أحمد عزيز الحسين يكتب: تاريخ العيون المُطْفَأة: سرديّة السُّلطة والعمَى

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

أفلحت الرّواية فى  إقامة نوع من الغرابة المُقلِقة فى  متنها الحكائىّ،ونجحت فى  كسر الرّتابة التى هيمنت على ذائقة القارئ.

 تتصدّى روايةُ (تاريخ العيون المُطفأة) لمعالجة الهموم الكبرى، والمفاصل الدّراماتيكيّة السّاخنة التى يواجهها المجتمعُ العربىّ المعاصر، وتسعى لاستيعاب الواقع الموّار من حولها، محاولةً تملُّكه معرفياً، وإقامة بنيتها الرّامزة معه على المستوى الدّلالى، فى  محاولة لتشييد بنية روائيّة طباقيّة مستقلّة قادرة على اكتساب استقلاليّتها من خلال تشكيل معمار فنيِّ يستعين بآليّات السّرد التُّراثىّ والحديث، ويمتح من الواقعىّ والعجائبىّ والغرائبى لاصطناع فضاءٍ روائيٍّ خاصٍّ به.


شعريّة العتبات النّصيّة
يشكِّل عنوانُ رواية «تاريخُ العيون المُطفـَأة»الروائى السورى نبيل سليمان، دار مسكيليانى، بنيةً لغويّةً مستقلّةً عن النّصّ على المستويين النّحوىّ والتّركيبىّ، ويُعَدُّ مفتاحاً تواصُليّاً للدُّخول إليه، واستِكْناه دلالته.

ويتكوّن العنوانُ فى  النّصّ من مبتدأ محذوف الخبر، و يشتغل الحذفُ على المستوى التّركيبىّ للعنوان، فى  حين يشتغل الغموضُ على المستوى الدّلالىّ،ويشكّل تحريضاً للمتلقّى على قراءة النّصّ، وفكّ رموزه، وفتح مغاليقه، واستِكْناه دلالته. 


وترشح كلمةُ (المُطفأة) الواردة فى  العنوان بوجود أكثر من سبب يحول دون الاحتكام إلى حاسّة البصر فى  الوعى الجمالى للواقع، واستيعابه، وفى  مقدّمة هذه الأسباب وجودُ سلطةٍ قاهرة تستند إلى القوّة والعنف لمنعِ العيون من رؤية ما حولها.

وتستمدُّ هذه السُّلطة قوّتها من فاعلٍ خارجيٍّ يتحكَّم بها، أو مثبّطٍ داخليٍّ يكمُن فى  داخل شخصيّتها، ويحول بينها وبين الانفتاح على واقعها وحاضرها، ويدفعها إلى التّعلُّق بالماضى، والاحتكام إلى تراث الأسلاف فى إدراكها لما حولها، ومواجهتها له، أمّا العتبة النّصيَّة الثّانية، المؤلَّفة من مقبوسَيْن استعارهما الكاتبُ من (ياسين عدنان) و(أفونسو كروش) (ص5)؛ فقد جعلهما مفتاحاً قرائيّاً لسَبْر أغوار النّصِّ، والتّلويح بدلالته.


وليس الاستهلالُ السّرديُّ التُّراثىّ،الذى بدأ به الخطابُ الرِّوائيّ: «كان، لا ماكان، وغير الله ما كان . كان فى  حاضر العصر والأوان»(ص7)، مقبوساً يدلّ على التّعالق النّصىّ مع آليّات السّرد التُّراثىّ،ويرشح بـ«عبرة أخلاقية» كما يرى عبدالفتاح كيليطو فى  استهلال كهذا (انظر : ص 7من كتابه العين والإبرة).

بل هو إشارة ذكيّة إلى أنّ ما سيرد فى  المتن الحكائى من وقائع ليس سوى امتدادٍ تخيُّليٍّ لماضٍ آفلٍ لا ينفكّ يُرخِى بثقله على حيوات الشّخصيّات فى  الفضاء الرّوائىّ،ويترك فى ها بصماتٍ تدلّ على أنّها لا تزال مشدودة إليه.

وأنّ آليّة العلاقة بين السُّلطة والنّاس فى  هذا الفضاء المُتخيّل لم تتغيّر، ولا تزال تنهض على الإقصاء والاستبداد والطُّغيان، كما كانت فى  السِّياق المرجعيِّ الذى يُحِيل إليه الخطابُ الرّوائىّ نفسه.


جدل السُّلطة والعين
تتصدّى روايةُ (تاريخ العيون المُطفأة) لمعالجة الهموم الكبرى، والمفاصل الدّراماتيكيّة السّاخنة التى يواجهها المجتمعُ العربىّ المعاصر، وتسعى لاستيعاب الواقع الموّار من حولها، محاولةً تملُّكه معرفياً.

وإقامة بنيتها الرّامزة معه على المستوى الدّلالى، فى محاولة لتشييد بنية روائيّة طباقيّة مستقلّة قادرة على اكتساب استقلاليّتها من خلال تشكيل معمار فنيِّ يستعين بآليّات السّرد التُّراثىّ والحديث، ويمتح من الواقعىّ والعجائبىّ والغرائبى لاصطناع فضاءٍ روائيٍّ خاصٍّ به.


وتُقِيم الرّواية نوعاً من التّوازى بين ثلاثة بلدانٍ منكوبة ابتُليتْ بهزّات سياسيّة عنيفة وأزمات نفسيّة عميقة، وبين مجموعة شخصيّاتٍ مهزوزةٍ من الدّاخل فقدت القدرة على الرُّؤية الواضحة، وأمستْ عاجزةً عن تلمُّس طريقها وسط التّحوُّلات المتسارعة والأزمات العنيفة.

.التى تعرَّض لها واقعُها؛ ممّا جعل حياتها مفعمةً بالتّصدُّعات والكوابيس والهذيانات، وأفقدها القدرة على الرُّؤية الصّحيحة؛ وهكذا أصبح (العمى) نتيجةً حتميّة لفقدانها المقدرةَ على التعامل مع واقعها، والتّحكُّم بحياتها.

وعجْزِها عن الإمساك بما يجرى فى هما من تغيُّرات وتحوُّلات، كما أصبح بحثها عن ذواتها الهشّة، وهُويّاتها المتشظِّية ضرْباً من العبث فى  فضاء سديميٍّ ضبابيٍّ لا يمكن القبضُ على ما يجرى فى من تحوُّلات. وقد حرص الكاتبُ على جعل نصِّه شبكةً لالتقاط الصُّدُوع التى أصابت شخصيّاته من الدّاخل، وأفلح فى  تحويله إلى مرآة مصقولةٍ للكشف عنها بوضوح.


ومع وجود ثيماتٍ تاريخيّة محدَّدة فى  الخطاب الرّوائيِّ تُغرِى بإقامة نوع من المطابقة بين الواقع المُتخيَّل الذى تجسّد فى  هذا الخطاب، والواقع الموضوعيِّ الذى يُوهِم به؛ إلا أنّ مهارة الكاتب فى  استثمار موتيفاته الحكائيّة جعلت النّصَّ يُفلِح فى الهرب من مغبّة المطابقة السّابقة؛ بحيث اكتسبت هذه الموتيفات القدرة على الاستقلاليّة ضمن البنية الفنّيّة التى تتعالق معها، وأمستْ إلماحاتٍ فنيّةً رامزة إلى عالم مبتدَع له دلالة موازية لدلالته فى  الواقع الموضوعىّ الذى يُوهِم به الخطابُ الرّوائىّ نفسه.


وقد أفلحت الرّواية فى  إقامة نوع من الغرابة المُقلِقة فى  متنها الحكائىّ،ونجحت فى  كسر الرّتابة التى هيمنت على ذائقة القارئ، وأقامتْ بنياناً روائيّاً رامزاً يجسّد هذا المتن، ويقطع، فى  الوقت نفسه، مع آليّات السّرد التّقليدىّ.

وينهض على مفاجأة القارئ بتشكيل بنية متخيَّلة يمتزج فى ها الطّبيعىّ مع اللاطبيعىّ،والواقعىّ مع اللاواقعىّ،والمألوف مع العجيب، ولذا يحتاج قارئها إلى تغيير فى  آليّة تواصُله السّردىّ مع النّصّ؛ لكى ينجو من مغبّة الوقوع فى  فخّ المطابقة الميكانيكيّة الذى ألمحنا إليه.


وقد استهلّ الكاتب خطابه الرّوائيُّ بالحديث عن ثلاثة بلدان هي: برّ شمس، وكمبا، وقمّورين  (انظر: ص7)، ثمّ عمد، فى  الفصل الأخير، إلى دمجها معاً فى  مقطع واحد للتّأكيد على ما بينها من قواسم مشتركة.

ولم يحرص على طرح فروق بينها فى  الجوهر؛ إذ تهيمن عليها جميعاً حكوماتٌ استبداديّة متشابهة تجثم على صدور مواطنيها بالقوّة، وتُعادى الحريّة، والرّأى الآخر، وتقوم بينها حروبٌ داخليّة دمويّة، وتنوء تحت ثقل الخرافة، والانشداد إلى الماضى، وتعانى من القمع والاستلاب؛ ممّا دفع محكوميها إلى التّمرُّد والعصيان والثّورة مطالبين بالانعتاق ممّا هم فى.


وفى  ظنّى أنّ شخصيّات الرّواية لا تنظر إلى واقعها  متّكئةً إلى منظورها الذّاتىّ بل تنظر إليه من منظور غيرها، ولذا تفتقر إلى القدرة على رؤيته بشكل واضح؛ وبالتّالى فما تراه فى  هذا الواقع لا ينعكس فى  عيونها هى، لأنّها لاتستطيع رؤيته أصلا.

ولا تستطيع تكوين فكرة دقيقة عنه، بل تحمل حكمَ قيمة مسبقاً عنه من خلال حضور (قوّة) قاهرة تتحكّم بقدرتها على الرّؤية، وتحدِّد لها المسافة التى تراها منها، والآليّة التى تُمكِّنها من فعل ذلك، ولعلّ هذا هو ما جعل قدرة (مليكة) على الإبصار تتحسّن بعد مغادرتها قمّورين (رمز الظُّلمة) إلى باريس (رمز النّور) هاربةً من عسف السّلطة فى ها.

وهو مادفعها للكتابة إلى (مولود) قائلة له: « هل يعقل أن يكون ما عانيتُه قى قمّورين وحتّى فى  برّشمس هو ما أصاب نظرى بالضّعف، بل وهدّدنى بالعمى»(ص 381)؛ وحين عادت إلى قمّورين بعد ذلك أخذت تعانى من علّة فى  عينيها من جديد.

ولذلك أمسى للعمى فى  الرّواية علاقة بالحيِّز الذى تخترقه شخصيّاتُها، وهذا ماجعل لطيف (إحدى شخصيّاتها المحوريّة) يوضِّح مفهومه للعمى قائلا لـ(آسيا): «العمى كثير يا آسيا، نظام التّعليم عندنا، من رياض الأطفال فصاعداً، هو عمى، عمى يُولِّد عمى. هذه الفضائيّات والإذاعات، هذا الإعلام فى  برّشمس، بل فى  العالم كلّه، ليس غير عمى، يولّد عمى.

وما الذى فى  بلادنا ليس عمى، ويولَد من عمى، ويُولّد عمى؟ (ص 307). وفى  مثل هذا الفضاء الكابوسىّ الذى ترزح تحته البلدان الثّلاثة تغدو الظُّلمة مُفضِيةً إلى العمى شأنها فى  ذلك شأن الضّوء (ص 73)؛ ويصبح المبصرُ غير قادرعلى رؤية الواقع بشكلٍ جليٍّ أيضاً.


وقد كشف الكاتبُ من خلال متنه الحكائىّ عن المفارقة بين غنى هذه البلدان بالثّروات ومعاناة سكّانها من الفقر والجوع والعِلل المتفشِّية فى  الوقت نفسه، وتحوُّلِها إلى أوبئة كاسحة أقضّتْ مضاجعهم، وحوّلتْ حياتهم إلى جحيم، وقد نزلت هذه العِللُ على سكّانها من السّماء، أو وفدت إليهم من الماضى، أو تفجّرت من دخائلهم، وأفضتْ بهم إلى حياة كارثيّة لا مثيل لها.


وتجلَّت المفارقة فى  أنّ السُّلطة التى تهيمن على هذه البلدان «أطبقت على صدور الناس وبطونهم»، وحرمتْهُم من التّمتُّع بالحياة الحرّة الكريمة، مع ما تشتمل عليه بلدانهم من ثروات وأموال طائلة، وأجبرتْهُم على خياطة شفاههم بالأبرة والخيط، ومنعتْهم من الكلام، وحوّلت مدارسهم وجامعاتهم إلى أمكنة خرساء.

وأجبرتْهُم على التّقوقُع فى  بيوتهم خوفاً من البصّاصين المنبثّين فى  كلّ مكان، وأكرهتْهُم على تعلُّم لغة الإشارة خوفاً من الوقوع فى  المحظور، كما قامت بإجبارهم على الاحتفال بأعيادها المُزيّفة المختلفة مع ما يعانونه من جوع واضطِّهاد.

وأفضى ذلك كلُّه إلى إصابتهم بداء (العمى)، ممّا دفعهم إلى التّمرُّد والثّورة عليها للخلاص ممّا هم فى ه من معاناةٍ واستلاب، فـ»تصدّت لهم السلطة بالسِّلاح، وقبضت على معظمهم، وسوّت حارتهم بالأرض، وقتلتْ معظمهم، ودفنتْهم فى  الأقبية، وفى  باطن الأرض» (ص18)؛ وأشاعت فى  وسائلها الإعلاميّة المأجورة أنّهم مجرّد «عصابة إجراميّة من العميان» وأنّهم ضالعون مع غيرهم فى  «مؤامرة كونيّة» ضدّها (انظر: ص 13).


وقد عبّر عبدالمهيمن ابن الشيخ حميد ماء العينين عن صعوبة الحياة الشّريفة فى  كمبا قائلا لأبيه: « ما منْ عملٍ شريفٍ، لا هنا ولا هناك «، مؤكِّداً أنّ السُّلطة لم تترك مجالا لحياة شريفة مبنيّة على الحلال، وأنّه لذلك اضطُّرَّ إلى أن يكون عنصر أمن فى  قمُّورين؛ فى  حين وقفتْ بعضُ الشّخصيّات، كـالمحامى (شعيب محمّد)، حياتَها للدِّفاع عن المعارضين فى  كمبا.

ولم تستطع الوقوف على الحياد، وهى ترى السُّلطة «تذِلُّ النّاسَ، وتُفسِدهم، وتنهبهم، وتخدعهم حتّى فى  دينهم» (ص102)؛ فأفضى ذلك إلى اعتقاله، والتّنكيل به، وزجّه فى  السجن، وسلْبِه ما يملكه من قدرات عقليّة، وإدخاله إلى مستشفى المجانين؛ ممّا اضطُّرّهَ إلى مغادرة كمبا متوجّهاً إلى برّشمس، وهو يردِّد:» إلى جهنم ياكمبا».

ولكنّه لم يسلم من ملاحقة الحكومة له فى  مكانه الجديد، إذ مالبث أن خُطِف من بيته، وعُذِّبَ إلى أن مات، ومُنِع أهلُه من إقامة الحداد عليه، أو ارتداء الثّياب السّوداء حزناً على فراقه، أو التّفوُّه بأيّة (شوشرة) حول موته، ثمّ قامت السُّلطة بفصل ابنته من عملها، ممّا جعل ضعف البصر يتسلّل إليها حتّى» شكَتْ فى  أنّها لا تكاد ترى»، ومالبثت أن أعلنت لمن زاروها معزّين:» الدّنيا اسودّت فى  عيونى يا ناس. أنا عميتُ يا الله»(ص 153).


وأمّا مولود (ابن كمبا المدلَّل) فلم يتّخذ موقفاً واضحاً ممّا جرى، وشعر بالقلق من وجوده فى  بيت شعيب محمّد المحامى، ومن علاقته مع ابنته (أماني)، وأدرك أنّ ذلك يمكن أن يُثِير عليه غضب الحكومة، فآثر الهروب من (كمبا)، والانتقال إلى (برّشمس).

وحاول أن يحيا حياة طبيعيّة فى  منعزله الجديد، ولكنّه لم يفلح؛ إذ ما لبث أن استُدعِى إلى مركز الأمن فى ها، وعُرِض عليه أن يعمل مُخبِراً، ويتجسّس على ما تقوم به حبيبته مليكة، وعندما رفض القيام بالمهمّة المُوكَلة إليه؛ قام رجالُ الأمن بضربه.

وقرّروا إبعاده إلى قمّورين، (ص128)، لكنّ السُّلطات فى  قمّورين حاصرتْهُ من جديد إلى أن ضعُف، ووافق على العمل مخبراً لديها؛ وعندئذٍ شعر ببصره (يتضّبب)، وبأن الظلام يزحف إلى عينيه شيئاً فشيئاً، وبدأ يشعر بالخزى والنّدم والعار لقبوله القيام بالمهمة المسنَدة إليه.


وفى  منولوج داخلىّ يدرك مولود نذالة ماقبل به، وتؤنِّبه نفسه على دناءته وسقوطه المريع، ويخاطب نفسه قائلا:» عدْ إلى عماك. عدْ إلى موتك. عيناكَ صارتا من ظلام، وما بينَ جنبيك ذوى. لملمْ خزيك، واسترْ عريك وفضيحتك . فالخزيُ لا يُعمِى فقط بل يُصِمُّ أيضاً، ويقطع اللِّسان» (ص197).

وتُفضِى السّقطةُ إلى إصابته بالضّعف الجنسىّ،فى صبح عنّيناً، ولا يستطيع ممارسة الجنس مع (مليكة) بعد أن وافق على أن يكون عيناً عليها وعلى زملائها، وينسحب عنها مُصَاباً بالخزى، فاقِداً لرجولته، بما هى رمز لذاته المتشظّية وفقدانه لكينونته.

ولكنّه لايكتفى  بذلك بل يستمرّ فى  خزيه، ويقوم بدور المخبر والعميل الأمنىّ،ويلعب الدّور نفسه مع (آسيا دوكان) لينال رضى السّلطة فى  قمّورين، ويعترف بأنّه مارس الخيانة، وقبِل بأن يُغيِّر ذاته.

ويتخلّى عن وجهه الحقيقيّ. ولاتلبث السُّلطة أن تكلِّفه بالسّفر إلى اليونان لإقناع أخيه عبدالمهيمن  بالحضور إلى قمُّورين ليمثل بين يديها؛ وهكذا سقط مع إخوته جميعاً فى  الشّرك الذى أعدّتْه السُّلطة لهم؛ فأمسى أحدهم عميلا لهاً، والثّانى مطلوباً منها.

والثّالث متنفِّذاً كبيراً فى ها، فى  إشارة دالّة إلى ما قامت به المؤسّسة الأمنيّة من إحداث شقّ كبير فى  بنية الأسرة العربيّة أفضى إلى تصدُّعها وتدميرها فى  كلٍّ من كمبا، وبرّشمس وقمّورين بما هو رمز لتدمير البنية الاجتماعيّة فى ها.  


وقد تلبّس مولود شخصيّة العميل الأمنىّ كما طُلِب منه، وقام بالمهمَّة التى كلّفته بها السُّلطة على أفضل ما يكون، ووجد ذاته فى  أن يكون مُخبِراً، وأحسّ بسعادة كبيرة عندما أثنى اللّواء مشرق على جهوده.

وأبدى رضاه عمّا قام به، بل لقد أخذه التّيه عندما عُومِل  بوصفه رجلَ أمن مهمّاً، وقام سائقُ الوزير بفتح باب السّيّارة له، ونقله فى  سيّارة فاخرة، و»تفجّر تيهه ملء الشّوارع التى اخترقتها السّيّارة من وزارة الدّاخلية إلى البيت» وكان ذلك إيذاناً بسقوطه إلى الأبد.


وقد ربط الكاتب فى  خطابه الروائىّ بين ضعف البصر (أو داء العمى) وبين التّعاون مع السُّلطة، أو تقلُّد مناصب كبرى فى ها؛ فـ (شيماء علي) أصبحت عمياء لأنّها تعاونت مع السُّلطة فى  قمّورين، (انظر: ص 132)، والكولونيل (دوكان) أصيب بالعمى.

وازداد شراسةً بعد أن «صار من البطانة المقرَّبة» للرّئيس فى  (برّشمس)، كما أصيبتْ  معاونتُه بالعمى للسّبب نفسه، وبدأ ضعفُ البصر يظهر على (معاون) الرّئيس،  وقد عبّرت (آسيا دوكان)  عن كراهيتها للعيش فى  برّشمس قائلة لمولود : « العيش هنا صار لا يطاق. برّشمس فى  حرب حقيقيّة»( ص 232).


وأفضى استبداد السّلطة فى  برّشمس إلى الثورة عليها كما يسمِّيها بعضهم، أو إلى الجهاد كما يقول بعضهم الآخر، أو إلى الحرب الأهليّة، كما يسمِّيها فريق ثالث، أمّا السُّلطة فى  برّشمس فقد اعتبرته «تمرُّداً وعصياناً ومؤامرة» (233).

فى  حين اعتبرته السُّلطة فى  كمبا مؤامرة كونيّة شاركت فى  حبكها «الأصابعُ الدّوليّة» التى لاتنى «تلعب فى  كمبا وفى  برّشمس وربّما فى  قمّورين» (233).  


أمّا فى  برّشمس فقد هيمنت عليها هى الأخرى سلطة عاتية أفضى استبدادها إلى ظهور معارضة مسلّحة تمترست بالإسلام، فقابلتْها السّلطةُ بالعنف، وتغلّبت عليها، وأمسى النّاس بين كفَّى رحى: السُّلطة الأتوقراطيّة الغاشمة، والمعارضة الدّمويّة المسلّحة، وعانوا من ذلك الأمرّين. 


وقد ربط الكاتب بين داء العمى الذى أصيب به النّاس فى  كمبا وبرّشمس وقمّورين وبين هزيمة السُّلطات السِّياسيّة فى  هذه البلدان أمام إسرائيل، وأدّى ذلك إلى خسارتها لفلسطين فى  عام 1948 (انظر: ص 103)، إذ بدأ حميد ماء العينين يفقد بصره، ويهرم بعد عودته مهزوماً من فلسطين عقب نكبة حزيران (ص 24)، ثمّ لحقته زوجته فخر النّساء فأصيبت بالعمى أيضاً.

وانضمّ إليها كثيرون من النّاس فى  كمبا؛ إذ أخذ الدّاء يتسلّل إليهم من دون رحمة، ومالبثت فخر النّساء أن توفِّيت بعد تسعين يوماً من إصابتها بالعمى، كما بدأ الهرم يتسلّل إلى حميد ماء العينين، فى صيب خطواته وصوته وسمعه وانحناء ظهره، ويؤدّى إلى ضموره وضعف بصره وذاكرته (ص 28).

وعن ذلك يتحدّث أبووعد لـ(مولود) قائلا:» فى  فلسطين حاربنا يا ابنى والله، وانهزمنا، بلامكابرة، انهزمنا، واستُشهِد خالى، ورجعتُ مع من رجع رؤوسُنا منكوسة»(ص 139).


وقد حاولت السُّلطات فى  برّشمس التّعمية على الأسباب الحقيقيّة لانتشار المرض، وصرْفِ مواطنيها عن التّفكير فى  أسباب تفشِّيه محاولة نشر وعى مزيَّف يقضى بنشر فكر مثالىّ يُروِّج لأسباب أخرى غير أنّ الدكتور عبد المجذوب صالح لم يرض بذلك.

وتصدّى لفضح ما تقوم به السُّلطة من تزييف؛ فقامت باغتياله بذريعة تحالفه مع الفضائيّات المعادية لبرّشمس، واتّهمتْه بإضعاف (عزيمة الأمّة) من خلال دحضه لادّعاءاتها الكاذبة فى  أسباب انتشار المرض (ص123). 


تصدّت رواية (تاريخ العيون المطفأة) للمفهوم الخاطئ الذى أشاعه المخرج الفرنسىّ آلان رينيه عن ضعف البصر، ورأى فى ه أنّ النّاس جميعاً محكومون بقصور الرّؤية، وبالعجز عن رؤية الواقع كما هو، وأنّ ضعف البصر لديهم نتاج لتركيبة الكون نفسها (انظر: ص244).

وذهبت الرّواية (على لسان مليكة) إلى أنّ هذا الضّعف نتاج لسياق سياسىّ واجتماعىّ معيّن عاشه الناس فى  كمبا وبرّشمس وقمورين، وليس نتاجاً لأسباب خارجة عن إرادتهم كما يزعم الموالون للسُّلطة، وهذا ما أفضى إلى اعتقالها فى  قمورين؛ مما أدّى إلى هربها خوفاً من الاعتقال مرّة أخرى ( ص 255).

لكنّ المهازل استمرّت فى  قمّورين إذ أصيبت الرّئيسة بالعمى، واضطُّرّت إلى الاستعانة بعصا إلكترونيّة لحمايتها من العوائق عند سيرها، وإرسال تردُّدات إلكترونيّة لمنع اصطدامها بأىّ عائق، كما زُوِّدت العصا بعاكس ضوئىّ للسّيّارات.

وهذا ما جعل السُّلطة فى  قمورين تخصِّص يوماً للاحتفال بهذه العصا تسمّيه (يوم العصا البيضاء)،  وتدعو إلى جعله تقليداً عالمياً (ص270)،والواقع أن قارئ الرواية يدرك بأنّ كاتبها ليس بارعاً فى  سرد نصّه الرّوائى وحسب.


بل هو ذوّاقة للطّعام والشّراب، ولَه خبرة فى  البستنة والزّراعة، واطّلاع واسع على فنون التّشكيل والموسيقا والسّينما، وقدرة كبيرة على استثمار هذه العناصر جميعاً فى  بنية نصّه الرّوائىّ،فضلا عن توشية السّرد بأرابيسك ثقافى ّ متنوّع زاد من قدرة الرّواية على الإمتاع، والجذب، والقدرة على الإقناع، وشدّ انتباه القارئ.

 

اقرأ أيضًا | أحمد الزناتى يكتب: بين جابريل مارسيل وإرنست بلوخ: فلسفة الأمل وفلسفة اليأس