ياسر عبد الحافظ يكتب: كيف نحافظ على اللغة العربية الجميلة؟

مايكل كارتر  لحظة تسلم جائزة الملك فيصل ٢٠٢٠
مايكل كارتر لحظة تسلم جائزة الملك فيصل ٢٠٢٠

كارتر فى دراسته لسيبويه يرصد تلك النظرية التى أرادت درس الطبيعة الوظيفية الكاملة للنظام النحوى بتقديم وصف كامل للعربية فى جميع أنظمتها اللغوية، وهو أمر أخفق النحويون الذين جائوا بعد سيبويه فى فهمه وإدراكه.

لسنا فى حاجة إلى يوم بعينه لتذكر اللغة العربية لكن المناسبة قد تكون فرصة جيدة لطرح ما يتصل بها من قضايا، وتعميق النقاش لأبعد من السؤال، الذى بات مألوفًا إلى حد مثير للسخرية من كثرة تكراره مع استمرار التدهور: كيف نحافظ على اللغة العربية الجميلة؟ يستفيض الخبراء بها فى تقديم الوصفة المناسبة.

ويهز المتابعون المهتمون رؤوسهم وهم يعقدون العزم على حضور واحدة من الدورات التدريبية، فقط كى لا يكونوا بجانب من يتم التندر عليهم، من لا يفرقون بين الهاء والتاء المربوطة، أو من يكتبون الذال بينما يقصدون الزاي. دورة ترفعهم عن مستوى جهل يطبق على صاحبه فيسمع وينطق ويكتب الضاد دالًا، والطاء تاء. 


والواقع أننا كلنا نقع فى أخطاء فيما نستخدم اللغة، كلنا فى حاجة إلى دورات تعليمية فى اللغة العربية. لهذا فأنا ومثل غيري، وفى يومها من كل عام، وكما يحتفل محبوها كل على طريقته، أعود إلى مواد عن اللغة العربية، أعيد فهم ما قرأته سابقًا واكتشف موضوعًا جديدًا يتشعب إلى مجالات متنوعة، تاريخية، اجتماعية، سياسية.

ومع تنوع المواد وغزارتها إلا أن مدخلى الأثير لها ينطلق من سؤال عمره 12 قرنًا، أطرحه على نفسى سعيًا لتخيل سيناريو مختلف للمناظرة الشهيرة التى جرت فى قصر وزير هارون الرشيد يحيى البرمكى بين الإمامين سيبويه والكسائى.

والتى قادت نتيجتها إلى عزوف سيبويه عن الحياة، واعتزاله تلاميذه وحلقات العلم فى البصرة التى كان إمامها، ووفاته بعد أقل من العام فى بلدته شيراز، والسبب لم يكن أكثر من خسارته مناظرة فى النحو كان الفيصل بين طرفيها السؤال: ماذا تقول كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أم فإذا هو إياها؟
استقر علماء اللغة منذ تلك الحادثة على أن إجابة سيبويه بأنه:  فإذا هو هي، هى الأصح والتى توافق منطق اللغة، ووافقوه على أنه لا يجوز النصب، وأن الأدلة والشواهد المختلفة من لغة الأعراب، ومن القرآن، تؤكد هذا.

غير أن أحدًا لم يضع تفسيرًا معقولًا لما جرى فى أعقاب الجدل الذى جرى بين الإمامين حول النصب والرفع والذى حسمه اقتراح الكسائى باللجوء إلى بعض الأعراب الأقحاح الذين يتقنون اللغة فطرة، فانتصروا لرأى الكسائى لكن ألسنتهم لم تطاوعهم على نطق الجملة على النصب عندما طلب منهم سيبويه ذلك، وهو ما يتم تفسيره بأن انتصارهم لرأى الكسائى كان وراءه غرض.


المسألة الزنبورية.هكذا أصبح اسمها فى كتب اللغة والتاريخ، دارت حولها مئات التفسيرات والتحليلات وإن غلب الرأى بأن الأعراب تمت رشوتهم، وإن لم يعلم بذلك الكسائي، إمام المدرسة النحوية فى الكوفة،على اعتبار ما له من ورع وعلم. فهل كانت مكيدة سياسية للحد من سطوة سيبويه..إمام المدرسة النحوية فى البصرة؟
وعاشت المناظرة وأسئلتها طوال تلك القرون ومازالت حية تلهب خيال أهل اللغة العربية ربما للمصير المحزن الذى آل إليه سيبويه بعدها، ووفاته شابًا حسرة على ما جرى فى قصر البرمكي، وربما بقيت القصة الدرامية لاستخدامها كدلالة دائمة على أهمية قواعد اللغة تلك التى أرساها سيبويه نفسه وتأسست استنادًا على كتابه "الكتاب" علوم فى اللغة والفقه.

وهو الكتاب الذى يقول عنه الدّكتور شوقى ضيف: "وقد بلغ من إعجاب الأسلاف به أنْ سموه (قرآن النحو)، وكأنّما أحسوا فيه ضربًا من الإعجاز".


تصلح المناظرة وسؤالها الجدلى أن تكون موضوعا أساسيًا فى يوم الاحتفال باللغة العربية، ليس لمجرد التأكيد السطحى على أهمية قواعد اللغة،فهذا ليس فى حاجة إلى نقاش،إنما لإعادة النظر فى منجز هذا الفارسى الشاب الذى يعنى لقبه «سيبويه»  رائحةالتفاح، فالمسألة الأساسية عند سيبويه وقبل القواعد دراسة اللغة باعتبارها أحد أشكال السلوك الاجتماعي.

وهذا ما يؤكد عليه البروفيسور الأسترالى مايكل كارتر، والذى حاز جائزة الملك فيصل قبل عامين، فرع اللغة العربية والأدب، والذى قضى ما يقرب من الخمسين عامًا فى دراسة الفكر اللغوى العربى وبخاصة النظرية النحوية عند سيبويه.


وقليلون من يعرفون كارتر، وأعماله لم تترجم إلى اللغة العربية، على الرغم من أهميتها ليس لأن سيبويه مؤسس علم النحو كما استقر فى أذهاننا بل لأنه قام بأعظم من ذلك بكثير فهو مؤسس اللسانيات العربية وهو عند كارتر وكما يشرح د. ناصر الخريص، أستاذ اللسانيات بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القصيم بالسعودية، فإن كارتر فى دراسته لسيبويه يرصد "تلك النظرية التى أرادت درس الطبيعة الوظيفية الكاملة للنظام النحوى بتقديم وصف كامل للعربية فى جميع أنظمتها اللغوية.

وهو أمر أخفق النحويون الذين جاءوا بعد سيبويه فى فهمه وإدراكه؛ إذ لم يوفقوا فى إدراك ذلك فى نظام سيبويه فحولوا إرثه وإنجازه إلى اتجاه معيارى صارم ما زال يعد السمة السائدة فى مجمل الدرس النحوى العربى حتى يومنا هذا".


فليس متاحًا لنا للأسف الاطلاع على أعمال كارتر فلم يترجم شيء منها، سيكون علينا الانتظار إلى العام المقبل موعد صدور أول الأعمال عنه والتى وضعها د. أحمد مجدى قطب، الأستاذ بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وكان عنوان رسالته للماجستير "دراسة المستعرب مايكل كارتر لسيبويه" ومن خلال هذه الرسالة.

والتى أمدنا د. قطب ببعض تفاصيلها، يمكننا قراءة سيبويه على نحو آخر غير الذى نعرفه، فهو وفق قراءة كارتر وبحوثه "لو قدر أن يولد فى عصرنا هذا لتبوأ منزلًا بين دى سوسير وبلومفيلد" وكلاهما من أشهر علماء اللغة فى العصر الحديث ومن المدرسة التى تتجه إلى أن اللغة ظاهرة اجتماعية.

وكارتر يعنى هنا أسبقية سيبويه فى بعض مباحث اللغة، والذى يعنينا هنا ليس التفاخر وإثبات السبق للعلوم العربية، ولا عبقرية علمائها وبينهم سيبويه، بل تكمن أهمية دراسات كارتر فى قدرة اللغة العربية على مواكبة والتعامل مع عصرنا الراهن وقضاياه، ومن هنا ضرورة ترجمة أعماله وإتاحتها للنقاش.


ويقول قطب فى دراسته لأعمال كارتر عن سيبويه «وقد عده  مؤسس اللسانيات العربية، لا مؤسس النحو العربى فحسب، وشهد له بعبقرية تتبدى فى كل صفحة من كتابه، حاكمًا لمفهوم اللغة عنده بالكلية التى تجعله صالحًا للتعميم، وقرر وجوب تفسير كتاب سيبويه فى سياقه التاريخي.

ومن حيث إسهامه فى علوم الحضارة التى استنبت لخدمتها؛ لأن موضوعه اللغة التى لم تكن لغة دين الإسلام وحسب، بل كانت أيضًا لغة الإدارة والثقافة فى دولة ذات امتداد هائل مساحة وزمنا، وكان "الكتاب" سجل هذه اللغة فى صورتِها المثلى.

وفي ظل الوثيقة المؤسسة لما تلاه من التطورات النحوية طوال اثنى عشر قرنًا. ويرى كارتر أننا لا نزال فى حاجة إلى تقويم "الكتاب" تقويمًا شاملًا فى ضوء علم اللغة الغربي، مع التزام الحكم عليه بمعايير سيبويه نفسه».


وألا تصلح هذه أن تكون قصة ساخرة نحكيها بينما نحتفل بيوم لغتنا الجميلة، أننا إذا أردنا حقًا الخروج من مأزقنا اللغوى علينا تعلم الإنجليزية لنقرأ عن عبقرية من وضع أسس اللغة العربية، وأن نعيد فهم نظريته على وجهها الصحيح بحيث لا تبقى لغتنا سجينة النحو التعليمى.

اقرأ ايضًا | السفير السعودي يدشن مبادرة «نخلة السلام من بلد السلام» بالقاهرة