يوميات الأخبار

إنه الأستاذ.. الصعيدى.. المعدنى.. «السعدنى»!!

سمير الجمل
سمير الجمل

هذا الفيلسوف الشعبى كان يُعالج أوجاعه بالسخرية من كل شىء.. فهو كائن ديناميكى لا يُؤمن بالسكون والجمود والملل

«سافرت إلى بلد شقيق مع عائلتى واستأجرت بيتًا وألحقت أولادى بالمدارس، ولكن قبل بدء الدراسة بأسبوع صدر القرار بطردى من البلد.. وكانت أكبر دمعة شعرت بها فى حياتى.. فقد اسودت الدنيا فى وجهى ودعوت الله أن أموت وقتها حتى لا يتأثر مستقبل أولادى بسببى...».

هكذا اعترف الرجل الذى أضحك الملايين وأحد أشهر مصانع السخرية فى بر مصر عبر تاريخها وهذه هى دمعته التى زلزلت كيانه.. واختصر بها مشواره بين السجن فى عصر عبدالناصر الذى أحبه حتى بعد الخروج من السجن أكثر من قبل.. ثم دخل السجن مرة أخرى فى عصر السادات واضطر بعض الأصدقاء أن يتم تهريبه إلى الخارج فى بعثة للحج كان يُشرف عليها المهندس عثمان أحمد عثمان رغم قربه الشديد من السادات فهو أبو نسب.. وفى كشف الحجاج تحول اسمه إلى محمود عثمان المعدنى.. وسافر.. أو قل طار إلى المنافى يُحلق بعيدًا ورئيس الدولة يتوعده فى خطاب علنى أمام الملايين. ولكنه اعترف بأن السادات هو صاحب قرار العبور ونصر أكتوبر ١٩٧٣.

وفتحت له بعض الدول العربية على شرط أن يبتلع لسانه ويغلق فمه.. وهو ما لم يستطع عليه صبرًا، وإلا تحول إلى إنسان آخر أرزقى.. يبحث عن الشهرة «لم يكن مولانا التريند قد ظهر بعد»، ولا عن المال وصداقته امتدت إلى زعماء ورؤساء.. ولكنه ظل على حاله، وكما جاء فى كتابٍ من كتبه العديدة «الموكوس فى بلاد الفلوس»، وأوصى أولاده بأن يكتبوا على قبره:

«هنا رجل عاش من أجل الكلمة وسُجن بسببها ومات حزينًا لأن الموت سيمنعه من مطاردة اللصوص والأدعياء».

فاصل ونعود

أرسل إليه يوسف السباعى ذات يوم فى مكتبه بمجلة روز اليوسف بأديب يحمل أوراقًا يُفترض أنها مجموعة قصصية، وطلب منه أن يكتب لها مقدمة، فلما تفحص الأوراق كان عنوانها: يا بوليس الفضيلة إن زوجتى فى الحديقة.. اقبضوا عليها.. وكتب فى الثانية: يا رجال النيابة إن زوجتى فى الحديقة اقبضوا عليها، وفى الثالثة إلى من يهمه الأمر.. إن زوجتى فى الحديقة اقبضوا عليها، وقد جاء  فى المقدمة التى كتبها بإمضاء «محمود الصعيدى»، إن هذه كتابة يختلط فيها الشفق الصاعد مع الكوكب الغارق فى الأرض الدنيا.. والهلامونية المنخرطة فى الاعتلال الممزوج بالرطوبة.. إلى آخر ما لا يمكن فهمه.. احتفالًا بما لا يُمكن قبوله حتى على مستوى قلة الأدب، وبينما كان يمشى فى وسط البلد سمع البائع ينادى على المجموعة القصصية، ومن باب الفضول اشترى نسخة ووجد ما كتبه كما هو، وعندما عرف الشاعر كامل الشناوى بالأمر ذاع الخبر وانتشر، وكانت النتيجة أن الكتاب نفد وبُيعت كل النسخ. وجاء المؤلف بكتاب جديد، ولما كتب يوسف السباعى يُطالب بقانون يحمى المغفلين من ألعاب محمود السعدنى، عَرف المؤلف اللوذعى أن «الصعيدى»، ضحك عليه ولا هو صعيدى ولا حاجة!

تربية المقاهى

الحمد لله أن عمنا وتاج رأسنا محمود السعدنى رحل قبل أن يتحوَّل المقهى أو القهوة إلى «كافيه».. وقبل أن تنتشر فى كل الأرجاء حتى انطبقت علينا مقولة الأستاذ دسوقى بتاعه «بلد كافيهات صحيح»، بعد أن كانت ولا تزال بلد شهادات والعلم فيها بألف عافية. عم محمود.. حوَّل مقهى عبدالله بالجيزة إلى أثر تاريخى، صحيح أنها اندثرت وانهدمت مع التحولات التى جرت بالميدان الشهير وقد كانت مدرسة.. لا بل قل جامعة عليا إذا كان من روادها ونجومها أنور المعداوى وعبدالحميد يونس وعبدالقادر القط وزكريا الحجاوى ويوسف إدريس وصلاح جاهين وصلاح عبدالصبور ومأمون الشناوى وحسن فؤاد وأحمد عبدالمعطى حجازى، ولحق بها سمير سرحان ورجاء النقاش ويوسف الحطاب ومحمد علوان ونعمان عاشور.. وكل واحد من هؤلاء حكاية أتمنى للشباب الذى يجهلها أن يدخل على عمو جوجل ويسأله عنها لأن واحداً منهم يحتاج إلى موسوعة.. وقد جمعهم هذا المقهى الذى خلّده السعدنى فى كل كتاباته.. وقتها كانت صعلكة الشباب قراءةً ونقاشاً وجدلاً ومقالب وتجارب يأخذونها جيلًا بعد جيل..

وقد سألت الزملاء ممن يحملون كارنيه نقابة الصحفيين، وأكثر من يتمتع بالنادى النهرى بشارع البحر الأعظم بالجيزة هو وعائلته، سألته هل تعرف قصة بناء هذا النادى.. ولم أتركه يُقلب فى دماغه وقلت له إنه عمك محمود السعدنى وبيته بالقرب من الأرض التى وجد أنها تُناسب الصحفيين مثل القضاة والأطباء والممثلين.. فجاء بالكراسى وجلس؛ وقال: هنا نادينا.. فى وقت حكومة كمال الجنزورى، وقالوا له: تأمر يا أستاذنا، وبدأ إبراهيم حجازى يستخرج الأوراق والذى منه.. وقد تشرَّفت بأن زرته فى بيته بالجيزة، وقال أمامى ونحن شلة نُحيط به:

عندما دخلت السجن فى عصرى عبدالناصر والسادات وكنت مرشحًا للحبسة الثالثة لولا أن نفدت منها بجلدى تمنيت على الله أن أصاحب وزير الداخلية وكانت أبواب السماء مفتوحة.. فقد وجدت نفسى من الأصدقاء المقربين جدًا لوزير الداخلية شعراوى جمعة وكان أيضًا المسئول عن التنظيم الطليعى وعملت معه.. لكن الحلو لا يدوم، وعندما عمل الرئيس السادات حركة ١٥ مايو.. وجدت نفسى أنا ووزير الداخلية فى السجن معًا.. بتهمة قلب نظام الحكم، وطوال حديثه وهو يجلس أمامنا بجلبابه وبساطته وحكايته التى تقول لألف ليلة وليلة: اخرسى مش عايز أسمع صوتك، طوال الحديث كنت أتطلع إليه وأسأل نفسى: هذا الرجل الذى عمل فى الصحافة ولم يُهادن أو يُنافق أو يتجمَّل.. وشاف الأهوال وعانى التشرد والبُعد عن مصر التى يذوب فى ترابها عشقًا وغرامًا، هل عرفناه كما ينبغى صاحب المبدأ... المبدع الفصيح.. البسيط.. فقد سرد تاريخ أمريكا الشيكابيكا فى كتاب صغير يسرد لك سيرة هذا البلد الذى يُشبه عيال الأنابيب والتخصيب الصناعى.. بأسلوب عبقرى وموجز وبليغ.. وقد كتب المسرح والرواية... ولكننا لم نتوقف سوى عند «خفة دمه». ولا أقل من إطلاق اسمه على ميدان الجيزة كله.. وقد كتب يومًا بعد أن عاد إلى مصره الغالية عام ١٩٨٣ يقول ويسأل: أين الجيزة.. والخضرة التى تُحيط بها من كل حتة.. أين مقاهيها التى كانت حاضنة للحياة الاجتماعية والفكرية.. والسياسية.. أين رجالها الجدعان وكانوا مثل أشجار الجميز تذهب إليهم فتستريح فى ظلالها الوارقة وتشعر بالاطمئنان، وكان الصحفى له شنة ورنة.. بالأمارة عمك محمود فى الستينيات نجح فى حل أزمة الفول بعد نكسة ٦٧ واستثمروا علاقاته الواسعة بتجار الغلال.. وقد كان وعاد ولى النعم.. سيدنا الفول يرقص كالمعتاد فى أطباق أهل مصر كبيرهم وصغيرهم..

السعدنى وسيد مكاوى

أرسل إليه الأديب سعد مكاوى شابًا وطلب منه أن يُساعده وسأله: أى خدمة؟.. فقال بصوت منعنع: أنا مش كاتب أنا مطرب، وهنا طلب منه أن يُغنى؛ فقال الشاب: أصل أنا باتكسف؟.. فقال السعدنى: بسيطة خلى وشك للحيطة وغنى.. فلما فعلها وقد فتح الجاعورة على إحدى روائع فريد الأطرش ياطير يا طاير.. لسعه السعدنى على قفاه  فاستدار مطرب العواطف مندهشًا: انت بتضربنى ليه يا أستاذ؟!، وكان جواب السعدنى بكل هدوء يا ابنى ده امتحان القفا.. لأنك ستجد منافسة شرسة من مطرب زميل اسمه عبدالحليم حافظ وآخر اسمه محمد عبدالوهاب، ومن الممكن جدًا إرسال من يضربك وانت تُغنى، ويجب أن تعمل حسابك لكل شىء: غنى غنى.. وعاد للطير الطاير وكأن القفا لم يكن.. ووجد السعدنى كوبًا فيه بقايا ألوان لأحد رسامى صباح الخير وسكبه على دماغ صاحبنا على أساس أن هذا هو امتحان الألوان!!

وكان للسعدنى فيما بعد شبه سيارة هى عبارة عن أربع عجلات وشىء من الصاج.. وقد جلس الشاعر الكبير كامل الشناوى إلى جواره فى ذات فسحة ولاحظ أن الغيوم والغبار تشغلان الزجاج الأمامى؛ وقال له: مش هاين عليك تنضف الإزاز يا محمود؟.. وأجاب السعدنى «سلامة النظر يا كامل بك.. العربية مفيهاش إزاز والمنظر اللى قدام حضرتك بتاع المناخ الطبيعى».. ولأنها لا تفوت أو تعدى على كامل بك؛ قال له: طب يا أخى نضف الهوا!! وعن نفس السيارة نصحه الرسام الكبير بهجت أن يكتب لافتة بداخلها تقول: ممنوع التبول بأمر الحكومة!

أنواع الأحزان

هذا الفيلسوف الشعبى كان يُعالج أوجاعه بالسخرية من كل شىء.. فهو كائن ديناميكى لا يُؤمن بالسكون والجمود والملل.. لذلك تنقل بين الصحف والبلاد والعباد وكثيرًا ما كان يقول الحزن أنواع، فيه الحزن المقدس والحزن الهلفوت ومن نوعية حزنك أعرفك.. وكل كاتب ساخر داخله براكين من الأحزان وقد سجَّل فى مذكرات الولد الشقى كل ما جرى معه بمصداقية بالغة ولم يتظاهر بالبطولة.. فهو لا يفعل إلا ما يُؤمن به، وقد اعترف صادقًا فى أواخر أيامه: ولو عاد بى الزمان مرة أخرى رغم كل ما عانيت وما سببته لعائلتى من متاعب وشقاء لفعلتها مرة أخرى بالكربون، وفى السبعينيات دفع شقيقه صلاح السعدنى فاتورة أخيه راضيًا مرضيًا، وقد كان ممنوعًا بأوامر عليا شأنه شأن بهجت قمر بسبب آراء أخيه الفنان عبدالغنى قمر الذى اتجه إلى ليبيا وفر إليها والسعدنى صلاح عندما قدم شخصية العمدة فى ليالى الحلمية أخذ الكثير من أخيه الأكبر.. وحيث يتواجد لابد له من دوار وغفر ومصطبة.

وكما قال زميلنا أكرم ابن الأكبر للعم محمود نحن عائلة إذا تكلمنا لا نتوقف.. ولا نحب أن يتكلم غيرنا؛ لأن عندنا من المخزون الاستراتيجى ما يكفى للحكى عن الصحافة والفن والكورة والاقتصاد والسياسة والبطاطس باللحم المفروم، وقد أطلق على ابنه الأكبر حباً فى القائد السورى أكرم الحورانى أيام الوحدة مقصوفة العمر بين مصر وسوريا وقت الإقليم الجنوبى والشمالى تحت علم الجمهورية العربية المتحدة (من ١٩٥٨ إلى ١٩٦١) وحفيده أيضًا يحمل اسم أكرم.
ورغم كل ما كتب فإنه لم يأخذ ربع ما يستحق أو أقل.