أحمد الزناتى يكتب: بين جابريل مارسيل وإرنست بلوخ: فلسفة الأمل وفلسفة اليأس

إرنست بلوخ
إرنست بلوخ

عند مارسيل الأمل يسير إلى جوار المِحن، بل هو ردّ فعلنا على المِحن، مؤكدًا أن هذه المِحن هى أسباب محتملة للوقوع فى اليأس، وهكذا فلا وجود للأمل من دون إغواء الوقوع فى براثن اليأس. ومن ثمّ فالأمل هو فعل هزيمة الإغواء والتغلّب عليه بشكل فعّال. 

أن تحبَّ إنسانًا معناه أن تنتظر منه شيئًا؛ وهو شىءغير قابل للتعريف أو التوقّع، أن تحبَّ إنسانًا معناه أن تمكنّه من تحقيق ما ينتظره منك» (جابريل مارسيل- الإنسان عابر سبيل).
يميّز عبد الرحمن بدوى الفيلسوفَ الوجودى الفرنسى الكبير جابريل مارسيل عـن أقرانه من رواد الوجودية (المسيحية) فى القرن العشرين بأن فلسفته مستمدة من تجاربه الذاتية الباطنية، ولهذا اتخذت تأملاته صورة يوميات، ولا نجد له أثرًا فلسفيًا على هيئة سِفر مكتمل الأركان يقول أركان فلسفتى كذا وكذا، وإنما نُشر إنتاجه على هيئة مقالات ويوميات ونصوص تأملية وخواطر وشذرات عمومية الطابع. 

أولَى مارسيل اهتمامًا خاصًا إلى فلسفة الأمل وفلسفة اليأس. فى كتابه (الإنسان، عابر سبيل: تمهيد لميتافيزيقا الأمل)، يمدّنا باستبصارات ذكية حول فكرتى اليأس والأمل من منظوره الوجودي/المسيحي. فى البداية أنوّه بأن د. بدوى ترجَم عنوان الكتاب «الإنسان المسافر».

لكنى ارتأيت أن أخالفه، ولو مرّة، وأترجم العنوان «الإنسان، عابر سبيل»، حيث يُصدِّر مارسيل الكتاب بالعبارة التالية: «ربما يمكننا إقرار نظام مستقر على هذه الأرض لو أدرك الإنسان حقيقة أنه مجرد عابر سبيل»، وهى أقرب – فى قرائتي- لروح جابريل مارسيل الحاضّة على التواضع وعلى تخفيف الوطء على هذه الأرض وعلى حقيقة أن دورك هو أن تؤدى مهمّتكَ فى هذه الدنيا- بعد أن تذوق الأمرين لتعرفها- ثم ترحل من دون صخب. 


كتاب مارسيل ثرى ومتنوع الأفكار ويصعب تلخيص أفكاره فى سطور، وثراؤه كما يلاحظ د. بدوى راجعٌ إلى خروجه من استبصارات ذاتية. يقول جابريل فى بداية الفصل: «.. يتحتم علينا أن نفهم أن هذه الملاحظات الراصدة إنما تصدُق على علاقتى بذاتى فقط» (صفحة 24). ومن ثمّ يتحتم علينا كذلك ألا نفهمها على أنها لا تلزم أحدًا سواه، وهو ما يرفعه عندى إلى مرتبة مفكّر حقيقي. 


سأحاول فى السطور التالية إضاءة فكرة الأمل/اليأس عند مارسيل وعلاقتها بالإبداع الفنى، ثم أنتقل إلى موقف فيلسوف يقف على الجانب المقابل تمامًا، أقصد الفيلسوف الألمانى الماركسى الكبير إرنست بلوخ وفكرته عن مبدأ الأمل، لطرح فكرة سأوردها فى نهاية هذه المادة.


عند مارسيل الأمل فى جوهره فعل ميتافيزيقى، متعالٍ، مُعلّق بالغيبيات، وهو، أى مارسيل، يقيم حدًا فاصلًا بينه وبين الوجودية العَدَمية عند سارتر وكامو وبقية الشلّة المعروفة. فى فلسفة مارسيل وجود الإنسان الحقيقى مرهون بقدرته على إخلاصه لفعل الإبداع، إذ يقول نصًا: «الإنسان الحى فى هذه الحياة ليس مَن يملك القدرة على تذوّق طعمِها، بل من يملك القدرة على نقل مذاق تجربته إلى الآخرين، والإنسان الحى حقًا- بصرف النظر عن أية إنجازات ملموسة أحرزها فى حياته- هو مَن يتحلّى بروح مبدعة». 


يشرح مارسيل مصطلح الإخلاص للإبداع بأنه القدرة على منح جزء من أنفسنا للآخرين، عن طريق الحب الصادق أو مشاعر الصداقة أو العطاء دون انتظار مقابل، وكذلك من خلال الفنون الإبداعية والفنون الجميلة، بحسب مارسيل يربطنا إخلاصنا لعملنا الإبداعى بالآخرين، إذ يجعلنا نتعرّف عليهم.

ونحن نحاول التعبير عن ذواتنا. الإخلاص للإبداع هو الرغبة المتواصلة التى لا تنقطع فى الإفصاح عن طبيعة ذواتنا. ثمة فجوة بيننا وبين الآخرين، وكلما تقلّصت تلك الفجوة، زادت مساحة وجودنا. أظن أن هذا هو السبب الذى يجعل المبدعين يشعرون بفرحة حينما يثنى الآخرون على فنّهم/أدبهم/إنتاجهم الموسيقى أو الشعرى، صحيح أن النفس مجبولة على حب كلمات المديح ونظرات التقدير.

لكن ثمة شعور عميق يغزو المبدع بأن حصيلة مجهوده قد فتحت بابًا سريًا استطاع عبره النفاذ إلى روح إنسان آخر، أو تسكين آلامه، أو الإجابة عن سؤال يؤرقه، أو على الأقل خلق شعورًا بالجمال عنده. هنا فقط – بحسب مارسيل- يُصنع الأمل، عبر الإخلاص للإبداع.


قرأتُ مرة أن الفيلسوف الألمانى الكبير إدموند هوسيرل، وهو يجاهد للعثور على أسس مذهب الظاهريات، كان يعلّق فى مكتبه آية من سفر النبى إشعيا تقول:» كلّ من وثق بالله رأى قوى جديدة»، وكان ينظر إليها بابتسامة كل يوم ويواصل عمله. وبينما كنت أقرأ نصًا قديمًا عثرت على جملة فى إحدى الصلوات الكاثوليكية تقول: «وكما صفحتَ عن المجدلية الآثمة.

وصفحتَ عن اللصّ [لص اليمين] امنحنى الأمل»، وتقول فيروز: «عندى أمل فيك، عندى ثقة فيك وبيكفيك». على أى حال فقدان الثقة يعنى بالضرورة – فيما أرى- فقدان الأمل. الإنسان اليائس، لو تقصيّنا تاريخ همومه وخيباته- هو إنسان فقد الثقة بكل إنسان.

وفى كل شيء. إلا أن كلامى لا ينبغى أن يعمى أبصارنا عن حقيقة أن الحياة معظمها عبارة عن كَــبَد، وخيبات أمل وإحباطات. ما الحل إذن؟ بحثتُ كثيرًا عن الحل، حتى عثرت على مقاربة جيدة فى حُلم رواه تولستوى فى نهاية اعترافاته.


نعود إلى مارسيل الذى يقول: «الأمل يمنحنا القوّة للإبداع المستمر». صحيح أنها نظرية وردية بعيدة عن مشكلات الواقع، ولكنى أفكّر أيضًا أن كبار المبدعين الذين تطفح أعمالهم باليأس والتشاؤم قدموا أعمالًا أدبية من طراز رفيع، وهى برغم عدميتها كانت مسكونة بجمال فنى كئيب، لكنه فخيم.

وهو فى حدّ ذاته شىءممتع وإيجابي. المهم أن يكتب المرء أدبًا؛ لا أن يكتب على طريقة «أحشفًا وسوء كيلة؟» كما يقول المثل العربى، أو «لا أنتَ مِنّك متفائل وفارِد وشّك، ولا مِنك بتعرف تكتب جُملتين على بعض». 


يفرّق فيلسوفنا بين الأمل والتفاؤل؛ فالتفاؤل مثله كمثل الخوف أو الرغبة، التفاؤل يتمنى وقوع شىءبعينه أو يتوقّع نتيجة إيجابية وفق هواه من وراء حدث بعينه. أما الأمل مختلف، الأمل مرادف كما أتصوّر للثقة كما قلتُ، أيّة ثقة من أى نوع (الثقة فى الموهبة، فى قدرة الكارير أو المال على تحقيق الأمان.

فى قدرة الحب، الجنس، العلاقات على صنع السعادة، إلخ). يقول مارسيل: «عندما يكون عندى أمل لا أتمنّى حدوث كذا أو كذا، أنا فقط مسكون بأمل غامضٍ لا مسوّغ له ولا ينتظر حدوث شىءبعينه، وهذا ما يدفعنى لمواصلة الحياة». 


يشرح لنا مارسيل أن الشخص الذى يتحلّى بالأمل لا يقبل ظروفه الحالية على أنها نهائية، برغم ذلك فهو لا يملك تصوّرًا محددًا للحدث الذى سيُنقذه من محنته، بل يأمل فقط فى النجاة/الخلاص، وكلما تجاوز الأملُ أية توقّعات محددة للشكل أو الكيفية الذى سيتخذه الخلاص/النجاة، صار أقل اعتراضًا وتذمرًا وضجرًا عندما لا يتحقّق الهدف/الخلاص المنشود.

وهو بذلك يختلف عن المتفائل. التفاؤل نبات مزروع فى صوبة الرغبة والخوف (هذا تأويلى الشخصى)، لأن التفاؤل يبنى مدنًا لا مرئية ويتوقع نتيجة معينة، أعنى نتيجة منسجمة مع أمنياته ورغباته ومقاصده.

جوهر الأمل ليس الرغبة فى حدوث كذا، ولكنه مجرد الأمل. يقول مارسيل نصًا:» لو بقيتُ ببساطة متشبثًا بالأمل، فلا يوجد حدث معين (أو عدم وقوع حدث معين) بقادرٍ على أن يزعزع ثقتى بنفسي».


الملمح الثانى عند مارسيل هو أن الحب شكل من أشكال الأمل، والباحث عن الحب إنما يبحث فى قرارة نفسه عن أمل فى هذه الحياة، وهو ربما يفسّر ارتباط اليأس من الحياة وحوادث الانتحار – فى أحيان كثيرة وليس دومًا بالطبع- بفشل العلاقات العاطفية.

أما فى اعتقادى فالدافع الوحيد إلى الأمل هو الثقة؛ الثقة بإنسان، بحبيب، بصديق، بأخ، أو ربما الثقة فى عقيدة، أو فى فكرة ، إلخ، بينما اليأس هو تبدد تلك الثقة (سواء بالأشخاص أم زوال الثقة فى الأشياء، الأفكار، المُثل). 


يفسّر مارسيل – انطلاقًا من منظوره الكاثوليكي- الأمل/الرجاء فى علاقة الإنسان بالله، بمعنى وضع الأمل فى كيان متعالٍ يمكنه دعمكَ عندما تشعر بخيبة أمل، هذا الكيان هو رمز الأمل. يقول مارسيل: «أنت المطلق، أنتَ المطلق يا إلهي.. أنت المطلق»، المُطلق هو كيان حى وحاضر.

قادر على إنقاذ كل من له رجاء فيه، لأنه موجود فى كل مكان فى كل وقت. ومن ثم، يجب أن نؤمن – بحسب اعتقاد مارسيل- بالأمل وعبارة أنت المطلق، عندما لا يوجد لدينا حل آخر للخروج من خيبة الأمل. 


يواصل الفيلسوف تأملاته فيقول إن الأمل هو وسيلة للتغلب على محن/ابتلاءات الحياة، وهو عندما يقرن الأمل بالاعتقاد، إنما- حسب تقديرى- يحذو حذو الفيلسوف الأميركى الكبير وليام جيمس فى كتابه إرادة الاعتقاد، الذى رأى أن الاعتقاد هو إرادة لا علاقة لها بأساس علمى أو منطقى.

بل مجرد الإرادة فى الاعتقاد=الإيمان، وهى إرادة لا محل له من التفسير أو التبرير. والمحن/الابتلاءات التى يتكلّم عنها مارسيل ربما تتخذ شكل مرض، موت، انفصال عن الحبيب أو شريك الحياة، ضيق الحال، إلخ. 


عند مارسيل الأمل يسير إلى جوار المِحن، بل هو ردّ فعلنا على المِحن، مؤكدًا أن هذه المِحن هى أسباب محتملة للوقوع فى اليأس، وهكذا فلا وجود للأمل من دون إغواء الوقوع فى براثن اليأس. ومن ثمّ فالأمل هو فعل هزيمة الإغواء والتغلّب عليه بشكل فعّال. ناقير ونقير. علاقة جدلية شائكة.

لا يهتم مارسيل بالآمال الغائية، بمعنى الآمال التى تنشد أهدافًا/غايات بعينها، بل يهتم فى نهاية المطاف بنوع معيّن من الأمل الشخصى، أو لو استعرتُ تعبير وليام جيمس نوع من إرادة الاعتقاد. مارسيل مهتم بإرادة الأمل.

وهى الإرادة التى يطوّرها الإنسان- بصعوبة وبشقّ الأنفس- يومًا وراء يوم عبر المحن والتجارب حتى يصل إلى مبدأ واحد، أو معادلة واحدة تختزل كل شيء، قد تتخذ هذه المعادلة صورة تأملات باطنية مثلما فعل جابريل مارسيل، أو صورة حُلم كما رسمَه تولستوى فى نهاية اعترافاته، أو فى صورة عمل ضخم مثل كتاب مبدأ الأمل لإرنست بلوخ كما سأتكلّم فى السطور التالية. 


لننتقل إلى فيلسوف ألمانى كبير هو إرنست بلوخ، الذى تكلّم عن مبدأ الأمل من منظور مغاير، وهو الفيلسوف المعروف بفيلسوف الأمل الطوباوي. وفق قرائتى حتى عند الماركسيين ثمّة من يطّور أفكارًا متصلة بفلسفة الأمل موصولة بحبل معلّق فى أثير الميتافيزيقا، أشهرهم بلوخ.

 قامت فلسفته على نزعة إنسانية وصفها بأنها فلسفة الأمل. وعلى الرغم من معرفة بلوخ بأن الأمل فى مجتمع إنسانى أفضلَ يمكن دائمًا أن يَصدم ويُصيب المرء بالإحباط، إلا أنه لم يفقد الأمل أبدًا ولم يعتبر أن خيبة الأمل مرادفة لليأس (تُرى على أى أساس من الأمل/ الثقة كان بلوخ يؤلّف كتابه بعد الإخفقات السياسية التى رآها متجسدة أمام عينيه؟).


بلوخ هو الفيلسوف الوحيد بين مفكرى عصره الماركسيين الذى عرَّف نفسه بأنه فيلسوف يوتوبى، ووصف اشتراكيته بأنها يوتوبيا عينية. لجأ بلوخ- وهو أكيد مصدوم يا عينى لفقدانه الأمل (الثقة؟)  بعد أن  أفاق من غفوته بعد القمع السوفيتى للانتفاضة المجرية سنة 1956 ليُطرد من الجامعة بعد أن كان الفيلسوف الرسمى للنظام الشيوعى فى ألمانيا الشرقية.

أقول لجأ إلى التعبيرات الدينية أو شبه الدينية التى امتلأ بها مبدأ الأمل خلال حديثه المجازى عن الهدف النهائى أو بالأحرى اليوتوبى لعالم المادة وعالم الإنسان. الأمل عند بلوخ هو اليوتوبيا، ومبدأ الأمل مبدأٌ يوتوبى.

وهو المبدأ الوحيد الذى يعتقد بلوخ أنه يتحكم فى كل التغيرات. ومع اختلاف صور التعبير عنه من مرحلةٍ تاريخية إلى أخرى، فإنه يظل فى رأيه مبدأً واحدًا يسميه بلوخ بأسماء عديدة مثل الجديد، الأقصى، الكل اليوتوبى، الماهية. تجنّبَ بلوخ شأنه شأن الماديين تسميتها بالله أو المطلق.

وآثر مفهومًا وصفه بالقدر أو المشيئة، ولكن نزعة التجرد من التفكير الأسطورى لم تستطع القضاء على الإشكالات الدينية فى فكره، بل إن كبار الماركسيين المعاصرين اتهموا فلسفته بأنها محاولة تلفيقية لإدغام الماركسية بالدين/اللاهوت.

 ولكنه تخلى عن روح الماركسية وفلسفتها المغلقة، فجمع بين الرؤية الماركسية الأساسية للتاريخ والتغير الاجتماعى، ونزعة الخلاص التى تمتد جذورها فى ثقافته وتراثه الحضارى من التراث اليهودي-المسيحى (راجع: الأمل واليوتوبيا فى فلسفة إرنست بلوخ، عطيات أبو السعود، هنداوى 2021، وتحديدًا الفصل الأول الخاص حياة بلوخ ونواة تفكيره اليوتوبى). 


خلاصة الأمر: فلسفة بلوخ، الماركسى الطوباوى قائمة على أمل غامض فى يوتوبيا المستقبل. أسأل: أو ليس التعويل على  مبدأ (ليس-بعد) وفق تعبيره، أو المستقبل هو تعويل على مجهول/غيبى؟ عشرة عصافير على الشجر، لا فى المطرقة/المنجل الذى فى اليد، أقصد العصفور الذى فى يده؟
تلاحظ د. عطيات أبو السعود أن كتاب مبدأ الأمل من الأعمال الأدبية لفرط ازدحامه بالصور المجازية والرمزية والشعرية والتعبيرات ذات الدلالة اللونية، كاستخدام بلوخ المفرط لكلمات مثل الصباح، والأزرق البعيد، وساعة الزرقة إلى آخر الكلمات التى تعكس الضوء والإشراق بحيث يمكن تسميته فيلسوف النور.

وقد امتزج هذا الأسلوب الأدبى بلغة صوفية غامضة وتعبيرات لاتينية ويونانية قديمة، وأقوالٍ شعبية ومأثورات جعلت صاحبه يستحق التسمية التى أُطلقت عليه بأنه ساحر المفاهيم والتصورات والكلمات.

اختار بلوخ أن يبحث فى التراث السرى والصوفى مما يعكس تفضيله للمفكرين والفلاسفة الذين ينظرون للعالم نظرة عرفانية أو من وراء حجاب، مثلما اختار أن يبحث فى القبّالة أكثر من التوراة، وفى الخيمياء أكثر من الكيمياء بالمعنى العلمى الحديث، واختيار المرء قطعة من عقله كما يقول المثل السائر. 


 ولكن ما معنى كل هذا؟ المعنى حسبما فهمتُ من كلا المفكّرين أن فكرة الأمل هى بالأساس شىءيشبه  إسناد السُلّم على عمود غير مرئى ثم ارتقاء درجاته، بل إنى أفكّر أحيانًا، وهى فكرة لا تلزم أحدًا غيرى، أن بلوخ لم يكتب هذا العمل الضخم بحسب المؤلفة فى 11 سنة، إلا ليصنع لنفسه أملًا يساعده على مواصلة الحياة برغم الإخفاقات وخيبات الأمل.

لا أظنّ أن بلوخ كان يعقد أملًا عمليًا فى إصلاح أحوال الاتحاد السوفيتى أو ألمانيا الشرقية أو إدخال تعديل جذرى على المانيفستو، فما نفع البروليتاريا من وراء آراء الفلاسفة الأوائل والصور البلاغية والقبّالة؟ الأمر كله سعى شخصى، أمل شخصى، فكرة يُطاردها الإنسان، لا أكثر، فكرة يثق فى أنها ستنقذه.

ربما نستطيع تحريف عبارة ج. مارسيل التى بدأتُ بها المقال لنقول:» أن تحبّ فكرة، معناه أن تنتظر منها شيئًا؛ وهو شىءغير قابل للتعريف أو التوقّع، أن تحبَّ فكرة معناه أن تُمكنّها من تحقيق ما تنتظره منك». 


كلمة أخيرة أوردها من حُلم تولستوى الذى أشرتُ إليه: «...ومن هذا العمود يتدلى حبل ملتوٍ بطريقة سهلة تدل على العبقرية، وإن استلقى امرؤ بخصره على هذا الحبل الملتوى وشَخَص ببصره إلى أعلى فليس هناك خطر من سقوطه، وقد اتضح لى هذا كله، وسررتُ وهدأت نفسى، وبدا لى كأن أحدًا يقول لي: تذكّرْ هذا دائمًا».

اقرأ أيضًا | أستاذ فلسفة: وليام جيمس أخرج من البراجماتية من حيز الدين ووصفها بـ"الصدق"