كنوز| في ذكرى ميلاده الـ94.. «السعدني» يروي حكايته مع نجيب محفوظ

محمود السعدنى يصف صديقه نجيب محفوظ بـ «عمى وتاج راسى»
محمود السعدنى يصف صديقه نجيب محفوظ بـ «عمى وتاج راسى»

في 20 نوفمبر 1928 جاء عمنا الكاتب الساخر محمود السعدنى إلى الدنيا ليشاغب فيها وتشاغب فيه، لو كان موجودا بيننا الآن لكان قد احتفل مع محبيه بالشمعة 94، ولا يفوتنا أن نضيء له تلك الشموع فى ذكرى ميلاده تقديرا لقامته الصحفية وقلمه المتفرد فى بلاط أمبراطورية السخرية التى كان يتمتع بها عندما يكتب وعندما يحكى، ونقدم فى ذكرى ميلاده نقلا عن صفحة «الساخر الكبير محمود السعدنى» المقال الذى قدم فيه آيات الشكر لنجيب محفوظ، تناول فيه رحيل الفنان أبو العينين، وبعضا من أبناء جيله، تعالوا لنرى ماذا يقول:

«سيدنا وعمنا وتاج راسنا نجيب محفوظ، سيد كتاب الرواية فى كل أرجاء الأرض، شرفنى وطوق عنقى بتصريحه الرائع الذى سيكون شفيعى يوم القيامة وجواز سفرى إلى جنة رضوان بإذن الله، قال عمنا وتاج راسنا نجيب محفوظ لمجلة «أخبار الأدب» التى تصدر عن دار «أخبار اليوم»: «لقد انزعجت جدا عندما قرأت خبرا يقول بمثول الأديب محمود السعدنى أمام النيابة للتحقيق معه بعد أن قدم محافظ الجيزة بلاغا ضده، وقال إنه يحترم الإجراءات القضائية ويجلها، وفى الوقت نفسه يعرب عن شعوره العميق بالأسى لمثول كاتب كبير متميز مثل محمود السعدنى أمام النيابة، وقال إن السعدنى كاتب ساخر والسخرية لها مساحة من الحركة أوسع وأشمل، وقال إنه يجدد احترامه للسعدنى ومحبته العميقة له ككاتب وإنسان». 

شكرا عمنا الكبير نجيب محفوظ، تكفينى كلماتك عن جائزة الدولة التقديرية التى ذهبت إلى من لا يستحقها أكثر من مرة، وهى خير تعويض للعبد لله عن سنوات السجن التى ولت، وعن سنوات السجن التى فى ضمير الغيب، كلمات عمنا نجيب محفوظ صفعة على وجه كل موظف مغرور، وكل مستخدم منتفخ الأوداج، والغريب أن رئيس الجمهورية أكثر تواضعا من بعض القيادات الوسيطة، ورئيس الوزراء يتعامل مع الناس كفرد من أفراد الشعب، وأذكر أن أحد كبار صغار الموظفين تأخر عن حضور اجتماع لبعض القيادات الشعبية، وبالرغم من أن السيد إياه هو الذى دعا للاجتماع إلا أنه حضر متأخرا لمدة ساعتين، وحدثت مشادة بينه وبين بعض النواب، وهمست فى أذنه بأن من أهم واجباته احترام الناس، ولحظتها أدركت الوكسة التى ستحل به عندما اكتشفت أنه ليس موظفا ولكنه «متولى» وهى وظيفة اختفت منذ سقوط دولة المماليك، إذ كان المتولى فى عهد السلطان برقوق هو الذى يوجه الاتهام، وهو الذى يقوم بالتحقيق، وهو الذى يباشر نظر القضية، ثم يقوم بعد ذلك بإصدار الأحكام، ثم يتولى تنفيذها بنفسه!

ولكن.. طالما أن الأمة يوجد فيها أمثال عمنا نجيب محفوظ، فلا خوف من سيطرة وغطرسة السادة المستوظفين من طبقة المتولى، وإذا كانت كلمات عمنا وتاج راسنا نجيب محفوظ قد أحدثت فينا الأثر نفسه الذى تحدثه زجاجة مياه باردة فى يوم صيف قائظ، وبقدر ما أسعدتنا كلماته فقد تألمنا كثيرا لرحيل الفنان العظيم والصديق الكريم عبد الغنى أبو العينين، أحد أضلاع المثلث الذهبى «حسن فؤاد وجمال كامل وأبو العينين» والثلاثة العظماء من أبناء جيلى ذهبوا إلى رحاب الله، ولكن الذى يعزينا عن فقدهم أن الزمان مضى بهم ولكنه لم يمض عليهم! فالأثر الذى تركوه فى نفوس الأصدقاء والمعارف أشبه بأخدود شق بطن الأرض وليس له التئام، بدأت صلة العبد لله بالفنان أبو العينين فى بداية الخمسينات، كنت أعمل محررا فى مجلة أسبوعية باهتة، أمدها بالأخبار والتحقيقات، وفى الوقت نفسه أعمل فى «روزاليوسف» بالقطعة، وخلال زياراتى المتقطعة لروزاليوسف كنت أختلس بعض الوقت للحديث مع جمال كامل، وأحيانا يحضر أبو العينين وينضم لجلستنا، لم يكن يجلس طويلا لأنه كان مشغولا جدا، يذهب ويجىء كالمكوك من مكتب إحسان عبد القدوس إلى مكتب جمال كامل إلى صالة التحرير التى تضم جميع المحررين، كانت مسئوليته أكبر من سنه، وكان يعانى صراعا شديدا بين مهنته وفنه، كانت الصحافة مهنته والرسم فنه، وكان اجتهاده فى فنه يرشحه لمكان فى الصدارة، لكنه كان يعشق مهنته إلى حد الجنون، وكان على استعداد لكى يمنحها ليس وقته وحياته أيضا، ولذلك كانت صدمته شديدة عندما تلقى خطابا من الدار الصحفية التى يعمل بها فى اليوم نفسه الذى بلغ فيه الستين تبلغه فيه شكرها العميق على تعاونه المثمر خلال الفترة السابقة، وتعتذر له عن عدم استطاعتها تجديد عقده، مع أن القانون كان يسمح بذلك، ولكن إذا كانت الدار الصحفية قد استغنت عن خدماته فقد احتضنته مجالات أخرى أبدع فيها وأجاد وحلق بفنونها إلى آفاق عالية، عاد أبو العينين إلى المسرح الشعبى وفرق الرقص الشعبية، إلى عالم الإبهار بالملابس والألوان، لكنه ظل يحلم بدار صحفية تهتم بالفن أكثر من اهتمامها بالأحاديث والمقالات، وفى سنواته الأخيرة اهتم كثيرا بفن الموسيقى والغناء، وكان لا يكف عن توصية أصدقائه بالشباب الصاعد من المطربين والمطربات، كان يرى أن أصوات الاستنكار التى تتصاعد ضدهم من هنا وهناك، تشبه أصوات الاستنكار التى تصاعدت ذات يوم ضد ظاهرة عبد الحليم حافظ من جانب سميعة صالح عبد الحى ومنيرة المهدية وأبناء جيلهما. 

اعتكف الفنان أبو العينين ولزم داره، كان قد تجاوز السبعين وإن كانت حقيقته لا تدل على أنه تجاوز الستين، سقط فجأة فريسة للمرض الخبيث، واجهه بشجاعة وعزيمة من حديد، ظل الصراع بينهما يشتد حينا ويهدأ حينا، وعندما جاء الوقت أغمض أبو العينين عينيه ورحل من دنيانا ليلتحق بزميليه جمال كامل وحسن فؤاد، وداعا عمنا الكبير أبو العينين، لم تجد الوقت ولا الفرصة لكى تبرز فنك، حالة ينطبق عليها مقولة عبد الرحمن الخميس «أنا لا أجد الوقت لكى أعزف على قيثارتى لأننى مشغول طول الوقت بالدفاع عنها»، كل أبناء جيلى واجهوا هذه المحنة وعانوا منها، بالرغم من مواهبهم الفذة إلا أن طريقهم لم يكن سهلا والهواء حولهم لم يكن نقيا، بعضهم غاب خلف جدران السجون، والبعض الآخر غاب خلف جدران اليأس والإحباط، وبالرغم من ذلك، واصل الجميع التقدم وتمكن بعضهم من تحقيق بعض الأهداف، مسكين جيل العبد لله المطحون، بدأ أفراده يختفون واحدا وراء الآخر، أبرزهم كانوا السابقين «يوسف إدريس، صلاح حافظ، صلاح عبد الصبور، صلاح جاهين، حسن فؤاد، جمال كامل، عبد الحليم حافظ، بليغ حمدى، محمد الموجى، واخيرا عبد الغنى أبو العينين»، عزاؤنا الوحيد فى فقد أبو العينين أن تلاميذه الذين يحملون رسالته منتشرون الآن فى كل مكان، وأملنا أن يبرز من بينهم أبو العينين آخر يكمل رسالته دون عقبات أو إحباطات.

أذكر أننى بعد الإفراج عنى من سجن الواحات وفى سهرة مع أبو العينين حكيت له تفاصيل وقائع ما جرى للعبد لله خلال فترة السجن، فوجئت به يقول «أنت محظوظ، حظك أطيب مائة مرة من حظ أستاذك كامل الشناوى، لأنك عانيت فى شبابك بينما عانى هو فى كهولته وشيخوخته، ما يصيبك فى شبابك يدفعك إلى الأمام، وما يصيبك فى شيخوختك يكسر ظهرك ونفسك ويجعلك أشبه بطير ضعيف مقصوص الجناح»، ومن حسن حظ أبو العينين أنه لم يذق طعم الحبس فى شبابه أو شيخوخته، لكنه عانى ما هو أخطر من الحبس خلف الأسوار، عانى من الإحباط والاكتتاب، كان يقضى أسابيع حبيس حجرة نومه ساهما محدقا فى سقف الحجرة كأنه ينتظر معجزة تهبط عليه من السماء، والتقيته مرة فى أثناء نوبة من نوبات الإكتئاب، صرخت فى وجهه بعبارة الفنان حسن فؤاد «انت ها تناملى واللا ايه؟»، ضحك رغم مرضه وقال «حسن فؤاد كان متخلفا، عبارة انت ها تناملى أصبحت موضة قديمة، العبارة المناسبة الآن «انت نمت خلاص»، لأن النوم أدركنا الآن بالفعل وشخيرنا يتصاعد إلى الفضاء»، عبارة «انت ها تناملى» لحسن فؤاد كانت متفائلة، لأن «ها» تعنى أن النوم سيصيبنا فى مستقبل الأيام، وهى حالة تختلف عن الحالة التى نحن فيها الآن». 

وداعا عمنا أبو العينين.. أخيرا حررك الموت من الإحباط والاكتئاب، الموت يكون أحيانا راحة لنا من كل شر.

محمود السعدنى - 22 أبريل 1998

اقرأ أيضا | كنوز| «علقة» ساخنة للولد الشقي ووالده المزيف!