«إرنو» أثناء تسلم نوبل: أكتب انتصارًا لعِرقى

الروائية الفرنسية آني إرنو
الروائية الفرنسية آني إرنو

كيف يمكن لإنجازاتي الشخصية أن تعوض الإهانات والإساءات التي تعرضتُ لها؟
كيف يمكن للمرء تأمُل الحياة دون التفكير في الكتابة؟ دون التساؤل عن قدرة الكتابة على تعزيز أو زحزحة التمثيلات الراسخة المقبولة للكائنات والأشياء؟ 

من يمكنه إنكار أن الحب والألم والحزن والعار شئون عالمية؟

تسليط الضوء على المسكوت عنه، عمل سياسي

من أين أبدأ؟ سألتُ نفسى هذا السؤال عشرات المرات بينما أحدقُ فى صفحة بيضاء، أحاول العثور على الجملة الوحيدة التي ستمنحني مدخلًا لتأليف كتاب ومحو كل الشكوك بضربة واحدة – جملة مِفتاح. اليوم، وبعدما مضت لحظات الدهشة الأولى والتساؤل، «هل هذا يحدث لي حقًا؟».

وبينما أواجه موقفًا يتجسد فيه خيالي بصورة تبُث في نفسى رعبًا متزايدًا، يغلبني نفس الاحتياج. أن أجد جملةً تمنحني الطلاقة والعزم للتحدث دون أن أرتجف في هذا المكان حيث دُعيتُ هذا المساء.

لأجد هذه الجملة، لست مضطرة للبحث بعيدًا. إنها تظهر على الفور. بكل وضوحها وحِدتها. لامعة. دامغة. كتبتُ في يومياتي قبل ستين عاما: «سأكتب انتصارًا لعرقي، j’écrirai pour venger ma race».

ورددتُ صدى صرخة رامبو: «أنا من عِرقٍ سُفلى وسأظل هكذا إلى الأبد»، كنت في الثانية والعشرين، وأدرُس الأدب في كلية إقليمية أغلب طلابها من بنات وأبناء البرجوازية المحلية. اعتقدت بفخر وسذاجة أن تأليف الكتب، وأن أصبح كاتبة، كسليلة جماعة من العمال المعدمين.

وعمال المصانع وأصحاب المتاجر الصغيرة، المحتقَرين بسبب أخلاقهم، ولهجتهم، وافتقارهم إلى التعليم، سيكون كافياً لتصحيح الظلم الاجتماعي المرتبط بالطبقة الاجتماعية التي تنتمى إليها بالولادة.

وتصورتُ أن نصرًا فرديًا يمكنه محو قرون من الهيمنة والفقر، وتوهمتُ أن الدراسة عززت وضعى بفضل نجاحى الأكاديمي. كيف يمكن لإنجازاتى الشخصية أن تعوض الإهانات والإساءات التى تعرضتُ لها؟

 لم أسأل نفسى هذا السؤال من قبل. كان لدى أعذارى.


 منذ استطعتُ القراءة، صاحبتُ الكتب، وصارت القراءة مجال انشغالى الطبيعى خارج المدرسة. تغذَت هذه الشهية على يد أم قرأت الروايات بين الزبائن فى متجرها، وفضَلَّت لى القراءة على الحياكة والتريكو. إن التكلفة العالية للكتب، والريبة التى كان ينظر بها إليها فى مدرستى الدينية.

وجعلتنى أرغبها أكثر. دون كيخوته، رحلات جاليفر، جين آير، حكايات جريم وأندرسن، ديفيد كوبرفيلد، ذهب مع الريح، ولاحقًا البؤساء، عناقيد الغضب، الغثيان، الغريب: حددت لى الصدفة ما أقرأ، أكثر من توجيهات المدرسة.


وباختيارى للدراسات الأدبية، فضلتُ الانغماس فى الأدب، الأمر الذى أصبح ذا قيمة كبيرة، حتى صار أسلوب حياة قادنى إلى تخيُل نفسى فى روايات فلوبير أو فيرجينيا وولف وأعيشها حرفيًا. اتخذتُ من الأدب ما يشبه حصونًا شيدتها دون وعى فى مواجهة بيئتى الاجتماعية. وتكونت قناعتى بأن الكتابة لا تفتقر القدرة على تغيير الواقع.


ولم يكن رفض روايتى الأولى من قبل ناشرَين أو ثلاثة – وكانت ميزتها الوحيدة محاولة إيجاد شكل جديد– هو ما قلل كبريائى ورغبتي، بل مواقف الحياة التى يتجسد فيها الفرق بين وجود المرأة ووجود الرجل بشدة فى مجتمع تتحدد فيه الأدوار بحسب الجنس.

حيث تُحظر وسائل منع الحمل ويعتبر إنهاء الحمل جريمة. كامرأة متزوجة وأم لطفلين، وأعمل بالتدريس ومسئولة بالكامل عن الشئون المنزلية، كنت أبتعدُ كل يومٍ عن الكتابة ووعدى بالانتصار لعرقي.

ولم أتمكن من قراءة حكاية كافكا، «أمام القانون»، من روايته «المحاكمة»، دون رؤية شكل لقدري: أن أموت دون أن أدخل البوابة التى خُلِقت لأجلي، تأليف الكتاب الذى يمكننى أنا فقط تأليفه.
لكنى لم ألتفت حينها للظرف الخاص والتاريخي.

رحيل أب، توفى بعد ثلاثة أيام من وصولى إلى المنزل فى إجازة، ووظيفة تدريس لطلاب من أبناء الطبقة العاملة مثلى، وحركات الاحتجاج فى كل مكان فى العالم. كل هذه العوامل أعادتني، عبر طرق عرَضية غير متوقعة وقريبة من العالم الذى تنتمى إليه أصولي، إلى «عرقى».

ومنحت رغبتى فى الكتابة إلحاحًا مُطلقًا خفيًا. اكتفيتُ من الكتابة الفارغة الوهمية التى مارستها فى العشرينات من عمري؛ صار الأمر يتعلق بالخوض فى المسكوت عنه من الذاكرة المكبوتة، وإلقاء الضوء على حياة عرقى، وبالكتابة لفهم الأسباب التى أبعدتنى عن أصولي، داخلية كانت أو خارجية.


وفى الكتابة، لا يوجد خيار بديهى. لكن مَن توقفوا عن التحدث بلغة والدَيهم، كالمهاجرين، ومَن لم يعد لديهم نفس اللغة، وصاروا يفكرون ويعبرون عن أنفسهم بكلمات مختلفة، كالمنشقين عن طبقاتهم الاجتماعية، يواجهون عقبات إضافية. إشكالية. إذ يشعرون بصعوبة، بل واستحالة، الكتابة باللغة السائدة المكتسبة التى أتقنوها وأحبوها فى الأعمال الأدبية.

وأى شىء يتعلق بعالمهم الأصلى، عالمهم الأول المُكون من المشاعر والكلمات التى تصف الحياة اليومية، أو العمل، أو مكانة المرء فى المجتمع. من ناحية، إنها اللغة التى تعلموا تسمية الأشياء بها، بوحشيتها وصمتها، كالحوار الحميم بين الأم والابن فى نص ألبير كامو المدهش، «بين نعمٍ ولا».

ومن ناحية أخرى، أتتهم هذه اللغة بنماذج للأعمال البديعة التى فتحت لهم أبواب هذا العالم الأول والتى يشعرون بأنهم مدينون بارتقائهم له، حتى اعتبروه أحيانًا وطنهم الحقيقي. شملت نماذجى مثلًا فلوبير، وبروست، وفيرجينيا وولف.

حين عدتُ إلى الكتابة، لم يُفِدنى أى منها. اضطررت للتخلى عن الكتابة المُتقنة والجمل البديعة، التى علمتُ طلابى أن يكتبوها، لتجاوز الصدع الذى يشُقنى وكشفه وفهم طبيعته. ما خطر لى بشكل عفوى هو جعجعة اللغة التى تنقل الغضب والسخرية.

وحتى القسوة، لغة المغالاة والتمرد، التى يستخدمها المهانون والساخطون فى الغالب كرد فعل وحيد  لهم على الشعور بالمهانة، والخزى، والخزى الملازم للشعور بالخزى.


ثم سريعًا ما بدا بديهيًا أن أرتكزُ لقصة الصدع فى كيانى الاجتماعى وموقفى كطالبة، وهو موقف بغيض ظلت الدولة الفرنسية تدفع النساء إليه دفعًا، بالاضطرار إلى البحث عن عمليات إجهاض سرية على يد متخصصى الإجهاض فى الشوارع الخلفية، لدرجة أننى عجزت عن تخيُل أى طريقة أخرى للبدء.

كما أردتُ أن أصف كل ما يحدث لجسدى كفتاة، اكتشاف اللذة والدورات الشهرية. هكذا، ودون أن أعلم بذلك فى حينه، رسم الكتاب الأول، الصادر فى عام 1974، خريطة للإطار الذى ستخرج فيه كتابتي، إطارًا اجتماعيًا ونِسويًا. ليصير الانتصار لعرقى والانتصار لجنسى أمرًا واحدًا، منذ ذلك الوقت فصاعدًا.


كيف يمكن للمرء تأمُل الحياة دون التفكير فى الكتابة؟ دون التساؤل عن قدرة الكتابة على تعزيز أو زحزحة التمثيلات الراسخة المقبولة للكائنات والأشياء؟ ألم تعكس الكتابة الثورية، بكل قسوتها وسخريتها، موقف الخاضعين؟ عندما كان القارئ يتمتع بامتيازات ثقافية، احتفظ بالنظرة الفوقية والمُتفضِلة لشخصية فى كتاب ذاتها التى يرى بها الحياة فى الواقع. لذلك.

وكان عليَّ أولًا تجنب توجيه هذه النظرة الغليظة لوالدى الذى كنت سأروى قصته. شعرتُ بالخيانة لاعتمادى نوعًا محايدًا ومتجردًا من الكتابة بدءًا من كتابى الرابع، كتابة «مسطحة» بمعنى أنها لا تحتوى على استعارات أو إشارات شعورية.

وتوقفتُ عن عرض العنف، تركته يظهر من الحقائق ذاتها لا من الكتابة. صار إيجاد الكلمات التى تُعبِر عن الواقع والشعور الذى يكفله الواقع شاغلى المستمر أثناء الكتابة، وحتى يومنا هذا، بغض النظر عن الموضوع.


ورأيتُ أن استخدام ضمير المتكلم حتمي. أدبيًا، غالبًا ما يُعتبر استخدام ضمير المتكلم - الضمير الذى نعيش من خلاله فى معظم اللغات، من لحظة تعلُمنا الكلام وحتى الموت - سلوكًا نرجسيًا عند تصَوُر أنه يعود على المؤلف بدلاً من الشخصية الخيالية.

وجديرٌ بالذكر أن كلمة «أنا»، التى تعتبر حتى الآن امتيازًا للنبلاء يسردون من خلاله مفاخر السلاح فى مذكراتهم، اعتُبِرَت غزوًا ديمقراطيًا فى فرنسا القرن الثامن عشر، للتأكيد على المساواة بين الأفراد وحقهم فى أن يكونوا هُم موضوع قصتهم.

كما ذكر جان جاك روسو فى الديباجة الأولى للاعترافات: «ولا يعترض أحد بأني، ليس لدى ما أقوله ويستحق اهتمام القراء، لكونى رجلاً من العامة. [...]إذا عشتُ مغمورًا وفكرتُ أكثر وأفضل من الملوك، فإن قصتى أكثر إثارة من قصصهم».


ولم يكن هذا الكبرياء العامِيّ هو ما حفزنى (رُغم أنى قلت ذلك)، بل الرغبة فى استخدام ضمير المتكلم، كشكل ذكورى وأنثوى لأداة استكشافية تلتقط المشاعر: تلك المدفونة فى الذاكرة، وتلك التى يواصل العالم من حولنا تقديمها لنا، فى كل مكان وطوال الوقت.

صارت أساسية الشعور هى المرشد والضمانة لأصالة بحثي. لكن لأى غرض؟ لا لأحكى قصة حياتى وأتحرر من أسرارها فحسب، بل لأفكك شفرة وضع مُعاش، حدث، علاقة رومانسية، وبالتالى الكشف عن شيء لا يمكن إلا للكتابة أن تخلقه.

وربما تنقله إلى وعى وذكريات آخرين. من يمكنه إنكار أن الحب والألم والحزن والعار شئون عالمية؟ كتب فيكتور هوجو: «لا يحظى أحدنا بشرف أن يعيش حياة تخصه وحده». لكن بما أن كل الأشياء تُعاش فى الوضع الفردى - «هذا يحدث لي» - لا يمكن قراءتها إلا بنفس الطريقة، حين يصبح ضمير المتكلم فى الكتاب شفافًا، بشكلٍ ما، تتجسد فيه «أنا» القارئ، حين يصبح هذا الضمير عابرًا للشخصية، بعبارة أخرى.


وهذه هى الطريقة التى شكَلتُ بها التزامى تجاه الكتابة، الالتزام الذى لا يتضمن الكتابة لفئة من القراء، بل الكتابة من تجربتى كامرأة ومهاجرة من الداخل، ومن ذاكرتى الممتدة لسنواتٍ طويلة عشتها، ومن الحاضر.

ومن مصدر لا نهائى من صور وكلمات الآخرين. هذا الالتزام الذى فرضتُه على نفسى ككاتبة يدعمه الاعتقاد، الذى صار يقينًا، بقدرة الكتاب على المساهمة فى تغيير الحياة الخاصة، وتحطيم شعور المرء بوَحدته أثناء مروره بالتجارب التى يتحملها أو يقمعها، وتمكين البشر من إعادة تصوُر أنفسهم. إن تسليط الضوء على المسكوت عنه، عمل سياسي.


ونراه اليوم فى تمرُد النساء اللواتى وجدن الكلمات لتحطيم سُلطة الذكور وانتفضن ضد أشكالها العتيقة، كما يحدُث فى إيران. ورغم أنى أكتب فى بلدٍ ديمقراطى، ما زلتُ أتساءل عن المكانة التى تحتلها النساء فى المجال الأدبى، إذ لم يكتسبن بعد الشرعية كمُنتِجات للأعمال المكتوبة.

وهناك رجال فى هذا العالم، بما فى ذلك الأوساط الفكرية الغربية، لا يعتبرون الكُتب التى تؤلفها النساء موجودةً أصلًا، ولا يستشهدون بها أبدًا. إن اعتراف الأكاديمية السويدية بعملى يُعَد بادرة أمل لجميع الكاتبات.


وتظهر إمكانية التحرر الفردى والجماعى فى تسليط الضوء على المسكوت عنه اجتماعيًا، وعلى علاقات القوى المتأصلة المرتبطة بالطبقة و / أو العرق، والنوع الاجتماعى أيضًا، والتى يلمسها فقط المتأثرون بها بشكل مباشر.

إن فك رموز العالم الحقيقى عن طريق تجريده من الرؤى والقيم التى تحملها اللغات، كل اللغات، يقلب نظامه القائم، ويزعزع هَرَميته.


ولا أخلط هنا بين الأثر السياسى للكتابة الأدبية، الخاضع لتلقى القارئ لها، والمواقف التى أشعر أنى مُلزمة باتخاذها وفقًا للأحداث والصراعات والأفكار. لقد نشأتُ كجزء من جيل ما بعد الحرب، الحرب العالمية الثانية، حيث انغمس الكتاب والمفكرون فى كل ما يتعلق بالسياسة الفرنسية وانخرطوا فى النضالات الاجتماعية بطبيعة الحال.

واليوم، من المستحيل القول ما إذا كانت الأمور سارت بشكل مختلف لو لم يتحدثوا ويلزموا أنفسهم باتخاذ مواقف. فى عالم اليوم، مع تعَدُد مصادر المعلومات والسرعة التى تومض بها الصور، والتى تُنتِج أشكالًا من اللامبالاة، يحتاج التركيز على العمل الإبداعى إلى إغراءٍ كافٍ.

وفى الوقت ذاته، تتصاعد أفكار الانسحاب والانغلاق فى أوروبا وتتقدم بثبات فى البلدان الديمقراطية حتى الآن، رُغم حجب عُنف الحرب الإمبريالية التى يشنها الدكتاتور الروسى لها. الأفكار التى ترتكز على إقصاء الأجانب والمهاجرين، والتخلى عن الضعفاء اقتصاديًا، والرقابة على أجساد النساء، تتطلب اليقظة الشديدة، منى ومن كل من يرون قيمة الإنسان لا تتغير أبدًا بحسب المكان. 


بمنحى أعلى جائزة أدبية، يُسَلَط ضوء ساطع على عمل تَشَكَل من الكتابة واستكشاف ما هو شخصى فى ظلال من العزلة والشك. هذا الضوء لا يبهرني. لا أعتبر جائزة نوبل التى مُنحت لى انتصارًا فرديًا، بل أعتبرها انتصارًا جماعيًا، لا بدافع الفخر ولا التواضع. أتقاسم فخرها مع من يأملون فى مزيدٍ من الحرية والمساواة والكرامة لجميع البشر.

بغض النظر عن جنسهم أو نوعهم الاجتماعى أو لون بشرتهم أو ثقافتهم؛ ومع المهمومين بالأجيال القادمة، وبحماية الأرض التى تتزايد جهود قلة متعطشة للربح لجعلها مكاناً غير صالح لحياة أهلها.


وإذا عدتُ لتأمل الوعد الذى قطعته على نفسى فى العشرين من عمرى بالانتصار لعرقى، لا أستطيع الجزم بأنى قد وفيتُ به. من ذلك الوعد، ومن أسلافي، رجال ونساء مجتهدون تمرسوا على مهامٍ تسببت فى موتهم المبكر، تلقيتُ ما يكفى من القوة والغضب لخلق الرغبة والطموح بداخلى لمنحهم مكانًا فى الأدب.

وسط هذه الأصوات التى رافقتنى منذ وقت مبكر جدًا، ما أتاح لى الوصول إلى عوالم مختلفة وطرق أخرى للوجود، بما فى ذلك التمرد ضدها والرغبة فى تغييرها، لتسجيل صوتى كامرأة منشقة عن طبقتى الاجتماعية التى مازالت تقدم نفسها كمساحة للتحرر والأدب.

اقرأ أيضًا | د. فتحية سيد الفرارجى تكتب: رحلة آنى إرنو نحو العالمية