدر كهرباء مولد من طاقة متجددة نظيفة.
وبذلك فإنه يتم الحصول على الهيدروجين الأخضر من خلال عملية «التحليل الكهربائي»، فيتم استخراج الهيدروجين من الماء عن طريق فصله عن الأكسجين باستخدام الكهرباء، لكن ينبغى أن تكون كهرباء مولدة من مصادر الطاقة المتجددة النظيفة فقط ، مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية، حينها سيتم الحصول على الهيدروجين دون انبعاث غاز ثانى اكسيد الكربون، على عكس «الهيدروجين الرمادي» الذى يتسبب الحصول عليه فى انبعاثات ضارة بيئيا.
ريادة مصرية
تعد مصر من أوائل الدول سعيا لإنتاج الطاقة النظيفة بشكل عام، والآن فهى صاحبة الريادة الأفريقية فى إنتاج الهيدروجين الأخضر ، خاصة مع توافر مقومات إنتاجه سواء المياه أو مصادر الطاقة المتجددة التى لها نصيب كبير من المشروعات القومية فى مجالى الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
وما يزيد أهمية الهيدروجين الأخضر لمصر هو أن لديها القدرة على إنتاجه بأقل تكلفة فى العالم، وفقا لتصريحات سابقة لوزير الكهرباء الدكتور محمد شاكر، الذى أكد أنه يمكن الوصول إلى 8% من السوق العالمية للهيدروجين، كما أكد على أن الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين، تتضمن عوائدها زيادة الناتج المحلى الإجمالى لمصر فى حدود 10-18 مليار دولار أمريكى بحلول عام 2025، فضلا عن إتاحة أكثر من 100 ألف وظيفة جديدة ، مع المساهمة فى تخفيض واردات مصر من المواد البترولية.
ولم تتوان مصر عن اقتحام هذا المجال ففى الثامن من نوفمبر أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسى أمام العالم أجمع خلال فعاليات مؤتمر المناخ، كوب 27» تدشين المرحلة الأولى لمشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر بالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، والتى تعتبر من أهم المواقع الجغرافية على مستوى العالم وهو ما يمكننا من تصدير الهيدروجين الأخضر بسهولة إلى أوروبا، كما أنها تمتلك بنية تحتية تدعم تواجد هذه المشروعات، إضافة إلى امتلاكها 4 مناطق صناعية و6 موانئ بحرية تطل على البحرين الأحمر والأبيض المتوسط.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك فخلال مؤتمر المناخ ، تم توقيع 9 اتفاقيات إطارية بالشراكة مع الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس وصندوق مصر السيادي، لتنفيذ مشروعات إنتاج الهيدروجين الأخضر ومشتقاته باستخدام الطاقات المتجددة، ووصل حجم استثمارات تلك الاتفاقيات إلى نحو 83 مليار دولار، وفرص عمل مباشرة تصل إلى 275 ألف مباشرة وغير مباشرة، ومن المستهدف أن تسهم هذه المشروعات فى خفض انبعاثات الكربون بحجم يصل إلى 39 مليون طن سنويًا، وستنفذ المرحلة التمهيدية العاجلة لإنتاج الهيدروجين الأخضر خلال 3 سنوات، وتفتتح فى النصف الأول من عام 2026.
أفضلية أفريقية
هناك العديد من الأسباب التى جعلت مصر ذات أفضلية أفريقية لانتاج الهيدروجين، وهذا ما وضحه لنا د. سامح نعمان خبير الطاقة الجديدة والمتجددة ، مؤكدا أن مصر لها الريادة واليد العليا أفريقيا فى هذا المجال، فهناك 6 دول فقط بأفريقيا جاهزة لانتاج الهيدروجين الأخضر وهى «مصر وجنوب أفريقيا والمغرب وموريتانيا وكينيا وناميبيا»، وقد تم عمل مجموعة تكوينية تضمهم معا، إلا أنه لم تبدأ أى دولة مثلما بدأت مصر وبالتالى لها الريادة، وعندما تبدأ بقية الدول فى العمل ستحتاج إلى خبراتنا فى إنتاج الهيدروجين.
وعن ظهور مصر على الساحة العالمية فى هذا التوقيت كمنتجة للهيدروجين الأخضر أكد د.نعمان أن ريادة مصر لم تكن مصادفة، فمنذ نحو عامين شرعت أوروبا فى عمل دراسة شاملة على منطقة «شمال أفريقيا» بأكملها، لمعرفة أى الدول تتوافر بها شروط الحصول على الهيدروجين الأخضر، نظرا إلى أن أغلب الدول الأوروبية لا تتوافر بها بعض مقومات انتاجه، وجاءت مصر فى المقدمة كأفضل منطقة على كل القطاع، مشيرا إلى أن هذه الأفضلية جاءت نظرا لتوفر مقومات الحصول على الهيدروجين الأخضر بمصر، وهى «المياه والطاقة المتجددة والاستقرار فى البلاد».
وأوضح أنه بالنسبة للمياه فمصر لديها سواحل بحر أحمر وأبيض بأكثر من 3 آلاف كم، وبالنسبة للطاقة المتجددة فلدينا خبرات كبيرة منذ 2014 ومشروعات ضخمة ناجحة تؤهلنا للمضى قدما، أما المقوم الثالث وهو الاستقرار فهو الدافع الذى جعل الدول الأوروبية تعزم على الاستثمار فى هذا المجال فى مصر وهذا ما شاهدناه خلال مؤتمر المناخ «كوب 27»، لذا فهذه العوامل الثلاث ستجعل مصر المحور الرئيسى للهيدروجين الأخضر على مستوى العالم وأفريقيا.
ارتفاع التكلفة
على الجانب الآخر يرى الكثيرون أن إنتاج الهيدروجين الأخضر مكلف للغاية، وفى ذلك يقول د.نعمان إن هذا الأمر طبيعى لأى صناعة جديدة تبدأ بتكلفة عالية ثم مع الإنتاج الضخم تقل التكلفة بشكل كبير، مؤكدا أنه بالرغم من ارتفاع تكلفته إلا أن الهيدروجين الأخضر تبلغ الطاقة الناتجة منه 2.8 من أى طاقة أخرى كما أنه لا يطلق ثانى أكسيد الكربون بل مياها مقطرة صالحة للشرب وغيرها من الاستخدامات، ثالثا أن استخدامات الهيدروجين هائلة فى شتى مناحى الحياة فيستخدم بديلا عن الغاز والوقود للتدفئة وفى النقل والطائرات والسفن، وكذلك المصانع كثيفة الطاقة مثل الحديد والصلب والأسمنت لإن كيلو الهيدروجين يعادل 3 كيلو من الغاز الطبيعى ، كما يستخدم فى إنتاج الطاقة الكهربائية، وأخيرا فنحن لن نبحث عنه فهو ثالث عنصر موجود فى الأرض أى متوفر بكثرة.
وعن سلبيات الهيدروجين الأخضر أوضح د.نعمان أن النقل أولا يعد تحديا لكى يتم تصدير الهيدروجين، لأن عملية نقله من خلال السماد لها عدة جوانب منها أن ليس كل الدول تحتاج إلى سماد، وثانيا سنضطر إلى إنشاء مصانع ضخمة لإنتاج السماد كما أن عملية نقله يحصل بها هدر نحو 10% ، موضحا أن الطريقة الوحيدة حتى الآن لنقله سائلا هو إضافة إحدى المواد له لكى تجعله بلا ضرر، ويتم تصديره مختلطا بها ثم فصله مرة أخرى عقب النقل، وهذا لأن الهيدروجين سائل بلا لون أو رائحة فمن الممكن أن يشتعل دون ملاحظة من أحد.
قناة السويس
أكدت د.وفاء علي - أستاذ الاقتصاد وخبير أسواق الطاقة، أن الهيدروجين الأخضر أصبح مصطلحا يتردد كثيرا فى الآونة الأخيرة خصوصا على ظلال الأزمة العالمية فى ملف الطاقة، ولذلك جاءت جهود كبيرة من الدولة بخطى متسارعة للحاق بوقود المستقبل الخالى من أى انبعاثات كربونية و تفاديا لظاهرة الاحتباس الحراري، فكانت مصر من أوائل الدول التى أدركت مبكرا إمكانياتها الهائلة التى ستمكنها من أن تكون مركزا إقليميا وعالميا للهيدروجين الأخضر بتموضعها الجيوسياسى والجغرافي، ووجود أهم ممر ملاحى عالمى للتجارة العالمية ألا وهو قناة السويس بمحورها ومشروعاتها، والذى أصبح الاختيار الأول عالميا للعبور، بجانب وجودنا وسط كبار المستهلكين، وكل ذلك يتكلل بالإرادة السياسية المصرية التى تطمح لإنتاج 20 مليون طن من الهيدروجين الأخضر بحلول 2030.
وأوضحت أن مصر اتخذت خلال الآونة الأخيرة خطوات مهمة تؤكد جديتها فى ملف الطاقة المتجددة، فقد تم إطلاق المرحلة الأولى من مشروع الشراكة المصرية النرويجية لإنتاج الهيدروجين الأخضر بمحور قناة السويس بقدرة ١٠٠ ميجا وات، كما أطلق السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى بشراكة بلجيكا وعدد من الشركاء الدوليين مبادرة المنتدى العالمى للهيدروجين الأخضر المتجدد بهدف إنشاء منصة دولية دائمة وداعمة للحوار بين الدول المنتجة والمستهلكة بشراكة القطاع الخاص والمنظمات الدولية ومؤسسات التمويل العاملة فى هذا المجال، بجانب تدشين الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين الأخضر.
الجدوى الاقتصادية
فى إجابة عن سؤالنا حول المردود الاقتصادى الأكبر لمصر من اقتحام هذا الملف، أكدت د.وفاء أن أول مردود إيجابى هو زيادة تنافسية الاقتصاد القومى من خلال زيادة جلب الاستثمارات حيث يمثل قطاع الطاقة ٩٠% من تدفقات الاستثمارات الأجنبية سواء المباشرة وغير المباشرة ، بالإضافة إلى توفير مصدر من مصادر الطاقة المتجددة اللازمة لعملية التنمية، وزيادة الصادرات كممر آمن لعبور الطاقة المتجددة إلى القارة الأوروبية، بجانب توفير فرص تشغيل كبيرة مما يؤدى إلى نمو الاقتصاد القومى وتوفير العملة الأجنبية مما يخفف العبء عن الاحتياطى النقدي.
واستكمالا أشارت إلى أن مصر وضعت اسمها على الأجندة الدولية كلاعب أساسى فى معادلة الطاقة الدولية وأبهرت العالم بملفها نحو التحول إلى الطاقة النظيفة، فعملت على توفير قيمة مضافة وزيادة فى الناتج القومي، كما استهدفت الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين الأخضر تطوير صناعات جديدة مثل صناعة البتروكيماويات والصناعات التحويلية والقطارات فائقة السرعة بالإضافة إلى استخدام الهيدروجين الأخضر فى تشغيل محطاتنا الكهربائية العملاقة بدلا من الغاز الطبيعى يمثل وفرا سنويا يقدر بمليار ونصف دولار سنويا.
وأخيرا أكدت د. وفاء أن إنتاج الهيدروجين الأخضر سيزيد من ثقل مصر السياسى كممر للطاقة بالجاهزية التى تحدث عنها الرئيس السيسى التى كانت سببا فى نجاح مصر فى ملف التحول إلى الطاقة النظيفة.
خليط الطاقة
أما د. مجدى علام - الخبير البيئى ومستشار برنامج المناخ العالمي، أكد أن العالم خلال السنوات الماضية أدرك جيدا أنه لا يمكن الاعتماد على نوع معين من الطاقة خاصة مع اقتراب انتهاء الوقود الأحفورى ، حتى أن وزير البترول السعودى أعلن أن البترول سينتهى خلال 40 عاما من دولته، لذا تتجه الدول دائما إلى البحث عن مصادر طاقة غير منتهية وهى ما نطلق عليه طاقة جديدة ومتجددة.
وأضاف أن هناك ما يسمى بـ«خليط طاقة» وهى عملية تتبعها الدول فتستخدم أنواعا مختلفة من الطاقة تحسبا لحدوث أزمة فى أى نوع من الوقود، وهو ما دفعها لمزيد من البحث عن مصادر جديدة ومتجددة للطاقة ، موضحا أن مصر نجحت فى هذا الملف فلدينا مشروعات ضخمة للطاقة الشمسية طاقة الرياح أيضا، والآن بفضل المسطحات المائية الكبيرة المتوافرة سنكون من رواد الدول فى انتاج الهيدروجين الأخضر الذى نعتمد فيه على المياه المالحة ومصادر الطاقة المتجددة.
أكد الدكتور حمدى هاشم - خبير الدراسات البيئية وعضو لجنة الجغرافية والبيئة بالمجلس الأعلى للثقافة ان الحل فى الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر وليس الحل فى تدبير الوقود النووى لإنتاج الكهرباء، وتحلية مياه البحر، بقدر التوسع فى استغلال الطاقة المتجددة، والتغلب على خطورة الأثر البيئى ومشكلات التخلص من المخلفات النووية. ويؤكد الفرق بحساب صحة البيئة، أن الشمس والمؤثرات الأخرى، كالهواء والأمواج والمياه والكتلة الحيوية، تزود الأرض بكميات من الطاقة النظيفة تفوق بآلاف المرات قدر الاستهلاك الحالى للبشرية من الطاقات الملوثة للمحيط الحيوي. وكان الأجدر أن تصدر الأمم المتحدة معاهدة بيئية للتنمية المستديمة، بالاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، بديلاً عن إطلاق ضريبة الكربون وسوقها التجارية للحد من الانبعاثات الغازية، المشكوك فى تحقيق أهدافها، التى تعد من أدوات تكريس السيطرة على التنمية البشرية فى العالم. ويبقى التحول من الاستثمار فى الطاقة الأحفورية إلى إنتاج الهيدروجين الأخضر، وذلك للدخول فى مرحلة تعافى الغلاف الجوى من الملوثات الصناعية، وتعظيم العوائد البيئية والصحية فى المجتمعات البشرية.