حجاب الشاعر: إعادة قراءة العالم من وجهة نظر أنثوية

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

شيرين أبو النجا 

بزيادة عدد الشعراء الذين انضموا لقافلة السرد الروائى لم تتردد بعض الموضوعات الصحفية من وصف الأمر بأنه «ظاهرة». لكن الشاعر لم يهجر الفن لينتقل إلى مجال آخر فيستحق الأمر وصفه هكذا، بل كل ما فى الأمر أن القصيدة بوصفها فكرة مكثفة لم تسمح له بالاسترسال السردى الذى يشكل حواشى الفكرة، فعمد إلى اجتراح حدود الجنس الأدبى عبورا أو توغلا ليفصل ما أوجزه من قبل. فى رحلة العبور لا يهجر الشاعر مفرداته، بل ينقلها فى سياق جديد فيتسع أفق التأويل ويبقى الخطاب متأرجحا ما بين النثر والشعر. وكأن القصيدة لا تُظهر سوى طرف قمة الجبل فيما تسمح الرواية بكشف الكثير من منه، فالقصيدة هى المخفى والرواية هى بعض الظاهر. 


اشتهر الشاعر المصرى أحمد الشهاوى بقصيدته التى تسبح فى بحار العشق وتقدم نفسها من منظور يستلهم الوجد الصوفى والمفردات التراثية، وتم إطلاق إدراج هذا الشعر اختزالا تحت باب «أدب العشق». راكم الشهاوى قصيدته فى درب مفردات العشق حتى تمكن خطابه الشعرى من تحقيق الذروة عام 2003 فى ديوان «الوصايا فى عشق النساء».

والذى أثار حفيظة التيار المتأسلم فتمت إحالة الديوان عام 2004 إلى إدارة جرائم النشر! لكن الديوان أيضا أثار حفيظة رجال ونساء لم يجدوا فى العالم أى ملاذ آمن سوى الركون إلى التراتبية الفكرية والنفسية التى تجعل من المرأة صورة منظوراً إليها، بما ينزع عنها أى إرادة، ودورها أن تكون معشوقة وليست العاشقة. يوصيها الشهاوى فى ديوانه: «إذا قال لكِ عاشقُك، لا مكان لي.

لا أرضَ لي، فأين أروح، أنا غريب، دوختنى البحار، وأبحث عن ساحل، فلتكن إجابتك: أنا دليلُك، شاطئُك الذى يعصِمُكَ من ضياع، ومصبَاحُكَ المضىء أبداً». التزم الشهاوى «الطريقة» فأسهب شعرا ونثرا فى الدعوة لها، وأصدر الأمر المحبب «كن عاشقا» (2019)، وكتب عن سلاطين الوجد وطرق العشق، التزم وآمن لكن كل مؤمن لابد أن تراوده أسئلة تبطن الشك وتسعى إلى الوصول. 


التعثر على الطريق لن يخرج الشهاوى الشاعر من الطريقة. وفى عام 2020 يصدر ديوان «ما أنا فيه»، والعنوان يحمل دلالات مسكوتاً عنها أو لنقل محذوفة (طبيعة القصيدة). فالعنوان يُحيل على الدعاء الإسلامى الخاص برفع البلاء «يا ولى يا حميد ارفع عنى ما أنا فيه».

لكنه يحيل أيضا على أبيات ابن الوردى «إنْ كنتُ أرضى ما أنا فيهِ / فدعْ أقاسى ما أقاسيهِ / وإنْ يكنْ قلبى مريضاً بهِ / فاسألُ اللهَ يعافيهِ». ازداد ضغط اليومى والمألوف والعادى ولم يتمكن الصوفى المتسامى من دفع البلاء، ويصف الشهاوى ما هو فيه بقوله: «صرْتُ غَيْرِى كَثِيْرًا / مزحومًا بالشياطينِ والمرَدَةِ / وسفَّاكى الدماءِ».

والشياطين اليومية قادرة على سلب الروح وإطفائها ومحاصرتها بالدنيوى الغث. وليس من سبيل سوى الجهاد فى سبيل استعادة الروح المسلوبة، ليس فقط روح الانسان، بل أيضا روح العالم الهمجى المتعطش للدماء والقتل والتدمير.    


ومن أجل استعادة هذه الروح المسروقة أصدر الشهاوى رواية «حجاب الساحر» (2022) والتى تستدعى الكثير من الجرأة ليقدم على كتابتها. فعلى المستوى المباشر للحكاية تعانى شمس حمدى من الآثار السيئة للسحر الأسود والتى يساعدها على التخلص منها عمر الحديدي.

وبالتالى وعلى مدار 330 صفحة يخوض عمر الحديدى رحلة شاقة، مصطحبا معه القارئ، لمحاولة فك السحر الأسود الذى أطفأ روح شمس حمدي. بهذا يتمكن الساحر / الشاعر / الكاتب أن يفتح النص على مصراعيه ليقدم سرديتين متقابلتين ليس بينهما إلا كل عداوة منذ بداية الخليقة.

وأما السردية الأولى فهى كل المعطيات الخارجية التى دفعت زوج شقيقتها إلى اللجوء لأعمال السحر: جشع مادى ورغبة فى السيطرة وسعى إلى الاستيلاء على كل ما هو متاح، ومن أجل ذلك يمكن اللجوء إلى الفضح وتدمير السمعة وإطفاء الروح.

وما كان من السحر الأسود إلا التعتيم على نور روح شمس وإيقاع الأذى بها وفقدانها للبوصلة الحقيقية. بذلك وقعت شمس فى براثن عالم مادي، رأسمالي، أبوي، ذكورى وهو ما يتوازى مع ما وقع لها على نحو مصغر فى شبابها عندما وقعت فى مصيدة المعايير المزدوجة وعدم اتساق الخطاب السياسى مع الأخلاقى لدى الرجال التقدميين. 


وتأتى السردية الثانية لمواجهة كل هذه الأبوية السامة وهى رحلة عمر فى محاولة لإبطال مفعول السحر. تبدأ الرحلة من شمس التى تحاول استعادة قبس من نفسها عبر التوحد مع آلهات مصر القديمة، ثم الهرم الأكبر وغرفة الدفن التى تتجلى فيها ايزيس، والبحيرة المقدسة فى الأقصر.

وكل الرموز الأنثوية الأمومية التى قامت عليها فلسفة العالم والثقافات وإن اختلفت المسميات، وكل ثراء التراث الإسلامى من ناحية الحروف وثقلها ودلالتها، والمعرفة الباطنية، الأحجار الكريمة، أنواع البخور النادرة.

وتنتهى الرحلة فى جزيرة سقطرى اليمنية المعروفة باسم جزيرة السعادة. فكأن قصة شمس حمدى والسحر الذى تعانى منه ليست إلا تقنية سردية تسمح للكتب بفتح النص على مصراعيه من أجل تحرير الروح التى وقعت أسيرة فى يد ذكورية رأسمالية تكاد تقضى عليها.  


لا تعتبر شمس حمدى (العاشقة والمعشوقة) هى المحور الرئيسى للسرد، بل إن وجودها هو الدافع والمبرر الدرامى الذى يدفع «الساحر» الى إعادة قراءة العالم من وجهة نظر أنثوية يمكنها أن تعيد التوازن- أو قليل منه- لعالم فقد حواسه وبصيرته تحت سلطة الأب.

ويخوض عمر الحديدى رحلته الشاقة ليستعيد البصيرة لعل الله يرفع عنه بلاء ما هو فيه. وإذا كان العالم قد فقد بصيرته وتحول إلى آلة دمار بالرغم من تشبث السلطة الأبوية بالعقل والمنطق الظاهر، فإن عمر الحديدى الساحر يلجأ إلى الباطني، المهمش، المسكوت عنه، الأنثوي، فيسعى إلى استعادة ما رفضه الأب وأطلق عليه سحر وشعوذة وألصقه بثقافة النساء من باب التحقير.

فكل ما ينتمى للطبيعة ولا يمكن السيطرة عليه يقترن بالنساء وأدوارهن فى حين تتحول الثقافة الظاهرة والعقل الواعى إلى مساحة للرجال وهو ما تناولته الباحثة الأنثروبولوجية شيرى أورتنر فى عام 1974 فى مقالها الشهير «هل المرأة بالنسبة للرجل كالطبيعة بالنسبة للثقافة؟» يستعيد الساحر كل السرديات الثقافية المهمشة بوصفها فى درجة أدنى.

ويُعيد لها الاعتبار عبر تتبع مسارها ومنشأها والكشف عن جذورها اللغوية، والفلسفية، والثقافية، والدينية. ويُضفر كل ذلك فى منظومة واحدة- لا يمكن أن تستوعبها القصيدة- قادرة على إعادة بعض التوازن لعالم فقد عقله.

وفى رواية «حجاب ساحر» ينتشل الشهاوى سردية الأنثى هى الأصل من النسيان والوصم بالتخلف والخرافة أملا فى استعادة الروح المسلوبة. تتوارى أهمية شمس ولا يعد يهم اسمها سواء كانت ايزيس أو سخمت فتقول: «عدت من مرقدى لزمنكم لأبعد الشر، وأشيع السلام.

وأجمع ما تناثر أو تفرق على هذه الأرض، التى تستحق أفضل مما هى عليه الآن». يبدو التواصل واضحا بين الخطاب الشعرى لديوان «ما أنا فيه» عام 2020 وخطاب شمس فى 2022، وهو ما يؤكد أن شمس ليست إلا أحد الأقنعة الشعرية لابتلاء الصوفى وهو ما يدفعه إلى انتشال المنسى والمخفى من أجل ضرب حجاب بينه وبين الغث اليومى. 

اقرأ ايضا | حكايات| المدينة الملعونة.. جمال حوله «السحر الأسود» إلى وطن للأشباح