قُطاع أيادي أبرياء الأمس حراس أوكار إنسانية اليوم

شيرين هلال
شيرين هلال

في أكبر قضية فساد وصمت الإتحاد الأوروبي، أعلن القضاء البلجيكي إبقاءه 4 أشخاص قيد الاعتقال على رأسهم نائبة رئيس البرلمان إيفا كايلي وشريكها يعمل في منظمة حقوقية التي كان يرأسها المتهم الثالث انطونيو بنزيري العضو السابق بالبرلمان الأوروبي في إيطاليا ورئيس منظمة غير حكومية مقرها بروكسل ورئيس لجنة حقوق الانسان السابق بالبرلمان الأوروبي وتم احتجاز زوجته وابنته في بيرغامو بناء على مذكرة توقيف أوروبية.

والمتهم الرابع مجهول الهوية، رفضت المدعي العام البلجيكي الإفصاح عن هويته. تم الافراج عن متهمين آخرين بشروط وهما رئيس اتحاد النقابات العمالية ووالد إيفا كايلي  والذي قبض عليه وهو يحمل شنطة نقود والمبلغ الذي تم مصادرته اعتبرته جهات التحقيق دليل دامغ على الادانة  والذي أعلن عن اجمالي مصادرات لأموال وصلت لـ 600 ألف يورو نقدا وتم تفتيش منازل لنواب اخريين بالبرلمان وأغلقت مكاتب مساعدين في البرلمان الأوروبي .
وجه القضاء التهم لأعضاء البرلمان الأوروبي بـ "المشاركة في منظمة إجرامية وغسيل الأموال والفساد". تلك التهم أدت إلى تعليق التصويت البرلماني الذي كان مقرر عقده الأسبوع المقبل على منح المواطنين القطريين السفر مباشرة بدون الحاجة لتأشيرة أو ما يسمى "فيزا التشنجين"، نظرا لارتباط تلك الرشاوي وشراء التأثير السياسي على أعضاء البرلمان الأوروبي بإسم دولة قطر ، التي نفت من جانبها في بيان رسمي كل تلك الاتهامات ووصفتها بـ الادعاءات المضللة التي لا أساس لها من الصحة.
يذكر أن المتهمة الرئيسية في القضية إيفا كايلي هي مقدمة برامج إخبارية بارزة في التلفزيون اليوناني، اشتهرت بتاريخ طويل من الدفاع عن حقوق الإنسان وخصوصا الحقوق العمالية. دافعت كايلي الشهر الماضي بضراوة عن سجل حقوق الإنسان في قطر وأشادت بالبلاد التي وصفتها بأنها الأجدر في مجال حقوق العمال معللة ذلك التأييد لقرار قطر إلغاء نظام الكفالة للعمالة الوافدة. واستنكرت اتهام الناس المتعاملة مع قطر بالفساد، في حين استخدامهم واحتياجهم للغاز القطري. تم توقيف ايفا من المجلس التشريعي وكذلك سٌحبت عضويتها في الحزب الاشتراكي اليوناني، باسوك.
تخبرنا تلك القضية أن الفساد ليس خاصا بتصنيفات دولية حصرية لدول بعينها وأنه حاضر بوجهه القبيح في بيئات من المفترض أنها غير مصممة لإنعاشه ومع ذلك ، دائما هناك فرصة لإستضافته. كما تضعنا هذه القضية المفاجئة امام عدد من الأسئلة الملحة وهى : ما هو دور المنظمات غير الحكومية والمنتميين إليها في تشكيل الرأي العام العالمي وما هى حدود حركتها داخل المجتمعات؟ وهل ستظل المنظمات الدولية تلعب دور شرطي المرور للعابرين من الدول حاملي صكوك الرضا من بوابة حقوق الإنسان بحسب التنظير الغربي؟ والأهم من الأبقى و الأخطر من كل تلك الأسئلة هو : ما هو الدور الذي تلعبه التمويلات الخارجية في التلاعب بالتقارير لتحقيق مصالح الممولين؟
وبدون الحاجة للبحث والتقصي ، نستطيع القول بأنه ليست كل الأمور على ما "كانت" تبدو عليه ، فقد سقطت ورقة جديدة من أوراق التوت التي كانت تستر المبررات الزائفة ، التي كانت تستخدمها تلك المنظمات لإكتساب حماية واستقلالية عن الدول الوطنية. يفرض هذا الموقف التخلي عن ملائكية النظرة العمومية لمنظمات المجتمع المدني سواء في شكلها المحلي أو في حالة كونها ممثلة لمنظمات عابرة للقارات غير حكومية على أراضي دول ذات سيادة يحميها دستور وقانون يطبق على الجميع بدون تمييز ولا ينتظهر كيانات موازية تساومه على اصدار تقارير مفصلة حسب أجندة ومعايير مموليها. 
وبالأخير تتركنا تلك القضية مع الحاجة الماسة لإبراز أجندتنا الخاصة في المسائل الحقوقية والترويج لها في نشاط أشبه بالتعبئة العامة ، خصوصا وأن البرلمان الأوروبي تحديدا كان قد أصدر تقارير سلبية عن الوضع الحقوقي بمصر ، مستسقيا بياناته من شهادات متحيزة وأخرى غير دقيقة. كما تخطت تلك المنظمة حدود البروتوكولات الدولية التي تقضي بمخاطبة البرلمان المصري ووجهت خطابها للدولة المصرية مباشرة في اشارة لعدم اعتبارها لحجم وطبيعة دورها كمنظمة غير حكومية بالأساس، لا يحق لها التعليق على أحكام قضائية باتة تمت عبر مراحل تقاضي متعددة، و لا يسمح بالتعليق عليها القانون الدولي. تجعلنا تلك الممارسات ، نحن الدول التي تتعرض لاستفزازات وتدخلات بالشأن الداخلي،  نقف مع أنفسنا وقفة صادقة تدفعنا لتفعيل أدواتنا الثقافية والإعلامية لمناقشة وتفنيد وتأطير عمل المنظمات الموجودة بالداخل والسعي لمزيد من الرقابة مع الكثير من فتح فضاءات التعبير الحرة التي تسمح للناس بالمتابعة وممارسة النقد الموضوعي ، والذي من شأنه تسهيل الإجراءات التي تحتاجها الدولة في تبرير اجراءتها التي قد تبدو غامضة أو خشنة في بعض الأحيان لكشف نواياهم على المدى الطويل.
بالأمس الذي ليس ببعيد كان الإستعمار الأوروبي لقارات العالم القديم أمرا أودى بمصير الشعوب لعدم الاستقرار واستحل مص دماءها، وجاءت النسخة البلجيكية في أسوأ صورة من ارتكاب جرائم ضد الإنسانية ، والذي بدأ أيضا من بوابة منظمات المجتمع المدني في . كانت جمعيات مثل لجنة دراسة الكونغو العليا والجمعية الأفريقية العالمية والرابطة الدولية بالكونغو التي انطلقت من بلجيكا تحت رعاية الملك ليوبولد الثاني، قد بدأت بجمع التبرعات لتمويل الرحلات الكشفية للجغرافيا والأهداف الإنسانية النبيلة ، ثم تطورت إلى تجنيد المليشيات حتى تستطيع إخضاع الشعوب عن طريق البطش والتعذيب وقطع أطراف ابناء الرافضين للعمل بالسخرة لدى المستعمر البلجيكي. ولعل الصورة المرفقة لأب يحدق في أيدي أطفاله المقطوعة كعقاب له على تقاعسه عن العمل في إنتاج المطاط لصالح سلطات الاستعمار البلجيكي أبلغ شاهد .

واليوم بلجيكا مع شركاء الإستعمار القديم يقودون اوركسترا تعزف لحن خلود الأقنعة الزائفة وهى المسؤولة عن التحقيق مع الأيادي المرتشية من الأوروبيين ، فهل تقدم على قطع الأيادي قانونيا ، كما كانت لا تتورع في قطعها بحد السيف؟
وهل نُكمل مسيرة الإستماع لسيمفونية الرقي الإنساني الغربي المهترئة إلى النهاية؟