يحيى حقي يكتب: صوت المهمشين والأب الروحي للأدباء الشبان

عز الدين نجيب
عز الدين نجيب

أعتز شخصيا بأن لى مع يحيى حقى أربعة مواقف تاريخية كان لها بالغ الأثر فى كتابتى للقصة القصيرة وفى مسارى فى العمل الثقافى فترة الستينيات، مثلى مثل العديد من أصحاب الموهبة من أبناء جيلى

كان يحيى حقى آخر الآباء الروحيين العظام فى حياتنا الأدبية، وإنه لجدير بأن  تعمر كتبه أركان كل مكتبات مصر والعالم العربى، ومن قبلها مكتبات كل الشباب المخلصين للقصة القصيرة كتابة وقراءة على مر الأجيال، لتظل منارة تنير حياتنا عبر الزمن.

لم يكن من السهل - فى عصر تتصدره أعلام لامعة لأدباء من أوزان توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ومحمود البدوى ويوسف السباعى وعبد الرحمن الشرقاوى وإحسان عبد القدوس وغيرهم - أن يلمع اسم يحيى حقى؛ كاتب مقل الإنتاج، زاهد فى الأضواء، نافر من المزاحمة والمنافسة، مشغول بعمله الدبلوماسى فى عواصم شتى خلال سنوات دخوله الحياة الأدبية، متباعد عن الصحافة والسلطة، فوق أنه اشتق لنفسه أسلوبا خاصا فى كتابة القصة القصيرة والرواية الصغيرة (نوفيليت)، بعيدا عن الإطناب والطرافة وعن كل ما يدغدغ العواطف أو يغازل المواقف السياسية فترة الخمسينيات والستينيات، وأكثر بعدا عن لغة الخطاب الزاعقة أو المتدثرة بالتراث أو المتعالية بالتنظير، بل قريبا جدا من عوالم البسطاء المهمشين فى قاع المجتمع، المحبوسين فى معتقدات وقيم أهل الحارة وحول أضرحة الأولياء وآل البيت (مجموعة قصص أم العواجز)، راصداً فكر التواكل وصدمة اللقاء بين العلم والتخلف الحضارى (رواية قنديل أم هاشم)، ومصورا محنة المنبوذين فى بطون قرى الصعيد، وسط تقاليد الكبت وشبح الخطيئة والفضيحة، وغلظة اضطهاد المرأة، ووضع سيف الإدانة بالعار على رقبتها أخذا بقانون الشرف (رواية دماء وطين).. يعالج ذلك كله بلغة طازجة الكلمة موجزة العبارة هادئة النفَس، بعيدة عن المقدمات والمبالغات.

لكنه فعلها وتقدم الصفوف الأدبية والثقافية بفضل ما أطلق هو عليه مرة أنشودة البساطة وأخرى «خلليها على الله»، وهى لغة الصدق الأقرب إلى القلوب والمدارك، لكن المفارقة هى أن أبطال عالم «القاع» هذا لم يكونوا من قرائه كى يتلقوا رسالته ويصبحوا جمهوره الذى يحقق له الشهرة.

وللأنهم ببساطة لا يعرفون القراءة والكتابة شأنهم شأن أغلب المعدمين، فلم يروا أنفسهم فى قصصه، إلا من أفلتوا من حزام الفقر والتحقوا بأذيال الطبقة الوسطى الصغيرة الأقرب إلى طبقتهم، وعرفوا الطريق إلى المدرسة والجامعة فأدركوا دنيا القراءة والمعرفة، فكان هؤلاء - على قلتهم - فاتحة الطريق بينه وبين المجتمع، وغذت وعيهم طلائع الحركة الوطنية الطلابية المنادية بالاستقلال والعدالة الاجتماعية.

وفى النصف الثانى من عقد الأربعينيات من أبناء العمال والفلاحين، وأزعم أن ذلك هو ما اختزل المسافة بين أدب «حقى» وبين الذائقة الأدبية الجديدة بعد قيام ثورة ١٩٥٢ متواكبة مع تبلور وعى الطبقة الوسطى ونشوء عصر «رجل الشارع» وصعود دوره فى نجاح الثورة، وقد نجد علاقة بين هذه الحالة وبين رواية يحيى حقى «صح النوم» مهضومة الحق فى النقد والشهرة، التى صدرت منتصف الخمسينيات.


وعلى أن دور يحيى حقى لا يقتصر على كتابة الأدب، قصةً ومقالة، بل إن له عدة أدوار أخرى لا تقل أهمية، منها دور المؤسس لكيان ثقافى يهتم بإحياء «الفلكلور»، ضمن ما سُمِى فى الخمسينيات «مصلحة الفنون» بوزارة الإرشاد القومى.

والتى ولدت من رحمها فرقة يا «ليل يا عين» بقيادة رائد الفن الشعبى زكريا الحجاوى، وكان نجيب محفوظ يتولى رئاسة مصلحة الفنون قبل يحيى حقى ثم أكمل هو الرسالة، وفى عهده بدأ جمع وتوثيق تراث الفنون الشعبية- من أغان وموسيقى ورقص وسِيَر وملاحم بقيادة أحمد رشدى صالح .


ومنها دوره البارز فى الصحافة الثقافية، عندما رأس تحرير مجلة المجلة، التى ترك عليها بصماته القوية طوال عقد الستينيات، فقدم من خلالها خلاصة إبداعات القصة والشعر والمسرح والفن التشكيلى والنقد الأدبى والتاريخ والتراث الحضارى.

وأتاح الفرصة الأولى للنشر على صفحاتها لأعمال جيل الستينيات من كتاب القصة الشبان، وغيرهم فى مجالات الإبداع الأخرى لإبراز مواهبهم وشق الطريق أمامهم، فأصبحت المجلة جسرا ثقافيا راسخا بين الثقافة الرفيعة والمجتمع.


ومنها دوره كناقد أدبى ومؤسس لما نسميه «النقد الثقافى» بما فى ذلك تنمية الذائقة الجمالية لفنون مثل الموسيقى والعمارة والأدب والفن التشكيلى، عبر إصدار كتب مبسطة بعيدة عن تقعر المتخصصين، مثل كتابه «هيا إلى الكونسير» .


إلا أن دوره الأبرز كان الراعى والأب الروحى للأدباء الشبان، بدءا من استماعه إلى قصصهم وقيامه بتوجيههم برفق الأب المؤمن بمواهبهم ومستقبلهم، حيث ينصت الى نصوصهم وهم يقرؤونها عليه بناء على طلبه عندما يأتونه فى «المجلة» بشارع عبد الخالق ثروت فوق دار المعارف.

وكان يصطحب صاحب القصة الى شرفة مكتبه بالدور السابع، وما أن يبدأ القراءة حتى يتحول الأستاذ إلى آذان صاغية ترهف السمع، وتنطلق مخيلته لتصاحب  النص المقروء، ويلفت نظر صاحبه إلى جماليات الصياغة ؛ من الكلمة والجملة والإيقاع والجرْس الموسيقى والتسديد المباشر بغير تلكؤ إلى لب القصة وهى لحظة التنوير.

فضلا عن تصويب الأخطاء النحوية، ولا ينتهى دوره بالقراءة ومن ثم بالنشر للقصة على صفحات المجلة، ليكون  نشرها بالنسبة للقاص كالفوز بجائزة، بل كثيرا ما كان يكتب للقاص مقدمة لكتابه الأول، ليشجعه بوضع اسمه الكبير بجانب اسم القاص الناشئ.

ومن خلال المقدمة يجلى أمام القارئ ما يتميز به النص من جماليات وخفايا فنية، وما ينفرد به الأسلوب من سمات تنبئ بهويته الخاصة، وما أكثر ما كتب الأستاذ من مقدمات تحليلية لمجموعات قصصية، ولم أكن أنا أول أو آخر من كتب لهم.


موقف «عيش وملح»
وأعتز شخصيا بأن لى مع يحيى حقى أربعة مواقف تاريخية كان لها بالغ الأثر فى كتابتى للقصة القصيرة وفى مسارى فى العمل الثقافى فترة الستينيات، مثلى مثل العديد من أصحاب الموهبة من أبناء جيلى.


وكان الموقف الأول عام ١٩٦٠ وأنا فى العشرين من عمرى، طالبا بالسنة الثالثة بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، وكان مركز التقائنا اليومى تقريبا ؛  نحن رفاق الأدب والفن،  هو شقة بحى العجوزة (خلف مسرح البالون حاليا) وتضم كتاب قصة شباناً مثل محمد جاد والدسوقى فهمى ومحمود بقشيش وسيد خميس وأنا.

كما تضم رسامين من طلبة الكلية مثل جميل شفيق ومكرم حنين ونبيل تاج وعدلى رزق الله ومحيى اللباد، فضلا عن الدسوقى فهمى، هؤلاء وأولئك بخلاف شعراء العامية مثل عبد الرحمن الأبنودى وسيد حجاب ومجدى نجيب وعبد الرحيم منصور.

ولم تخل (الشقة /الندوة) أيضا من نقاد ومفكرين، مثل سيد خميس وخليل كلفت. كان البعض مقيما إقامة دائمة، والبعض الآخر كانوا مترددين بصفة شبه يومية، وكنا جميعا فى العشرينيات، وأصبحنا عبر الأيام والشهور تلاميذ وأساتذة لبعضنا البعض فى نفس الوقت، كمدرسة حرة أقرب إلى «الكوميونة»، تعلمنا فيها بقدر ما تعلمنا من الكتب والندوات والمعاهد.

وحتى من حكاوى السجون التى نتابع أخبار الرفاق المناضلين الذين اعتُقِلوا فيها، تشملنا فورة حماس ثورى ومبدئى من موقعنا على يسار السلطة، مؤمنين بالحرية والعدالة، وكل منا بمثابة كتاب مفتوح متحرك وملىء بالأحلام.


وقد رحب يحيى حقى بكتابة مقدمة لقصص أربعة من بيننا يمارسون الكتابة، وذلك حين قررنا إصدار مجموعة قصصية، رغم انه لم يكن يعرفنا بل لم يسمع أسماءنا من قبل، وقد انضم إلينا كاتبان سكندريان هما محمد حافظ رجب وعباس محمد عباس (الذى حصل ذلك العام على الجائزة الأولى لنادى القصة بالقاهرة).

وكنا جميعا مفلسين، لكننا اهتدينا إلى ناشر شاب سودانى المنشأ مهووس بالأدب والثقافة مثلنا، يقيم دار النشر الخاصة به بميدان الكيت كات بحى امبابة، وتحمس لنشر المجموعة على نفقته، واخترنا عنوان قصة عباس محمد عباس الفائزة لتكون عنوانا للكتاب وهو «عيش وملح»، اعتقادا منا بأن هذا العنوان أصبح شهيرا بمجرد فوز صاحبه  بجائزة نادى القصة.

ولهذا اعتبرناه كفأل حسن لنا. وعبر صفحات الكتاب قدم كل قاص زميلا من زملائه بكلمة عبٌر فيها عن تمرده على أنواع الأدب السائد، وبدت التقديمات الست لبعضنا البعض فى مجملها تعبيرا عن أنفسنا كأصحاب ثورة طليعية ضد كهنوت الحركة الادبية وعلى تجاهلها لأدب الشبان واحتكارها لفرص النشر وتجمٌد أساليبها التقليدية.

وهكذا تقمصنا دور طليعة المستقبل للأدب الجديد، وأدلى محمد حافظ رجب (رحمه الله) - وكان أكبرنا سنا - بتصريحه الشهير بعد صدور الكتاب : «نحن جيل بلا أساتذة!»، مما استفز نقاد الأدب واعتبرونا مغرورين ومدعين حتى قبل ان يقرأوا الكتاب،  أما يوسف السباعى رئيس المجلس الأعلى للفنون والآداب آنذاك، فقد ثار ضدنا ثورة عارمة.

وأفرغ غضبه فى محمد حافظ رجب الذى كان يعمل موظفا تحت رئاسته بالمجلس، وكاد أن يفصله من العمل لولا تدخل أهل الخير، وكان الأمر ينذر باغتيالنا معنويا ونحن فى أول الطريق، لولا وقوف يحيى حقى فى ظهرنا، وأصبح بمثابة درع الحماية لنا أمام هذا الهجوم، فلم يكن بوسع أحد التشكيك فى حكمه النقدى علينا بكل مكانته العالية وتَنَزٌهِه عن أى غرض.

وكانت كلمات مقدمته للكتاب محرجة للمهاجمين، حيث كتب فيها يشيد بمواهبنا ويتلمس نقاط القوة فى أسلوب كل منا، بل اعتبر أننا نبشر بظهور مدرسة للواقعية الجديدة، وهو ما أدى إلى امتصاص حدة الهجوم.

وإلى تقدم بعض النقاد بالكتابة عن الكتاب مشجعين لنا، مثل الناقد فؤاد دوارة الذى كان مساعدا ليحيى حقى فى تحرير المجلة، فكتب مدافعا عن تجربتنا ومعلقا الآمال على مواهبنا الغضة، وهكذا اكتسبنا شهرة لم تكن لتتاح لأمثالنا لولا مقدمة يحيى حقى.


كفر الشيخ
كان الموقف الثانى بمدينة كفر الشيخ بعد أن عُيِنتُ مديرا لقصر الثقافة الذى قمت بإنشائه بها ١٩٦٧، قبل أن تُبتلَى البلاد بمحنة الهزيمة العسكرية المُرة، وقد آمنت - مع ثروت عكاشة وزير الثقافة ومساعده للثقافة الجماهيرية؛ الكاتب الصحفى سعد كامل - بأن الثقافة هى سبيل بناء الإنسان وسط دمار الهزيمة، بإشاعة الوعى بحتمية النصر بعد عبور المحنة.

عن طريق تعضيد قوة الشعب باعتباره المنبع والمصب، لكننى واجهت مقاومة ضارية من السلطات المحلية، بدءا من تنظيم الاتحاد الاشتراكى وكبار الإقطاعيين حتى محافظ الإقليم، وسلاحهم فى الهجوم على القصر وقيادته والمساندين له أنهم يساريون يعملون ضد المصلحة الوطنية، وأنهم وأمثالهم سبب النكسة، وشاع أمر القصر ونضاله السياسى والثقافى فى المحافل الثقافية بمصر.

وانقسم الرأى العام بين واقف معه وواقف ضده ومترقب قرار القيادة السياسية، وكنت أستعين بقامات كبيرة من الكتاب والمثقفين والسياسيين باستضافتهم من القاهرة للمشاركة فى ندوات تفاعلية مع الجماهير بالقصر وقافلة الثقافة به، وقد نجحت هذه الحملة فى خلق جبهة وطنية تقدمية بالمحافظة.

واستطاعت فك الحصار المضروب حول القصر جزئيا، وفكرتُ فى دعوة الأستاذ يحيى حقى للمشاركة فى ندوة ثقافية لدعم موقفنا، وكنت اتوقع اعتذاره عنها، لأنه ينأى بنفسه بعيدا عن المشاكل السياسية من ناحية،  ولصعوبة سفره بالقطار القشاش إلى كفر الشيخ وهو على مشارف الشيخوخة من ناحية أخرى.

ولكنى فوجئت بموافقته على الحضور، وكانت ليلة من أروع الليالى الثقافية، بقى الأستاذ فيها مع الجمهور إلى قرب منتصف الليل وهو بادى السعادة، وعاد إلى القاهرة فى اليوم التالى، ولم يكن خافيا على أحد أنه أراد بحضوره أن يدعم موقف القصر وقيادته الشابة كما دعم من قبل مجموعة «عيش وملح».

وعلى ما فيها من اندفاع الشباب، ولم يكتف بذلك، بل كتب بعد عودته مقالا مطولا بجريدة المساء التى كان يفضل نشر مقالاته بها عن كبريات الصحف الصباحية، وأشاد فيه بتجربة قصر الثقافة، وبشٌر بالصحوة الثقافية الوليدة، ودعا إلى تكرار التجربة فى مختلف الأقاليم، وأذكر أنه ضم هذا المقال إلى أحد كتبه فيما بعد.


المثلث الفيروزى
 بعد تفاقم الثورة المضادة على قصر الثقافة بات مؤكدا أنه سيتم القضاء على تجربته لا محالة، وهذا ما حدث فى يوليو ٦٨، وعدت إلى القاهرة واستأنفت نشاطى الفنى والأدبى بقصر المسافر خانة الجمالية، وكنت على اتصال مستمر بالأستاذ يحيى، وقد زارنى أكثر من مرة فى مرسمى بالمسافر خانة، فقد كان عاشقا لكل من الفن التشكيلى وحى الجمالية التاريخى.

ومُتَيٌما بالقصر العريق، وكان يحاورنى حول الفن حوار الخبير المتعمق فى تاريخه وأسراره، وقررت فى ذلك الوقت إصدار مجموعتى القصصية المنفردة الثانية بعنوان «المثلث الفيروزى»، ورحب الأديب الكبير بكتابة مقدمة لها لتنشر بالهيئة العامة للكتاب.

ودعانى إلى بيته لأقرأها له تباعا كعادته، وكم استفدت من ملاحظاته أثناء القراءة، كما استفدت مما كتبه فى المقدمة بعد ذلك، وأدين له بالفضل فى اكتشاف سمة أسلوبية فى قصصى تمثل هويتى المميزة كما أشار فى المقدمة.

وهى وجود رؤية تشكيلية كسمة منفردة فى كتابتى، تعتمد على اللوحة الجمالية من زاوية بصرية،  يمتزج فيها السرد والتصوير، حتى أنه اعتبر ذلك رافدا جديدا للقصة المصرية القصيرة، ولم أكن فى البداية أمارس  ذلك بوعى وأتخذه أسلوبا قصديا، فأوليته بعد ذلك اهتمامى بتأكيده بغير افتعال.

وأظن أن إشارة يحيى حقى لا تزال تلقى بظلها على كتابتى حتى الآن، وقد اكتسبت مزيدا من النضج والبلورة لعالمى القصصى كما تنبأ به الأستاذ قبل أكثر من نصف قرن.


و لقد كان يحيى حقى آخر الآباء الروحيين العظام فى حياتنا الأدبية، وإنه لجدير بأن  تعمر كتبه ، أركان كل مكتبات مصر والعالم العربى، ومن قبلها مكتبات كل الشباب المخلصين للقصة القصيرة كتابة وقراءة على مر الأجيال، لتظل منارة تنير حياتنا عبر الزمن.

اقرأ  ايضًا | لجنة الفنون بـ«قومي المرأة» تنظم معرضا فنيا وندوة بعنوان «صيحة» بنقابة التشكيليين